السلام عليكم ورحمة الله كيف حالكم جميعًا.. شكرًا للعضوة @لولا التي أهدتني هذا الطقم الرائع وكم شعرتُ بامتنان لها لأنها تذكرتني وتذكرت روايتي الطقم الأساسي من صنعها وأجريتُ فقط بعض التعديلات بمساعدة ويمي^^ هذا الفصل أظن أنه مليء بالأخطاء لم أراجعه بشكل كاف فاعذروني لكن كما وعدتكم يوم السبت يجب أن يكون هناك فصل رواية عيون لا ترحم [13] حفل زفاف. -1- [نور] تسمّرتُ مكاني وأنا أسمع صوت أمي يهمس في أذني: إلى هنا ويكفي يا نور.. لقد رأيتَ ما لا يصلح لك رؤيته! ابتلعتُ ريقي ببطء وأنا ما زلتُ أشعر بالذهول، أمي.. تضع المسدس على رأسي الآن؟! لحظة.. أهذا يعني.. أن ذلك الطفل كان مخطوفًا فعلًا! وأن أمي تملك بالفعل مسدسا! وأن كل تفسيراتها لقصة الطفل كانت كذبًا! حاولتُ أن أقول بلهجة مُرتعشة: هكذا.. إذن كنتِ تكذبين عليّ يا أمي!! أخبريني إلى أيَ عصابة تنتمين إذن؟! ضحكت أمي ضحكة عالية، فخرج غضبي علانية وأنا أقول: أخبريني كم أخذتِ فدية مقابل إرجاع فيتال؟ قرّبت أمي ابتسامتها من رقبتي حتى أحسست بأنفاسها، وقالت بغموض: خمّن أخذتُ كم برأيك؟ سكتتُ وأنا أعقد حاجبيّ بانفعال وأنفاسي تتسارع في صدري، فقالت أمي: سأجيب بدلًا عنك.. ثم أكملت وهي تضغط زناد الأمان استعدادًا للإطلاق مما جعل عيناي تتسعان بذعر: أخذت مبلغًا يساوي حياتك تقريبًا يا نور..! وأطلقت النار..! - لحظة ..! أمي أطلقت النار فعلا! وشعرت بألم حقيقيّ في صدغي! لكن شعرت أيضًا بشيء يلتصق بصدغي..! مددت يدي لألمس ذلك السهم الصغير البلاستيك اللعبة الذي كان ملتصقًا! مع صوت أمي وهي تمسك بطنها وتبدأ بالضحك بشدة وهي تقول من بين ضحكاتها: يا إلهي يا نور! هذا ثاني مقلب أفعله فيك اليوم وأنت تصدقني! شعرت بغضب شديد ونزعت السهم اللعبة من صدغي وأنا أقول بانفعال: هذا ليس أمرًا مضحكا يا أمي!! لقد أوقعت قلبي حقا هذه المرة!.. ألا تشعرين بأي تعاطف معي؟ أنا ابنك! ظلت مستمرة في ضحكاتها وهي تمسح دمعات من عينيها وتجلس على الأريكة ثم تهدأ قليلًا وتنظر إلى وجهي المنفعل الغاضب ثم قالت: آسفة يا نور ..لكنك تصدق كل شيء على أعصابك بجدية شديدة.. شددت على قبضتي بضيق وأنا أشعر بأن أمي تستهزء بي! من الجيد ان المسدس ليس حقيقيا هذا يثبت أن أمي كانت صادقة نوعًا ما! ربما رأى فيتال المسدس فظنّه حقيقيًا وبهذا خاف وظنّ نفسه مخطوفًا وألّف تلك القصة! لكنني ما زلتُ مستاءً من أمي، هتفتُ بانهيار: لن أسامحك يا أميّ.. أنتِ تحبّين التلاعب بأعصابي! ظلّت تضحك فسألتها بحدة: ثم لماذا تحملين مسدسًا لعبة في سترتك؟ هدأت ضحكاتها هذه المرة تماما وقالت بابتسامة: كنت أنوي إعطائه لك هدية يا نور! فأنا أعلم أنك تحب الروايات البوليسية.. وقلت سيعجبك هذا المسدس الذي يشبه الحقيقي إلى حد كبير. لم يعجبني الأمر وقلت بضيق: كلا يا أمي لست محتاجا لهدية كهذه! ووضعت السهم اللعبة في حجرها وخرجت من غرفتها غاضبًا. وقفت خلفي ولحقتني وأمسكت يدي وهي تقول بأسف صادق: صدقني يا نور لم أقصد إغضابك! لكن أنت تعلم أنني أحب صنع مقالب فيك لرؤية ملامحك المرعوبة. ابتسمت بداخلي في سخرية، أهناك أم تقول لابنها إنها تحب رؤية ملامحه المرعوبة!! أي أم أنت يا أمي!؟ لم أرد عليها بأي كلمة وأنا أطرق برأسي إلى الأرض بصمت، فقالت تحاول استرضائي: وكبرهان على صدق نيتي يا عزيزي.. سأضاعف لك مبلغ عدد الساعات الذي قضيتها مع فيتال اليوم! ما رأيك؟ سكتت ثم قلت على مضض: موافق يا أمي! رفعت يديها من على كتفي وصفقت في مرح: أنت سهل الإرضاء حقا يا نور! أحب هذا النوع من الأشخاص. سمعنا طرق الباب فذهبت أمي لتفتح، دخل بوارو بإرهاق وهو يمسك في يديه بضعة ملفات ودخل ليجلس إلى مائدة الصالة وهو يسلم علينا، أغلقت أمي الباب وهي تتجه لتجلس بجانبه على الطاولة قائلة: أوه يا عزيزي لم تأخرت لهذه الساعة؟ ألا ينتهي عملك في الثامنة؟ أجابها وهو يضع الملفات على الطاولة ويرفع رأسه بوجوم: نعم صحيح. ثم أضاف بشرود: لقد تأخرت لأنني ذهبت إلى المستشفى. وضعت أمي يدها على صدرها وهي تقول بقلق: مستشفى؟!! لماذا أهناك شيء ما أتعبك؟! ابتلع ريقه وتهرب بنظراته من وجهها وهو يقول: كنت أريد معرفة سبب الإرهاق المستمر الذي أشعر به معظم الوقت. فقالت أمي وعلى وجهها الإشفاق: هذا بالطبع لأنك تتعب في العمل! لقد أخبرتك يا عزيزي أن تغيره لعمل سهل عليك قليلا..! فكما تعلم أنت تكبر في السن ويصبح العمل اليدوي شاقا عليك. استمع لها بوارو بهدوء ظاهري ثم قال: هل نسيت أني مشرف على العمّال الآن؟ عملي لا يتطلب الجهد البدني الذي كنت أفعله في بداية شبابي لذلك المفترض أن يكون أسهل علي الآن! فقالت بحنان وهي تضع يدها على كتفه: لربما تحتاج لراحة واستجمام لفترة أكثر من يومين! المهم أخبرني هل كشفت؟ تغير وجهه قليلا وهو يقول: لقد كشفت بالفعل.. وطلبوا مني بعض التحليلات وقمت بها فعلًا. ثم غطى وجهه بكفيه وسكت.. كنت واقفًا طوال الوقت أراقب الحوار! وجدت أمي تمسح على ظهره برفق وهي تقول باهتمام شديد: وما هي نتيجة التحاليل يا بوارو؟ أكل شيء على ما يرام؟! لم يرد عليها بوارو وإنما رفع وجهه بعينين دامعتين فجأة وقال بصوت متهدج وهو ينظر الى وجه أمي: سرطان يا سارة..! سرطان في الدم... وفي مرحلة متأخرة أيضا! - في تلك اللحظة.. سكت كل شيء في الصالة ما عدا بوارو الذي أجهش بالبكاء وهو يضع رأسه على المائدة، في حين كنت أنا لا أزال واقفًا بذهول أنظر الى أمي الذي اتسعت عيناها عن آخرها وهي تضع يدها بشرود على ظهره وتقول بابتسامة بلهاء: مـ... ماذا؟! ... أنت تمزح يا بوارو! صحيح؟! لم يرد عليها بوارو واستمر في بكاءه الذي يحاول أن يكتمه أكثر حتى لا تستيقظ إيلين فقالت أمي وهي على وشك الانهيار وقد أمست يدها تهز كتف بوارو بقوة: هيا أخبرني أنك تمزح معي! أخبرني أنه مقلب تفعله فيّ كما أفعل أنا في نور دائما! أرجوك أخبرني ذلك يا بوارو أرجوك! صرخ بوارو وهو يرفع رأسه باكيا: إنها حقيقة يا سارة! أنا في مرحلة متأخرة من السرطان! وهناك احتمال كبير أن تنتهي حياتي في غضون شهور قليلة! نظرت أمي إليه بذهول لبضع ثوان ثم انفجرت باكية هي الأخرى وهي تضع يدها على فمها لتكتم صوتها! كان موقفا صعبًا علي للغاية أكبر من أن أتحمله..! وضعت يدي على خدي لأفاجأ بالدموع التي انهمرت دون إذن مني! نظرت إلى غرفة إيلين، كان بابها مفتوحا فأغلقته بسرعة حتى لا تستيقظ فزعة على صوت بكاءهم العالي هذا..! ثم مشيت حتى وقفت خلف أمي وسألتها بصوت مرتجف: أمي.. ماذا.. يعني... السرطان؟ أهذا يعني.. أن بوارو سيموت حقا؟! التفت أمي إليَّ بوجهها المحمر ودفعتني لأجلس وسطهم على المائدة واحتضنتني بقوة إلى صدرها وهي تكمل نحيبها.. وشعرت ببوارو أيضا يحتضننا معا، وصوت بكاءنا نحن الثلاثة جعلني أتاكد وبشدة، من أن هذه مصيبة حقيقية! كنت أتمنى لو كان بوارو يفعل فينا مقلبا أو حتى تقول أمي إنها اتفقت مع بوارو على فعل مقلب ثنائي علي..! لكن لم يتكلم أحد فيهم بذلك! بوارو هو زوج أمي.. ليس بيني وبينه مشاعر أبوية لهذه الدرجة لكنه... لكنني أشعر الآن أنه بالفعل لطالما كان في مقام أبي وصديقي وأخي الكبير.. فهو الوحيد الذي كنت أحظى معه بجلسات حوار هادئة وممتعة.. يعطيني دوما الثقة في أنني شاب يعتمد عليه ويشعرني دوما بالاستقرار.. و هو الرجل الوحيد في هذا المنزل وكثيرًا ما شعرتُ بأن لدينا اهتمامات رجولية مشتركة مختلفة عن أمي وإيلين، وبالتاكيد أخذت منه الكثير دون أن أشعر، وقلدته وكأنه والدي بالضبط. لا أستطيع التفكير بأن وجوده في هذا المنزل... من الممكن أن أفقده في أي لحظة في الأيام القادمة! -2- [باسل] اليوم هو الخميس، حفل زفاف مُربّية قمر، وإن كانت علاقتي بها سطحية نوعًا ما ولكنها امرأة طيبة جدًّا، وحنونة للغاية، كانت تعاملنا جميعًا كما لو كنّا أبنائها أو إخوانها الصغار، وليس قمر وحسب. لذلك نعم أنا سعيد بكونها ستتزوج، وفي نفس الوقت أشعر بقلق على مصير قمر بعد ذلك لأن جميعنا يعلم أنها أكثر من يتعلق بها، وإن كنت أظن أنها فتاة قوية وستتحمل. ابتسمتُ لنفسي في المرآة وأنا أعدّل ربطة عنقي الحمراء التي كانت على شكل فراشة صغيرة، وأتأمل حُلّتي الفاخرة السوداء بإعجاب.. امم لستُ معجبًا بنفسي بل بالحُلّة بالطبع! مررتُ شعري الناعم إلى الوراء كلمسة أخيرة وخرجتُ من غرفتي، لأهبط درجات السلم وسط ذلك المهرجان في الخارج.. نعم فحفل زفاف أماني في منزلنا! لقد عرض عليها أبي أن يقيم حفل زفافها هنا، في حديقة الفيّلا الخارجية، كهدية أخيرة منه قبل رحيلها ومنذ عدة أيام كانت التجهيزات على قدم وساق لتزيين الحديقة وسور الفيلّا ووضع الطاولات والكراسي الأنيقة وتجهيز (كوشة) للعروسين في منتصف الحديقة تمامًا. ويبدو أنهم قد انتهوا تقريبًا من إعدادها.. فالعروسان سيصلان بعد ساعة واحدة. كنتُ في طريقي متجها إلى بوابة الفيلا الداخلية، الحفل سيكون بالخارج فقط، لكن هذا لا يمنع أن ضوء صالة المعيشة مُضاء بطريقة خافتة لكي تستطيع صفية وريهام مساعدة المسؤولين عن الحفل في أي شيء يحتاجونه للتجهيز. انطلقتُ إلى الخارج وتمشيتُ أمام كوشة العروسين وأنا أنظر إلى الطاولات الأنيقة التي بدأت تمتلأ بالمدعويين، الذين بدأو يتحدثون بشكل صاخب نوعًا ما وهم يستمعون إلى الموسيقى الهادئة، وهناك نُدُل (جمع نادل) يقدّمون لهم العصائر والحلويات الخفيفة، تجاوزتُ كل أولئك وأنا أبحث بعينيّ عن فتاة محددة.. فتاة أرغب برؤيتها الآن بشدة! فوجئتُ بها جالسة لوحدها على آخر طاولة بين الطاولات.. آخر طاولة بعيدة تمامًا عن أضواء الحفل، لذا كان الظلام يغطّيها.. كانت جالسة تعطينا ظهرها ووجهها إلى الشجر.. صحيح لم أر وجهها لكنني استطعت الشعور بهالة الحزن التي تحوم حولها! كما توقعتُ! حالتها يُرثى لها، شعرتُ بإشفاق شديد عليها وهممتُ بالذهاب لأجلس بجانبها على الطاولة أواسيها.. لولا أنني رأيتُ أحد الأولاد.. يقف على مقربة منها بالخلف ويحدق إليها بهدوء. من هذا الوغد الذي يجرؤ على التحديق بقمر بهذه الطريقة؟ اقتربتُ منه حتى تعرفتُ ملامحه من الجانب، إنه بدر.. ابن رجل الأعمال رشد المنياوي صديق أبي. وهو في نفس سنّ قمر، أعرف أنه ولد مستفز دومًا ما يُلقي بأنفه في شؤون قمر كثيرًا! على الرغم من أنه ليس له علاقة بها!.. هذه المرة أنا متأكد أن أبي قد دعى صديقه رشد ذلك لحضور الحفل وبطبيعة الحال أتى هذا المزعج! وضعتُ يدي على كتفه وقلتُ: مرحبًا.. أنت بدر صحيح؟ التفت إليّ بهدوء لأرى وجهه الذي يحمل ملامح بريئة وعينين سوداويتين كاحلتين، وشعره المموج الذي تحرّك عندما التفت إليّ بسرعة، نظر إليّ لعدة ثوان ثم ابتسم قائلًا: نعم.. أهلًا بك يا باسل، كيف حالك؟ قلتُ باقتضاب: بخير. ثم دخلتُ مباشرة في الموضوع وأنا أسأله: لماذا تقف هنا؟ عقد حاجبيه ووجهه يحمل الهمّ وهو يُشير إلى ظهر قمر هامسًا: قمر تبدو كئيبة اليوم بالنسبة لحضور عرس كهذا..! انظر إلى بقية الأطفال والبنات الصغار الذين يرقصون أمام الكوشة ويمرحون! هذه اللحظة شعرتُ بقلبي يؤلمني أنا أيضًا وأنا أنظر إليها بدوري وأقول بألم: لا تنس أن أماني مثل أمّها تمامًا! تخيّل أنت أن تتزوج أمك! هزّ رأسه في تفهم ثم التفت لي قائلًا في فضول: بالمناسبة يا باسل أين أمّ قمر الحقيقية؟ سكتتُ لبضع ثوان قبل أن أقول وأنا أهزّ كتفي: لا أدري حقا!.. لكن ما سمعتُه أن أمّها تُوفيت وهي في الثانية من عمرها، أي أنها كانت ما تزال رضيعة، وبعدها بثلاث سنوات فقدت والدها أيضًا.. الذي هو عمّي آسر! ظهر على وجه بدر الأسى وهو يقول: مسكينة حقا! نوعًا ما زالت غيرتي أمام مشاعر العطف والشفقة المتدفقة التي غمرت كلانا ونحن ننظر إلى ظهر قمر. " أنصحكما ألا تغلبكما العاطفة! فقمر التي أعرفها أقوى من كليكما!" سمعتُ هذا الصوت من الشجرة التي تقف خلفي، فالتفتُ بدهشة لأرى ذلك الفتى الذي يجلس بلا مبالاة على أحد أغصانها القويّة، وتعجبت كيف تسلقها دون أن يظهر أي أثر على وجهه وملابسه، فقد كان يرتدي حلة زرقاء فاخرة ونظيفة كان لونها مناسبًا لبشرته السمراء وعينيه الخضراويتين.. أخذ تفاحة من الشجرة وظل يقضمها بدون اهتمام بعد أن ألقى جملتُه علينا، عرفتُه على الفور وقلتُ بعصبية: عبيدة.. كيف دخلت إلى هنا؟ نظر إليّ بهدوء وقال: من البوّابة كما دخل الناس! قلتُ بغضب: كيف سمحوا لك بالدخول وأنت لا تملك بطاقة دعوة أيها المتحذلق!.. فنحن لا نتشرف بدعوة مثلك إلى منزلنا.. فوجئت ببدر يضع يديه الاثنتين على كتفي وهو يواجهني قائلًا: رويدك يا باسل.. أنا من دعوتُ عبيدة إلى الحفل! فهو صديقي..وقد سمح لي أبي بدعوة شخص واحد من أصدقائي إلى الحفل وقد اخترتُ عبيدة. هل فهمت الآن؟ اتسعت عيناي بدهشة وأنا أردد: أنت من دعوته يا بدر؟! كيف تدعو شخصًا بلطجيا كهذا إلى هنا؟ ظهر على وجهه الإحراج عندما رمقه عبيدة بنظرة باردة، فقال بدر وهو يضم يديه أمام وجهه بتوسل قائلًا: أرجوك يا باسل. اهدأ هذه المرة واتركها عليّ.. عقدتُ حاجبيّ بغضب وأنا أكتم غيظي وأقول: حسنًا لا بأس.. سأسكت هذه المرة فقط لأجل فرح أماني! "لماذا عبيدة هنا؟!" التفت أنا وبدر إلى الخلف متفاجئين بصوت قمر الذي قاطعنا، كانت تقف خلفنا بهدوء ويبدو أنها انتبهت لنا بسبب صوتي العالي مع عبيدة..! كانت ترتدي فستانا أبيضا جميلًا، وشعرها الناعم يلتف حول وجهها بنعومة. وبرغم الحزن الجلي الذي كان في عينيها الملونتين إلا أنها بدت رائعة حقا! ويبدو أن بدر كان يقف بجانبي يتأملها كذلك! شعرتُ ببعض الغيرة مع لمحة الانبهار التي ظهرت في عينيه! لاحظتُ أننا لم نرد على سؤالها بعد وهممت بالرد عليها، لكن عبيدة سبقني وهو يقفز من الشجرة ويقترب منها قائلا في سخرية: ولماذا يزعجك وجودي هنا؟ شعرت بغضب وخطوتُ بسرعة لأقف حائلًا بينه وبينها وأنا أقول: لا تشغلي بالك به، فقد دعاه بدر إلى الحفل. لكن هذا لا يعني أنني سأسمح له بالاقتراب منك أبدًا! سمعتُ قمر من ورائي تردد بلهجة استغراب تهكمية: تسمح...! ثم سمعت صوت خطواتها وهي تبتعد قائلة: اعذروني.. لكنني لست أملك الوقت لكم! فأماني ستصل بعد قليل. شعرت بإحباط رهيب وأنا التفت لها وأنظر إلى هيئتها وهي ترحل من المكان وتتجه إلى بوابة الفيلا، التفتُّ إلى عبيدة بعدوانية وقلت: إنه بسببك! لا شك أنها لم ترغب في الوجود في نفس المكان الذي تقف فيه. -3- [قمر] "والآن حان وقت توديع العروسين" كنت أقف بجانب أماني في الكوشة عندما قال المسؤول عن الحفل ذلك. وكنت قبل قليل أجلس بين العروسين تماما! ورغم أن منصبي ذاك (منصب الوصيفة المُقرّبة من العروسين) كان يحسدني عليه جميع الفتيات اللواتي حضرن الحفل، إلا أنني لم يبدو على وجهي أدنى شعور بالسعادة لحصولي على منصب كهذا. أماني كانت أروع عروس وقعت عليها عيناي حقا! أماني تملك شعرًا أسودًا مموجًا طويلًا جمعته كله على شكل كعكة في الخلف في تسريحة مشهورة للعرائس، وكانت تضع فيه الورود الطبيعية واللآلئ بتناسق عجيب مُبهر، لكنها غطت كل هذا بطرحة الزفاف البيضاء اللامعة، والتي أظهرت وجهها الصبوح الناعم أكثر وأكثر مع مساحيق التجميل الرقيقة التي أضفت لوجهها سحرًا رائعًا. أماني كانت تمسك بيدي طوال الوقت و جميل زوجها كان كذلك طيبًا جدًّا ولطيفًا معي إلى أقصى حد! صحيح أنني شعرت بسعادة عارمة وأنا أضحك في أثناء رقصي الطفولي مع العروسين _والذي لم يكن سوى دوران حول نفسي بالمناسبة_، مع أنني لم أكن معتادة على هذا الجو إلا أن نظرة أماني الراجية لي جعلتني أوافق على كل فقراتها التي أعدتها بنفسها من أجلي ومن أجل أن يكون حفلها من أجمل الذكريات التي نملكها لبعضنا. والآن اقتربت اللحظة التي سأضطر فيها لتوديع أماني إلى الأبد! قمر لا تكوني متشاءمة فلا زالت هناك الكثير من الفرص لنتقابل! كان هذا صوت ضميري السعيد الذي يدعوني إلى الفرحة..هيا يا قمر فلتضحكي ولتجعلي أماني تضحك بدلا من إبكائها في يوم زفافها! لقد اتفقت مع نفسي على ذلك بالفعل، لا أريد أن اقلب زفاف أماني أحب إنسانة إلى قلبي إلى حفلة بكاء ونكد! سوف أحافظ على ابتسامتي الثابتة إذا جاءت لتوديعي. كان العروسان يتمشيان بوداعة في ممر طويل مفروش بسجادة أنيقة طويلة حتى بوابة الفيلا الخارجية، وسط موسيقى هادئة وتهنئات الحضور التي كانت عبارة عن ورود مجففة تتساقط عليهما تارة وعبارات تهنئة عالية مفعمة بمشاعر متدفقة من أهل العروس أو العروسة تارة أخرى! أما أنا فكنت أمشي وراءهما وأنا احمل ذيل فستان أماني. كنت أحاول التغلب على ملامح الحزن التي تكاد تظهر على وجهي وعيناي الدامعتين غصبا عني، وحاولت إشغال نفسي بالنظر إلى أوجه الحضور على اليمين واليسار، وهنا لمحت وجه عمي بينهم.. ابتسم عندما رآني ولوّح بيده لي! أشحت وجهي بسرعة عنه بانزعاج، ألم أجد إلا وجه عمي أراه لأشغل نفسي؟ تبا! ابتلعت امتعاضي وأكملتُ طريقي محاولة رسم تلك الابتسامة المصطنعة على وجهي، فلن ترضى أي عروس أن يكون من يجر ذيل فستانها طفلة عابسة الوجه مثلي! وجاءت تلك اللحظة الحاسمة، لحظة توديع أماني لأهلها قبل ركوبها سيارة العروسين، كانت تسلم على أهلها بالضحكات وكنت أقف شاردة أنظر إلى وجه أماني وهي تضحك بقوة في حضن والدتها العجوز. وعندما جاء دوري انحنت أماني قليلًا لتصبح في مستواي وقالت بلهجة رقيقة: والآن يا قمر، ادعي الله لي بأن يبارك لنا! أومأت برأسي بصمت والغصة تتصاعد في حلقي، فابتسمت بعطف وهي تقول: هيا ألن تسلمي علي؟ وأحاطتني بذراعيها لتحضنني بقوة، أمسكت دموعي بحزم شديد واكتفيت بالدموع التي ظلت حبيسة في عيني ولم أستطع النطق بكلمة خوفًا من أن ينقلب الأمر إلى بكاء. أطالت أماني في احتضاني بشكل جعل رغبتي في البكاء تزيد عندما شعرت أنها أيضا متاثرة، إلا أنها على آخر لحظة تركتني ووقفت عندما سمعت جميل يهمس لها: أماني هيا. ثم انحنى جميل أيضًا ليصبح في مستواي ومسح على شعري بحنان قائلا بضحكة: أماني تحدثني عنك يا قمر أكثر مما تحدثني عن نفسها! وقال وهو ينقل يده من شعري إلى كتفي ليضغط عليها قائلا بلطف: أنت منذ الغد اعتبري نفسك مدعوة عندنا على العشاء يا قمر. وأكمل وهو يضحك: ليس الغد فقط وإنما كل يوم اعتبري نفسك مدعوة على كل الوجبات. لاحت ابتسامة باهتة على شفتي وقلت مجاملة: شكرا يا عم جميل. مسح على شعري مجددًّا برفق وهو يوصيني: اعتني بنفسك يا صغيرة. وقام ممسكا بيد أماني ليمشيان بجانب بعضهما البعض حتى وصلا إلى السيارة، همّ جميل بأن يساعدها في ركوب السيارة بسبب فستانها الضخم الطويل وفتح الباب لها، أما أنا فلا أدري ما الذي أصابني على آخر لحظة. فجأة تفجّر شريط ذكرياتي مع أماني..! أماني ستذهب.. أماني لن تكون في هذا البيت بعد الآن! أماني لن تدخل علي الغرفة لتحضر لي طعامي على السرير وتدلّلّني كما تفعل كل الأمهات لبناتهن! أماني لن توقظني من النوم ثم تضمني إلى حضنها وتمدحني لتعطيني دائمًا الثقة في نفسي! أماني..! لن أجد أماني ثانية هنا..! المرارة التي في حلقي تصاعدت إلى وجهي حتى أصبحت دموعا أغرقته، وصرخت وأنا أركض باتجاه أماني: أماني.. لا تتركـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنــــــــــــي! انتبهت أماني لصرختي والتفتت إلي وجميع الحاضرين كذلك! فتحت أماني ذراعيها لي فرميت نفسي في حضنها وأنا أنفجر في البكاء وانا أقول بين شهقاتي: أرجوك يا.. أماني.. تعالي... اسكني معي.. لا مشكلة... في أن.... يسكن معنا...جميل أيضا! أماني هي الأخرى بدأت في البكاء، وبدأ بكاءنا نحن الاثنين يتحول لشكل هيستري جعل جميل يقلق وأهل أماني أيضا، وظلوا يرددون كلمات مهونة فوق رؤوسنا: "ستتقابلان كثيرا فيما بعد" "العقبى لك يا قمر لتصبحي عروسا جميلة مثل أماني" استمر بكائي بقوة أكثر مما جعل أماني ترفع رأسها وتقول وهي تمسح دموعها باسمة: هيا يا قمر.. ستفسدين مكياجي في يوم زفافي.. أيرضيك هذا؟ فوجئت بيدين قويتين تسحبانني من كتفي بعيدا عن أماني، وأماني تقف وهي تقول بلهجة عطوف راجية مع رموشها المبللة: أرجوك يا سيد ياسر اعتن بها جيدا! أنا ممتنة لك على هذه الليلة الجميلة حقا. لحظة.. عمي هو الذي فعل ذلك؟ أيها الوغد! سمعتُ صوت جميل أيضًا يقول بامتنان: ونشكرك على هدّيتك بسماحك لنا بعمل حفل زفافنا في منزلك الفخم، وكفيتنا همّ استئجار قاعة أفراح أخرى. حاولت أن أخلص نفسي من بين يدين عمي وأنا أقول: اتركني.. لكنني لم أنجح وتجاهل عمّي جملتي وهو يقول: العفو، وهذا أقل ما يمكنني تقديمه لكما، هيا اذهبا أسعدكما الله. ركبت أماني أمام عيني السيارة هي وجميل، ثم بدأت بالتحرك من أمام البوابة، كنت مستمرة في محاولة الهرب من عمي وأنا أنادي على أماني بيأس وسط الدموع التي جفت على وجهي: أماني... أماني...! ظلت أماني تلوح بيدها لي من نافذة السيارة حتى اختفت في نهاية الشارع وسط الزغاريد والتهاني، استسلمت عن محاولة الهرب وخارت قوتي وأنا أنهار على قدمي جاثية بعد أن ترك عمي كتفي، ورغم الإزعاج والضجة التي حولي كنت لا أشعر بأي شيء سوى بالفراغ الذي ملأ روحي حينها.. شعرت بأن أماني أخذت قلبي معها ورحلت! -4- [ياسر] " قمر.. أنا أحس بك جدًّا، لكنّ أماني رحلت بالفعل! إلى متى ستظلين جالسة هكذا؟.. قومي لتتناولي عشاءك معنا!" كنت أخاطب قمر الجاثية على ركبتها تحت قدمي أمام البوابة بهذه العبارات وأنا أضع يدي على كتفها في تعاطف، لكنها قامت واقفة بحدّة دون أن تردّ علي، ثم اتجهت بخطوات سريعة إلى داخل الفيلّا، وسط بعض نظرات الحضور الذين كانوا قد بدؤوا في تناول عشائهم وتوقفوا قليلًا لينظروا إليها مستغربين، بعد دخولها رفعتُ صوتي وأنا أقول بإحراج: أكملوا عشائكم يا سادة من فضلكم. وجاءت جوهرة بجانبي لتقول بحزن: المسكينة.. لقد كانت متعلقة بأماني كثيرًا! سكتتُ وكأنني أوافق جوهرة على قولها، ثم نظرتُ إلى تلك الطاولة التي ضمت باسل ودانة وبراءة وهم يتناولون عشائهم في مرح صاخب، اتجهتُ إليها وأنا أغمغم بأسى: للأسف.. كنت في الماضي أعتمد على أماني لتخفف عنها، فهي الوحيدة التي كانت تتقبلها.. أما الآن فليس لدي أحد أعتمد عليه ليخفف عنها..! آمل فقط أن يرحمها الله برحمته. جلستُ بجانبهم على الطاولة وأخذت براءة على حجري لأوفّر مكان لجوهرة التي جلستْ وهي تقول لدانة بابتسامة: أرى أنكم أنهيتم العشاء.. ناديتُ النادل الذي كان يوزّع عُلب الطعام على الطاولات فجاء إليّ على الفور قائلًا: نعم سيدي. طلبتُ منه علبتين إضافيتين من العشاء، فانطلق لإحضارها، وهتفت دانة وهي تشير إلى قطعة كعك على طبقها: أبي.. ألا يمكن أن تطلب منه أن يزيد هذا النوع في علبتنا؟ ضحكتُ وأنا ألتقط منديلا لأمسح فم براءة الذي تلطّخ بكريمة الكعك: مستحيل يا دانة. فهذه العلب مُعدّة مسبقًا! قلتُ ذلك وأنا أتذكر والد أماني ذلك العجوز الطيّب الذي رفض أن يكون كل شيء في حفل زفاف أماني علينا، وبفطرته وكرمه الأصيل فهو من أهل الصعيد قرر أن يكون عشاء المدعوين جميعًا على حسابه، وبالفعل اتفق مع أحد الحلوانيّين بصنع عدد كبير من علب العشاء المتواضعة يسع الحاضرين جميعًا. في حين نظر إليّ باسل بقلق وقال: أبي.. وقمر.. ألن تتناول عشائها؟ نظرتُ إليه بتفهم وقلتُ له: لا تقلق، لقد طلبتُ من ريهام أن تحمل لها علبة إلى غرفتها. لاحت على وجهه ملامح الاطمئنان فقلتُ بجدّية: أما الآن فلديّ طلب منكم جميعًا.. بخصوص قمر. ونظرتُ إلى دانة بالتحديد قائلًا: أرجو أن تستمعي لي يا دانة جيدا. أنت بالذات أحتاج تعاونك كثيرًا. تململت دانة وظهر على وجهها التضجر وهي تقول: ماذا؟ عقدتُ حاجبيّ وأنا أقول بجدّية ممزوجة بلهجة رجاء مني: آمل أن تجعلوا قمر تُشارك في نشاطاتكم، في المنزل أو في خارجه، ادعوها دائمًا للمشاركة وحاولوا أيضًا سؤالها عن النشاطات التي ترغب في فعلها لكي تشاركوها اهتماماتها. أنتم تعلمون أننا الآن في إجازة منتصف العام الدراسي، لذا سأبدأ أنا بإعداد بعض الفعاليّات لكم كرحلات إلى الملاهي مثلا أو إلى حديقة الحيوان أو ما إلى ذلك. وسأجتمع معكم في وجودها لآخذ آرائكم في الفعاليات التي تريدونها لذلك أرجو أن تراقبوا ألفاظكم ولا تشعروها أبدا بأنها غير مرحب بها بينكم. لعل علاقتكم بها تتحسن مع الوقت. وربما يكون غياب أماني فرصة لكم لتندمج معكم من جديد! هتف باسل بحماسة: بالطبع يا أبي لا تقلق! سنفعل ما بوسعنا. نظرتُ إلى دانة بشيء من الحدة فقالت دانة باستسلام: فهمت.. سأحاول! ابتسمتُ بارتياح لتجاوبهم المبدئي وأنا أراهم يكملون العشاء عندما وصلت العلب الإضافية، الفترة القادمة ستكون فترة حساسة بالنسبة لنا ولقمر.. فإما أن نكسب جانبها وإما.. أن نفقده إلى الأبد! -5- [قمر] عدّلت وضع حقيبة الظهر التي كنت أرتديها على كتف واحدة لتصبح على كتفي الاثنتين وأنا أخرج من بوابة الفيلا الداخلية وأمرّ بخطوات سريعة على الحديقة وأنا أتنفس من نسائم الصباح مستمتعة بالجوّ المنعش الذي حُرمت منه لعدّة أيام وأنا قابعة في غرفتي بكآبة الدنيا كلّها. وألقيتُ نظرة راضية على القميص الأبيض الذي يناسب جوّ الربيع مع تلك التنورة الوردّية المزركشة القصيرة حتى الركبة وتحتها يختفي لون بشرتي الحقيقي تحت الجوارب البيضاء الطويلة التي أرتديها مع ذلك الحذاء الرمادي. منذ رحلت أماني وأنا ليس لدي أي مزاج للخروج من الغرفة أو حتى ممارسة أي نشاطات مع أي شخص، ويبدو أنني كنت سببًا لقلق الجميع رغم أنني أكره الاعتراف بهذا ولكن يبدو أن أمري يهمّهم حقا! فقد كانت ريهام وصفية تأتي لمناداتي باستمرار والاطمئنان علي، وجوهرة وعمّي دومًا ما يطرقون الباب طالبين الدخول لكنني كنت لا أسمح لهم بحجة أنني أريد النوم ومتعبة وأريد الاسترخاء! كنت في الواقع أستغل وقتي بالقراءة وفي الحقيقة أن هذا زادني كآبة على كآبتي. لكن لحسن حظّي أنني رأيتُ ذلك الإعلان في مسجد الأنصار وأنا أمتحن. عن دورة مكثفة للمراجعة في فترة أسبوعي الإجازة. مما أعطاني نشاطًا وحيوية ورغبة شديدة في الالتحاق بها وإشغال وقتي في الإجازة وفي نفس الوقت.. معاودة التمارين مع سامي بهذه الحجة الرائعة! كانت الدورة المكثفة خمس أيام في الأسبوع من الساعة التاسعة صباحًا وحتى الثانية عشرة، وها هو أول يوم.. سأذهب لحضور الدورة ومن ثمّ.. أقضي ساعة محترمة مع سامي، وطبعًا هذه الساعة التي سأتأخرها ستكون ساعة قضيتُها في المشي أمام عمّي. كنتُ على وشك الوصول للبوابة الخارجية وهممتُ بنداء البوّاب ليفتحها لي، لولا أن سمعتُ فجأة صوتًا أرعبني.. كان نباح كلب مع زمجرة شرسة عالية. انتفضت برعب وتراجعتُ أمام ذلك الكلب الضخم الذي يقترب منّي، ما هذا بالله عليكم؟ من أين أتى هذا الكلب؟ لا زلت أتذكر ذلك الكلب الذي هاجمني ولذلك أشعر برعب هيستيري الآن جعلني أرغب في العودة إلى غرفتي حالًا. لولا أن سمعت صوت باسل وهو يهتف: "جون .. كلا" ركض باسل إلى الكلب وأمسك السلسلة المتصلة بطوقه ومسح على رأسه وهو يقول ضاحكًا: كلا يا جون.. هذه صديقتنا. رفع باسل وجهه أخيرًا إليّ وعندما نظر إلى وجهي الممُتقع من أثر الخوف قال بأسف: آسف يا قمر.. لم أكن أقصد إخافتك! عقدتُ حاجبيّ بانزعاج وغضب: من أين هذا الكلب يا باسل؟ ابتسم باسل وهو يمسح على ظهر الكلب والأخير يلهث باستمتاع ظاهر على وجهه: هذا الكلب وعدني أبي بإحضاره لي في إجازة منتصف العام. ثم ضحك وهو يتراجع أمام الكلب الذي قفز إلى حضنه وظلّ يلعق وجهه بلسانه، شعرتُ بالقرف وأشحتُ بوجهي وأنا أكمل خطواتي بعيدًا عنهما، لمحني البواب فبدأ بفتح البوابة، خرجتُ منها لأسمع صوت باسل من ورائي: انتظري يا قمر.. متى ستعودين؟ قلتُ بجمود دون أن ألتفت: لماذا تسأل؟ فقال: سنذهب إلى حديقة الحيوان اليوم، نريدك أن تذهبي معنا! سكتت لبضع ثوان ثم قلتُ وأنا أبتعد: لا حاجة لانتظاري سأتأخر، اذهبوا الآن في الصباح الباكر فحديقة الحيوان ستكون أفضل في هذا الوقت حتمًا. -6- [سامي] مرحبًا، أنا سامي، هذه أول مرة يُتاح لي فيها بالتحدث. أحب أن أعرفكم على نفسي، أنا في التاسعة عشر من عمري، يتيم الأب والأم، لا أتذكر حتى شكلهما فقد فقدتهما في حريق كبير منذ صغري. كنت في ملجأ للأيتام أقضي حياة بائسة فيه منذ طفولتي، وعندما بلغتُ العاشرة من عمري، حدث شيء مختلف.. أخبرونا أننا سننتقل إلى ملجأ أيتام آخر لكثرة العدد في هذا الملجأ، لم أعر الأمر اهتمامًا فلطالما ظننتُ أن الملاجئ متشابهة! وجميع المسؤولين عن الملاجئ لا يهمّ سوى مصالحهم وحسب.. يجمعون التبرعات للملجأ ثم تجدها فجأة في جيوبهم. ولا يدخل منها قرش واحد لمساعدة اليتامى. نُقلتُ أنا وعدد من زملائي الذين يقاربون عمري إلى الملجأ الجديد، وهناك هالنا ما نراه من حسن ترتيب وتنظيم لمرافق المبنى، الذي كان من الواضح أنه بُني بشكل جيّد على طراز حديث. مع إضافة مسابح وإسطبل خيل وساحة للتدريبات الرياضية وساحة للألعاب ومساحة للعب كرة القدم والسلّة ومكتبة مليئة بالكتب الموجهة للناشئين.. باختصار كان ذلك المكان مثل مدينة أحلامنا! شعرنا جميعًا بسعادة لا تُوصف مع لطف المعلمين والمسؤولين عنّا، وروعة المكان، عرفتُ فيما بعد أن هذا الملجأ لرجل أعمال يُدعى آسر نوّار. قرر تبنّي قضية الأطفال اليتامى وبناء مراكز رعاية حديثة لهم. ودعمهم بالأموال والمعلمين. بدأنا لأول مرة ندرس بجد، بدأنا لأول مرة نصلّي في المسجد ونحفظ القرآن.. وبدأت لأول مرة أيضًا أشعر أنني على قيد الحياة! كان معلّمونا يرددون دومًا أمامنا أن السيد آسر تبنّى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: علّموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل. وكان يرى أن أولاد المسلمين اليتامى من أضعف الفئات في هذا البلد حيث لا يعيرهم أي شخص اهتمامًا. وإن أراد شخص ما التبرع فإنه يذهب لأقرب ملجأ أيتام ويعطيهم المال ويظنّ أنه أدّى ما عليه! ولا يعرف أن المال الذي أعطاه للملجأ لم يصل أصلًا ولن يصل لأي طفل يتيم هناك! أحببتُ السيد آسر هذا دون أن ألقاه، وزدتُ إعجابًا به وشغفًا بلقائه مع مرور الوقت، كنت منبهرًا به للغاية! كيف أن رجل أعمال ثريّ مثله لم تعمه الأموال كعادة الأثرياء ولم يطله الفساد المنتشر بين هذه الطبقة الغنيّة، يهتم بفئة مثلنا. فئة من أضعف فئات المجتمع، اليتامى! بل ويوفّر لهم مثل هذا الملجأ الفخم.. حتى جاء ذلك اليوم، كان هناك زائر يطوف بساحات الملجأ ومعه بضعة معلمّين يحدثونه عن كل شيء، شعرتُ أنه شخصية مهمّة من تعاملهم وطريقتهم معه، أصابني الفضول وتسللتُ ورائهم أحاول أسمع ما يدور بينهم، ومع أنني كنتُ واثقًا أنني لم أصدر أي صوت.. إلا أن ذلك الزائر التفت فجأة إلى الخلف، ورأيت وجهه! كان يرتدي حُلّة سوداء فخمة مع ربطة عنق داكنة، كان وجهه الوسيم يحمل تلك العينين الرماديتين الصافيتين التي أصابتني بالقشعريرة، وشعره الأسود الناعم تتدلى منه بضع خصلات على جبينه المستوية، كان صبوح الوجه على الرغم من قسمات الهمّ والحزن الواضحة التي احتوت وجهه! ولا أدري لماذا شعرتُ بأنه هو، السيد آسر نفسه! __ نعم، الفصل القادم إن شاء الله سيكمل سامي حكاية قصته، هل أنتم متشوقون؟ آمل فقط أن تغيّر رين نظرتها عنه بعد ذلك |