مضتْ أمُّ أنمـارِ الخزاعيّةُ إلى سوق العبيد في مكةَ, فقد كانت تريدُ أنْ تبتاعَ لنفسها غلاماً تنتفع بخدمته, وتستثمر عمل يده، وطفقت تتفرّس في وجوه العبيد المعروضين للبيع, فوقع اختيارها على صبيّ لم يبلُغِ الحُلُم بعد, رأت في صحة جسده, والنجابةِ البادية على وجهه, ما أغراها بشرائه, وفيما هما في بعض الطريق التفتت أمُّ أنمـار إلى الصبيّ وقالت: ما اسمك يا غلام؟. قال: خبّاب. فقالت. وما اسم أبيك؟ قال: الأرَتُّ. فقالت: ومن أين أنت؟ قال: من نجــد فقالت: إذن أنت عربي! قال نعم، ومن بني تميم. قالت: وما الذي أوصلك إلى مكة قال: أغارتْ على حيّنا قبيلة من قبائل العرب فاستاقت الأنعامَ، وسبتِ النساء, وكنتُ فيمن أخذ من الغلمان, ثمّ مازالت تتداولني الأيدي حتى جيء بي إلى مكةَ, وصرت في يَدِكِ. دفعت أمُّ أنمـارٍ غلامها إلى حدّاد ليعلّمه صناعة السيوف, فلمّا أتقنَ الغلام الصنعةَ, وَصَلُبَ عودُه, استأجرت له أمّ أنمـارٍ دكّاناً, واشترتْ له عُدَّةً، وجعلت تستثمر مهارته في صنع السيوف. وكان خبّابٌ على الرغم من حداثة سِنّهِ، يتحلّى بالأمانة والصدق ورجاحة العقل, وكان إذا مافرغ من عمله وخلا إلى نفسه كثيراً ما يفكّر في هذا المجتمع الجاهلي الغارق في الفساد، ويهوله ما رانَ على حياة العرب من جهالة جهلاء, وضلالة عمياء كان هو نفسهُ أحد ضحاياها. وكان يقول لا بدّ لهذا الليل من آخر. ولم يَطُل ما انتظره خبّابٌ كثيراً, فقد ترامى إليه أنَّ خيطاً من نورٍ قد تألّقَ من فم فتى من فتيان بني هاشم يُدعى محمد بن عبد الله. فمضى إليه وسمع منه, وغمره سناه. فبسط يده إليه, وشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمّداً عبدُه ورسوله. فكان سادسَ ستّةِ أسلموا على ظهر الأرض حتّى قيل: مضى على خبّاب وقت وهو سُدُس الإسلام. لم يكتم خبّاب إسلامَه عن أحد, فما لَبِثَ أن بلـغ خبـرُهُ أمّ أنمـار, فاستشاطت غضبـاً وغيظـاً, وصحبتْ أخـاهـا سَبـاعَ بنَ عبد العزّى, ولحق بهما جماعة من فتيانِ خزاعةَ, ومضوا جميعاً إلى خبّابٍ فوجدوه مُنهَمِكاً في عملِه. فأقبلَ عليه سِباعٌ وقال: لقد بلغنا عنك نبأٌ لمْ نصدّقهُ. فقال خبّابٌ: وما هو؟ فقال سِباعٌ يُشاعُ أنّك صبأتَ, وتبعتَ غُلامَ بني هاشم. فقال خبّاب بهدوء: ما صبأتُ, وإنّما آمنتُ بالله وحده لا شريك له. ونبذتُ أصنامكم, وشَهِدتُ أنّ محمداً عبدُالله ورسولُه! فما إنْ لامستْ كلمات خبّاب مسامعَ سباعٍ ومن معه، حتّى انهالوا عليه يضربونه، ويقذفونه بالمطارق والحديد حتّى هوى إلى الأرض فاقد الوعي والدماء تنزف منه. ومن يومها أصبحَ هذا العذاب عذاباً يوميّاً لخبّاب. بل اشتدّ العذاب عليه فكان يخرج إلى بطحاءِ مكّة, وتنزَعُ ثيابُهُ في لهيب الشمس ويُلبَسُ دروعَ الحديد، ويمنع عنه الماء ليرجع عن دينه, فما يزيده ذلك إلا ثباتاً وإيماناً. ولم تكن أمُّ أنمـار أقلَّ قسوة على خبّاب من أخيها سباعٍ, فكانت تجيء يوماً بعدَ يوم، فتأخذ حديدةً محميّة من موقده في دكّانِه، وتضعها على رأسه حتّى يدخّن رأسه ويُغمىَ عليه، وهو يدعو عليها وعلى أخيها. ولمّا أذن الرسول صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه بالهجرة, تهيّأ خبّاب للخروج، غيرَ أنّهُ لم يُبارحْ مكّة إلى المدينة إلاّ بعد أن استجاب الله دعاءَه على أمّ أنمـار. فقد أُصيبَتْ بصداع لم يسمعْ بمثل آلامه قط, فكانت تعوي من شدّة الوجع كما تعوِي الكلاب, ولم يكن من شفاءٍ لها إلاّ أن تكوي رأسِها بالحديد المَحْمِيِّ، فتلقى من أوجاعِ الكيِّ ما يُنسيها آلامَ الصداع. هاجر خبّاب إلى المدينة، فذاق طعم الراحة وحلاوة الإيمان، وشهد مع النبي الكريم بدراً وقاتل معه, وخرج معه إلى أُحُد فأقَـرّ الله عينهُ برؤية سباعٍ بن عبد العزّى أخي أمّ أنمـار وهو يلقى مصرعه على يد أسد الله حمزة بن عبد المطّلب. وامتدت به الحياة. فأدرك الخلفاء الراشدين الأربعة مؤمناً صابراً. ~بعض المواقف من حياته~ -مع الرسول صلى الله عليه وسلم || عن عبد الله بن خباب بن الأرت عن أبيه وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه راقب رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة كلها حتى كان مع الفجر فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته جاءه خباب فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجل إنها صلاة رغب ورهب سألت ربي عز وجل فيها ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي عز وجل أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا فأعطانيها وسألت ربي عز وجل أن لا يظهر علينا عدوا من غيرنا فأعطانيها وسألت ربي أن لا يلبسنا شيعا فمنعنيها". قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن عن سفيان وابن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب عن خباب. قال: شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شدة الرمضاء فما أشكانا يعني في الصلاة وقال ابن جعفر: فلم يشكنا... -مع الصحابة || دخل خباب بن الأرت رضي الله عنه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأجلسه على متكئه وقال: ما على الأرض أحد أحق بهذا المجلس من هذا إلا رجل واحد، قال له خباب من هو يا أمير المؤمنين؟ قال بلال، فقال خباب: ما هو بأحق مني، إن بلالاً كان له في المشركين من يمنعه الله به، ولم يكن لي أحد يمنعني، فلقد رأيتني يوماً أخذوني فأوقدوا لي ناراً ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجل رجله على صدري، فما اتّقيت الأرض إلا بظهري، قال ثم كشف عن ظهره فإذا هو قد برص، رضي الله عنه... -مع التابعين || عن قيس بن أبي حازم قال أتينا خباب بن الأرت نعوده وقد اكتوى في بطنه سبعاً فقال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعوا بالموت لدعوت به فقد طال مرضي ثم قال أن أصحابنا الذين مضوا لم تنقصهم الدنيا شيئاً وإنا أعطينا بعدهم ما لا نجد له موضعاً إلا التراب وشكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برداءه له في ظل الكعبة فقلنا يا رسول الله ألا تستنصر الله لنا؟ فجلس محمراً وجهه فقال: والله لقد كان من قبلكم يؤخذ فتجعل المناشير على رأسه فيفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر الموت لا يخاف إلا الله تبارك وتعالى والذئب على غنمه. حدث جماعة من أصحابه فقالوا: دخلنا على خباب في مرض موته فقال: إن في هذا المكان ثمانين ألف درهم والله ما شردت عليها رباطاً قط ولا منعت منها سائلاً قط ثم بكى، فقالوا له ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأن أصحابي مضوا ولم ينالوا منه أجورهم في هذه الدنيا شيئاً وأنني بقيت فنلتُ من هذا المال ما أخاف أن يكون ثواباً لتلك الأعمال.. توفي خباب بالكوفة سنة سبع وثلاثين وهو ابن ثلاث وسبعين سنة وصلى عليه علي بن أبي طالب حين منصرفه من صفين وهو أول من قبر يظهر في الكوفة ولما لحق خباب بجوار ربه وقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على قبره وقال: رحم الله خباباً، فلقد أسلم راغباً وهاجر طائعاً وعاش مجاهدًا يُمكن القول أن خَباب أحد أحب الصحابة إلى قلبي، واللهِ أني أحبه في الله ليرزقنا رؤيته جميعًا في الجنان إن شاء الله، أفضل أن تقرأوا قصته كاملةً في كتاب: ~صور مِن حياة الصحابة~ << كتبه شخصٌ عظيم وستجدون 64 قصة أخرى لصحابة آخرين الحقوق محفوظة لمنتدى ثابيست || مِخلب الشر || وعامووَ ~ |