(17) كانت الأصوات في الخارج مزعجة كثيراً، أصوات أطفال يلعبون، صراخ، أشياء تسقط على الأرض، بكاء طفل، ثم يحاولون تهدئته.. ثم تبدأ فترة من الصمت وتعاد الضجة مجددا..! كم الساعة الآن؟ أعتقد أنها الثامنة مساء.. كنت أحاول النوم بلا فائدة.. أشعر أن جسمي تخدر من كثرة النوم في هذا السرير! علي أن أتحرك قليلا.. وفي الحقيقة لقد مللت! كنت أشعر بالصداع أيضا، لذا ربما أستطيع أخذ إحدى المسكنات من الدكتور بكر ثم أعود لأُكمل نوم الأربع وعشرين ساعة. بمجرد فتحي للباب، هاجمت الأضواء عيني، رفعت عيني تلقائيا لأحمي عيني، وهدأت الضجة فورًا والجميع سكت، كلهم ينظرون إليَّ.. ثم هتفت عبير: بلاال.. ثم التصق شخص ما بي. كنت ما أزال مشوش الرؤية بسبب ضوء الصالة القوي.. بعد ثوان اصطدم جسدان صغيران بي.. ثم صوت ضحكات طفولية كثيرة، فتحت عيني، فوجئت بطفلين صغيرين يتعلقان ببنطالي-_- وعبير وسطهما تقول: مُعاذ ومصعب أحبّاك كثيرا حين قلت لهما عنك.. يا إلهي، لقد أخبرتكم، عبير حدّثت كل أهل الأرض عني! قلت متسائلا: عبير.. من هما؟ قالت وهي تشير إلى امرأة في الثلاثينات جالسة على الأريكة بجانب رجل آخر في الأربعينات: إنهما ولدا عمتي مريم. المرأة كانت ترتدي عباءة سوداء فوقها خمار ويبدو وكأنه نقاب وقد رفعته عن وجهها! بشرتها كانت بيضاء متوردة ولديها عينين واسعتين تشبهان الدكتور بكر كثيرا، الرجل كان يرتدي نظارات فوق عينيه السوداء الضيقة وفوق رأسه طاقية بيضاء ولوجهه لحية خفيفة جدا بنية.. ألقى الرجل نظرة مهتمة علي ثم همس لزوجته شيئا فأعادت غطاء وجهها، ماذا يقصد؟ لا يهمني -_-. كان الرجل جالسا بجانب الدكتور بكر وأمامهما على المنضدة جهاز كمبيوتر محمول، وهما الاثنين مندمجان معه، أما تلك المرأة فكانت تحدق بشيء أسفل بنطالي.. نظرت إليه فإذا هو طفل صغير جدا لا يتجاوز السنتين! كان ذلك الطفل يحاول أن يتسلقني، وحين حاولت إبعاد قدمي نظرت تلك المرأة بقلق، يبدو أنها خائفة أن يسقط، انحنيت للأسف وحملته بيد واحدة، كان خفيفا، ضحك ضحكة عالية وهو يرى نفسه يرتفع عن أخيه الآخر الذي لم يتعد الأربع سنوات بعد ونظر إلي بإعجاب وانبهار. ثم قال بلهجة طفولية وهو يشدّ بنطالي: أنا.. أيضا.. احملني. ابتسمت له بهدوء قائلا: لا بأس.. سوف أحملك بعده. لم تكن أول مرة أحمل فيها أطفالا، فلطالما كنت أسهر في الشارع برفقة أختاي زهرة ونسمة كي يناما بجانبي بهدوء، حين كانا في الثالثة من عمرهما وأنا كنت في الثانية عشرة، كانت أمي توكلني بالعناية بهما ريثما تذهب لبيع بعض المناديل أو التسوّل. لذلك أنا.. أحب الأطفال كثيرًا! لكن هذا الطفل، والطفل الذي بجانب قدمي، من الأطفال النظيفة، ملابسهم تفوح رائعة عطرية، وشعورهم ممشطة بعناية مع كريم تصفيف غالي الثمن، غالبًا عندما يبكون يُسكتهم أهلهم بقطع حلوى أو شوكولاتة، يستحمون كل يوم أو كل يومين، آه ويملكون أما وأبًا حنونين جدا.. ابتسمت بسخرية مريرة حين بلوغي هذه النقطة، نظرتُ إلى وجهوهم، هل هذا معناه أنني أحقد عليهم؟ لا.. هم أيضا وُلدو أغنياء، لم يختاروا بيئتهم أو أهلهم، كما أنا لم أستطع اختيار أهلي.. كنت كثيرا ما أحاول تخيل الحياة الجميلة التي سأحصل عليها إذا ما ولُدت لوالدين طيبين غنيين! وجدت عبير تربت على رأس الطفل الذي بجانبي وينظر إلي برجاء وأنا أحمل أخاه، وتقول مبتسمة: لا تقلق يا معاذ، بلال سيحملك بعد مصعب، وبإمكاني أيضا أنا أن أحملك.. هز رأسه نفيا وقال: لا.. أريد بلال! ضحكت وهي تلتفت لي قائلة: وكأنهم يعرفونك منذ زمن.. حاولت أن أبتسم لها وأنا أقول: هذا بسببك! أشار لي الدكتور بكر ملوحا ثم قال بترحيب: بلال.. هيا اجلس معنا.. حين اقتربت منهم ببرود غريب داخلي، قام ذلك الرجل وهو يقول بسرور: أهلا ومرحبا بك يا بلال.. مدّ يده اليمنى يصافحني.. فأطرقتُ رأسي في جمود إلى يدي اليمنى المجبّرة، فابتسم وأعاد يده إلى جانبه بتفهم قائلا: فهمت.. أتمنى لك الشفاء العاجل يا بنيّ.. سلامتك! قلت بهدوء: أشكرك! ثم مدّ يديه ليحمل مصعب الصغير مني، لكن مصعب لف يديه على رقبتي حتى كاد يخنقني وهو يقول جملا غير مفهومة تعبّر عن رفضه.. فقال والده بحزم: مصعب، بلال يده مكسورة، ستتعبه.. لكنني نظرت له بحدة قائلا بهدوء: لا لن أتعب، كما أنني أريد حمله. نظر ذلك الرجل إلي بتردد فقال الدكتور بكر مهوّنا: لا بأس يا عادل، بلال يعلم ما يريد. فابتسم عادل بإحراج ثم قال: حسنا، لم أعرفك نفسي يا بلال.. أنا عادل، مهندس كمبيوتر.. أي خدمة تريدها مني فسأقدمها بكل ترحاب ^_^ فتحت فمي بدهشة وأنا أنظر محاولا إخفاء الإعجاب بداخلي، لطالما كنت أحب هذه الأجهزة وأود استعمالها كثيًرا، لكن لم يتوفر لي أي جهاز للأسف وحين حاولت الدخول لمحلات ألعاب الكمبيوتر طُردت بسبب شكلي. لذلك كنت أنظر لمن يتعامل معها وكأنه إنسان خارق!! حاولت أن أركز قليلا في الجهاز الذي يستعمله بعد أن جلس بجانب الدكتور بكر وأكملا عملهما، كانت الشاشة غير مفهومة لي كالعادة لكن يبدو أن عادل يشرح شيئا الدكتور بكر. قطع تركيزي بكاء طفل صغير مفاجئ، كان مصعب يبكي على يدي ويتمسك بملابسي ثم يسقط لعاب من فمه علي...! ما هذا القرف! أقبلت أمه التي كانت هادئة طوال هذا الوقت وقالت بلطف وقلق: آسفة، إن أسنانه تنمو لذلك هو في حالة مزاجية سيئة هذه الأيام.. أخذته مني بسهولة بينما أنا أحدق بها وهي تهدئه وتقبله بحنان. وجدت معاذ يركض علي بسرور قائلا: هيا هيا.. احملني.. وافقت بهدوء، وأنا أمد يدي له لكنه قال بحماسة: احملني على ظهرك! عقدت حاجبيّ عابسًّا، لا أستطيع تثبيته بيد واحدة على ظهري، قلت: لا.. لن أحملك على ظهري! عقد حاجبيه بحزن قائلا: لقد حملت مصعب! قلت بهدوء: حملته بيدي وليس على ظهري! لكن الطفل الصغير تأفف بانزعاج وأنا تركته مغمغما وأنا أجلس على الأريكة: إذا كنت تريد حملك بيدي فسأفعل، غير ذلك لا! كنت مهتما جدا بذلك الجهاز الذي يعمل عليه عادل والدكتور بكر، وظللت أراقبهم بشغف حتى انتبه لذلك عادل ونظر لي مبتسما، حاولت أن أرد عليه عابسا لكنه واصل ابتسامته وعاد إلى عمله، فوجئت أثناء تركيزي معهم بثقل قوي على ظهري جعلني أنثني بألم وأقول غاضبًا: أيها الوغد! سمعت ضحكات معاذ الصغيرة ويديه الاثنتين تتعلقان برقبتي من الخلف وهو يهتف بفرح: هيا احملني! كيف صعد على ظهري؟ لا أعلم.. المهم أن آلام صدري بدأت بالظهور وفي نفس الوقت حاولت فكّ يديه بيدي اليسرى دون فائدة، شعرت بشخص يقترب ثم ينزاح ذلك الثقل من فوق ظهري، تنفست الصعداء وأنا أنظر لدكتور بكر الذي قال لمصعب: لا يا صغيري، لا تصعد على ظهره. ثم أجلسه جانبي وهو يقول له: هيا اعتذر على ما سببته له. قوّس ذلك الفتى فمه بحزن قائلا: ولكن.. ابتسم الدكتور بكر وهو يقول: أنت فتى مهذب يعتذر عندما يُخطئ، كما أن بلال لديه الكثير من القصص الجميلة التي ستعجبك، ولكن قل أنا آسف.. نظر إلي الصغير طويلا بتردد ثم اعتذر على مضض، فقال الدكتور بكر وهو ينظر بعينين راجيتين مبتسمتين لي: من فضلك إذن يا بلال، احكِ له القصص..! عقدت حاجبيّ بلا مبالاة، ماذا يقصد بالقصص؟ هل يقصد أنني قرأتها اليوم! هل رآني وأنا أقرأ قصص الأطفال؟ تبًّا! -_- قلت بجفاء: حسنا اقترب يا معاذ. اقترب في حماسة شديدة. بعد أن نام مصعب وهدأ من بكائه جلس الدكتور بكر بجانب مريم وهما يتحدثان وعادل يتابعهم وهو يستخدم جهاز المحمول، ألقت مريم علي نظرة معجبة وأنا أقص على معاذ وعبير قصة جميلة كنت أحكيها لإخوتي فيما مضى. بعد قليل قام عادل معتذرا أنه يجب عليه العودة قبل الساعة الحادية عشرة، وودع الجميع حتى أنا. بعد دقائق من خروجهم، لازلت أسمع أصواتهم أنا وعبير، حين خرجنا ووقفنا على الباب، كان يبدو أن هناك مشكلة في سيارة المهندس عادل. كان يبدو على وجهه الحيرة والورطة وهو يحاول تفقد السيارة، وعرض الدكتور بكر على أخته أن تدخل المنزل مرة أخرى مع ولديها ريثما يحلّون المشكلة. لم تكن المشكلة في البنزين أو ما شابه، ولم يكن الدكتور بكر يفهم في مشاكل السيارات إلا القليل! كنت واقفًا بهدوء أراقبهم وبجانبي عبير تنظر إليهم بفضول وقلق، أحضر الدكتور بكر حقيبة الصيانة وهو حائر جدا، كانا يتحدثان حول إمكانية أن يتصلوا بأحد أصدقائهم الميكانيكيين ليأتي وينظر في المشكلة. لكنني قلت له: هل تدعني ألقي نظرة؟ نظر إلي الدكتور بكر بدهشة وأنا أتفقد السيارة، نعم لقد عشت فترة من حياتي كميكانيكي في ورشة حقيرة -_-. بعد أن عرفت المشكلة بالتحديد، طلبتُ من الدكتور بكر أدوات معينة، ثم أخبرته أنني أريد منه أن يعينني في النزول تحت السيارة! نظر إلي بانبهار قائلا: هل أنت ماهر في ذلك؟ أجبته بهدوء وأنا أستلقي بصعوبة بجانب السيارة: نعم، أعتقد أنني أستطيع إصلاحها. دفعني لأدخل تحتها مباشرة وأقابلها بوجهي.. بعد أن انتهيت، كان العرق يغمر وجهي، وهناك بعض الأوساخ علقت به، فأنا لم أستخدم إلا يدًا واحدة وهذا أتعبني جدا، قلت رافعًا صوتي: هل تسحبني؟ شعرت به يمسك قدمي الاثنتين ويسحبني حتى أخرجني من تحت السيارة ثم أعانني أيضا أن أقف، كان عادل يراقب بانبهار هو الآخر، أخبرته عدة تعليمات وبالفعل اشتغلت السيارة مع بضعة أصوات مزعجة قلت له أنها طبيعية في البداية! ظل الاثنان ينظران إلي وكأنني بطل خارق! دخلت إلى المنزل في هدوء بعد أن قلت للدكتور بكر أن هذا من الثمن الذي أدفعه وليس مجانيًّا أو إحسانًا مني، وقامت مريم قائلة بامتنان: كم أشكرك يا بلال، حقا، جزاك الله كل خير، لقد أنقذتنا من ورطة. رغم أني شعرت باحمرار وجنتي لكن حاولت أن أقول ببرود: لا بأس. قابلتني عبير على باب الحمّام وهي تهتف: يا لك من رائع لم أصدق أنك ماهر كل هذه المهارة! قلت باستغراب: أحقا أنتم مستغربون كل هذا؟ لقد كان عملا سهلا! لكنها ضحكت وهي تقول: لكن وجهك يبدو مضحكًا جدا، أنفك أسود! نظرت إلى المرآة وأنا أكتم ابتسامتي.. يا ربي، عليّ أن أكون عدوانيًّا وسيئ الطباع ولست متفهما ولطيفًا هكذا! _ تأملت الأحذية الرياضية المذهلة الموضوعة بعناية على رف طويل عريض، ثم التفت للدكتور بكر الذي ناداني قائلا وهو يُمسك زوج أحذية بلون أزرق مع أبيض: ما رأيك بهذا اللون؟ قلت ببرود وأنا أتأمله: جيد. كنت في الحقيقة أول مرة أشتري حذاء.. ورياضيًّا أيضًا وبرباط! كنت غالبا ما أحصل على الأحذية عن طريق الصدقة أو الخطأ أو الحظ الجيد! نظرت إلى حذاء الدكتور بكر الواسع الذي تغوص قدمي فيه، فلم أكن أستطيع الخروج للشراء دون أن أرتدي حذاء! المهم أنني الآن لا أعرف مقاس قدمي، لذلك ظل الدكتور بكر يجرّب عدة أحذية حتى وجدت مقاسي المناسب، كنت أشعر باضطراب كبير في داخلي ولكنني ماهر في إخفاء كل تلك المشاعر تحت قناع بارد يوُحي إلى من يراني أنني عديم الاكتراث. اتفق معي على زوج أحذية أزرق متجانس بشكل رائع مع الأبيض، لكني كنت باردًا كالعادة.. قال قبل أن يضع يده على كتفي ويجعلني أسير أمامه: هل أنت متأكد أنه أعجبك؟ أومأت برأسي في تأكيد، ولكن خطر على بالي فكرة، فسألته فجأة: كم سعره؟ اضطرب وجهه وهو يقول: لم تسأل؟ قلت عابسًا: لأنني من سيدفع ثمنه في النهاية. تنهد تنهيدة عميقة ثم قال مبتسما: ما رأيك أن تعتبره هدية مني؟ قلت مباشرة: لا! فخاب أمله وهو ينظر إلي قائلا: إنها هدية فقط! على أي حال لن توافق على ثمنه إذا قلت لك! سكتت قليلا وأنا أطرق برأسي ثم قلت بعناد وعصبية: لا أريد ثمنا غاليا فأنا.. ثم تفاجأت كثيرا بملامحه التي ينظر بها إلي.. وسكتت بصدمة. كانت مشاعر غريبة، رجاء وخوف أن أرفض هديته، هذه النظرة، أين رأيتها قبل ذلك؟ إنها نظرة مألوفة كثيرا.. نظرة عدنان..! أخذت منه الحذاء بنفسي ووضعته أمام البائع ثم قلت بجمود: سوف أقبلها ولكنني سأردّها لك فيما بعد! _ كان هذا اليوم المنتظر، سأفك الجبس اليوم، كم أنا متحمس جدا.. تنهدت في ملل وأنا أغلق دفتري، لقد تعلمت الهجاء جيدا بل وقرأت أول أربع قصص أطفال في ذاك الكتاب، وأريد أن أقرأ المزيد والمزيد.. وضعت دفتري في الخزانة، ثم تثاءبت وأنا أمدّ يدي، فتحت للدكتور بكر عندما طُرق الباب.. ولكن! شهقت بفزع دون إرادتي حين رأيته يحمل عبير على يديه وخمارها الأبيض تلوث بدمائها وصوت أنينها الباكي يقتحم أذني بعنف. نظرت له بذعر وتساؤل، فقال بوجه شاحب قلق وهو يتجه إلى غرفتها: لقد سقطت من أعلى السلم في مدرستها وكُسرت إحدى رباعيّاتها.. اتجهت خلفه وأنا مازلت لا أفهم شيئا، خلع خمارها وهو يحاول تهدئتها، كنت أقف على باب غرفتها أراقب وقلبي تتسارع دقاته في خوف، لمَ؟ علي أن أكون باردًا! ولكن منظر خمارها بالدم، وجهها الغارق في الدموع، وملامحها المتألمة، وصوت بكاءها.. علمت الآن أن عبير لها مكان في قلبي.. أو أنني عاطفيُّ زيادة عن اللزوم؟ لا أدري..! حقًّا لا أدري! ساعدها الدكتور بكر على غسل وجهها وغسل فمها في حوض الحمام، كانت تبصق الماء الملي بالدماء، ثم تقول له بإعياء: أبي أرجوك الماء يؤلمني حين يدخل في جروح لثتي..! كان يمسح دموعها ويقول بصبر ولطف: آسف يا عبيري حقا، ولكن علينا أن نطهر فمك.. على كل حال الآن انتهينا.. جلستُ بجانبها على السرير في وجل، وضع الدكتور بكر في الرباعية المكسورة حشوة قطن امتلأت بالدماء في ثوان قليلة، وهناك جرح في شفتيها ينزف أيضّا.. قلت أسألها وهي تئن: عبير.. ماذا حصل لك؟ ابتسمت وهي على وشك البكاء: لقد سقطت.. ثم قالت وهي تنفجر في البكاء فعلا: من أعلى السلم! كنت أريد العودة للبيت عاجًلا، فأنا سعيدة لأنك ستفك جبس يدك اليوم! ولكن لم أشعر بنفسي إلا وأنا تحت السلم قد تدحرجت من فوقه، كان أبي ينتظرني في الخارج وأخبرته صديقاتي فأتى مسرعا.. ثم قوست فمها بحزن شديد وهي تهتف بحسرة: لكنني لن أستطيع الذهاب معك! الكدمات المؤلمة تملأ قدمي. قلت برفق أهدؤها: لا بأس، الحمد لله أنك بخير الآن. ثم ابتسمت لها وأنا أقول: على كل حال لم يكن ذهابك معي ضروريًّا! دمعت عيناها مجددا، هل قلت شيئا يُحزنها؟ أقبل الدكتور بكر وهو يحمل صحنا من الطعام، ولكن عبير صرخت باكية: لا أستطيع يا أبي.. حاول إقناعها متوسلا أن تأكل شيئا، وافقت على مضض ومن أول لقمة ظلّت تبكي بألم.. جروح فمها تجعل الطعام مختلطًا بالدم كما أنها لا تستطيع أن تأكل الآن.. الحقيقة أنها أتعبته جدًّا، وهو كان صابرًا أيضا. لو كنت مكانه لم أتحمل، إنها مدللة كثيرا عن رقية! نامت في حجره بعد معاناة بكاء طويلة، حاول التسلل من تحتها لكي يقوم واقفا وهو يهمس: هيا يا بلال، لنأكل نحن. وافقته بهدوء وأنا أتبعه.. في نفس الوقت طُرق الباب، كان عبد الله قادما بعدة أكياس، قال بقلق: آسف لما حصل لعبير، لكنك لم تأتِ لأخذ الأكياس. ابتسم الدكتور بكر هادئا: كنت سآخذها للتوّ.. ولكنني أشكرك كثيرا على إحضارها. أخذ الأكياس وتوجه إلى المطبخ، بينما كنت واقفا أمام غرفة عبير المغلقة، نظر إلي عبدالله بتردد ثم قال بحدة حاول أن يُخفيها: أين عبير؟ أريد الاطمئنان عليها.. قلت بجمود: إنها نائمة.. اقترب وقال بإصرار: أريد الاطمئنان عليها، سألقي نظرة فقط! قلت من بين أسناني: لن تفعل! قلت لك نائمة.. لن أسمح لك بإزعاجها. نظر لي بغضب وهو يحاول التماسك بينما أقبل الدكتور بكر وهو يبتسم ضاحكًا لتخفيف الجو قائلا: هل تستغلون فرصة عدم وجودي معكم في الشجار؟ لم يبتسم منّا أحد على مزحته، بل نظر كل واحد منا للآخر في تحدّ وكراهية. بعد قليل كنا على المائدة وأنا أحاول بدء الطعام دون مبالاة به وهو واقف والدكتور بكر يدعوه للطعام لكنه قال بغيظ: أشكرك يا دكتور.. لكنني تناولت غدائي مُسبقا. لم أرفع رأسي لأنظر إلى مكانه إلا بعد أن سمعت صوت إغلاق باب المنزل، ثم زفرة حارة من الدكتور بكر. |