(31) استيقظتُ من النوم، لأجد الفراش بجانبي فارغًا، نهضتُ بتثاقل لأفاجئ بعدنان يدخل، صرختُ من المفاجأة والفرحة وركضتُ إليه، لكنني سقطت وقد تباعدت الجدران عنّا بطريقة غريبة، وسقط هو معي أيضًا، رأيته من الناحية المقابلة يغرق في دمه، لم أستطع التحمّل، متى تنتهي هذه الكوابيس؟ اكتشفتُ أنني أقوم لاهثًا في منتصف الليل ويقوم الدكتور بكر قلقا هو الآخر ليهدّأني، لقد كثر هذا جدا في الآونة الأخيرة، صحيح أنني تحمّلت وأصبحتُ قويًّا في إخفاء مشاعري، لكن الأحلام تفضحني في الليل. كنت أذهب إلى الورشة كل يوم لأهلك نفسي بالعمل ثم أعود وأنا لا أرى أمامي أي شيء، كنا قد انتقلنا للعيش مع الدكتور بكر مؤقتًا من أجل رقية التي بدت لي أنها تعاني الوحدة كثيرًا في غيابي، واقتنعتُ بأن من الأفضل لها قضاء الوقت مع عبير في نشاطات مشتركة، وأنا على كل حال لا أزعجهنّ فأنا منذ الصباح الباكر في الورشة ولا أعود إلا متأخرًّا جدا! لقد كنت أقصد هذا! لم أكن أريد أن أستسلم لتلك الأفكار المؤلمة التي تسيطر علي بخصوص عدنان. لم أفكر أبدًا في زيارته في السجن ولا حتى الحديث مع الدكتور بكر بشأن تكليف محامي بالدفاع عنه، كنت متأكدًا جدا أنه بريء وفي نفس الوقت لا أريد أن أنصر ظلمه على حساب حبّي له! ذات يوم، عدتُ إلى المنزل وأنا في غاية الإرهاق، بعد شهرٍ كامل من القبض على عدنان، العرق كان يغمر جبيني وأفتح عيني بصعوبة لرؤية الثقب الذي يجب أن أُدخل فيه المفتاح! فتحتُ الباب ببطء حتى لا يُصدر أي صوت يزعج به النائمين في هذا الوقت، لكنني فوجئت بشدة وأنا أرى ضوء الصالة مفتوح، ويجلس على أريكة الاستقبال الدكتور بكر وأمامه شخصان رأيت رقبتهما، رقبة رقيّة، ورقبة شاب آخر! رأيت شعره من الخلف، فجفلتُ وأنا أنظر مبهوتًا، زادتْ رجفتي حين قام والتفت إلي بكامل جسده، لقد كان عدنان! اهدأ بلال، هذا حلم بالتأكيد، انتشرتْ على وجهي معالم الحزن وأنا أراه يهرع لاحتضاني بوجه متأثر، متى سنسقط معًا هذه المرة؟ عندما يحتضني أو قبل أن يصل إلي؟ شعرتُ بملابسه الدافئة ورائحة ملابسه، صوته الحنون وهو يقول: آسف أنني فعلتُ كل هذا بك يا بلال، اعذرني، من الآن فصاعدًا لن نفترق أبدًا! لم أفهم شيئا، فلم يقل عدنان أي كلمة من هذا الكلام سابقًا في أحلامي، لم إذن هذا الحلم متغير بهذا الشكل؟ كنتُ باردًا، أنظر للجميع بهدوء، أنتظر الكارثة التي ستُنهي الحلم كالعادة لأقفز فزعًا من سريري. قال بكر بتوتر وعينيه تضطربان في قلق وهو ينظر إلي: بلال، عدنان قد خرج بكفالة، ودخل بدلًا منه فريد باسم، عدنان لم يكن مذنبًا في الحقيقة. عدنان خرج؟ هو أمامي الآن إذن.. جلستُ ببطء بجانب عدنان ورقية، شعرتُ بدف الأريكة وانغماس جسدي المُتعب فيها بكل راحة، وقعتْ عيني على المنضدة التي تتزين بأطباق حلوى وفواكه أمامي، وبعض أكواب العصائر والشاي، تبدو كبقايا حفلة! لمستْ رقية خدّي بيدها لأتفاجأ بوجهها الذي أفرغ دموعًا هائلة لتوّه لكنه ينبض بالسعادة! قالتْ لي بإشفاق: أعلم أنك غير مصدّق لما يحصل الآن ولكنها الحقيقة! اختلج صوتها وهي تقول: عدنان الآن معنا، لن يعود للسجن مجددا ولن يعود لتجّار المخدّرات، لقد أصبح حرًّا وتائبًا! قطبتُ حاجبيّ وأنا أفكّر في احتمال بسيط أن يكون هذا الحلم حقيقة ولكن.. أشعر بجمود ثقيل على قلبي يمنعني من اتخاذ ردة الفعل المناسبة! انفرجتْ شفتاي أخيرًا لألقي ابتسامة مسرورة أطمئن بها الجميع، ما أن لمحها عدنان ورقية حتى ارتاحت أعيُنهما وانطلقا في الحديث وإكمال الحفل، نظرتُ بتوتر إلى غرفة عبير المغلقة فابتسم بكر متفهمًّا وقال: لا تقلق، إنها نائمة لتستطيع الذهاب إلى المدرسة باكرًا! لا أعلم هل الحلم واقعيّ لدرجة أن كل تفصيل في منزل الدكتور بكر موجود بكل دقة؟! جلستُ أحدّق إلى الجميع متظاهرًا بالابتسامة وفي داخلي الذهول يتصاعد ليسيطر على عقلي شيئًا فشيئًا. كنتُ أشعر بضربات يد عدنان تمازحني ونحن نتذكر ذكرياتنا سويًّا، كان بكر يتشارك معهما في الحديث ويندمج بكل سهولة رغم غرابة بعض الألفاظ والأحداث عليه، لكن بكر لم يعد غريبًا.. أصبح وكأنه.. والدنا! حتى أن عدنان أحبّه بسرعة رغم امتعاضه منه سابقًا، وبدا لي أن رقيّة سعيدة جدا بهذا الاجتماع. وكأنها ترى قرّة عينها أمامها. لكنني لم أكن أتفاعل إلا ببضع ابتسامات شاحبة هادئة، لم أكن أعلم هل السبب أنني موقن بأن هذا حُلم؟ أو أنني متعب جدا لدرجة الهذيان.. وتخيّل الأحداث؟ بدأت أشعر بالملل، متى سينتهي هذا الحلم؟ أنا أعلم أنه حلم ممتع لكنني لا أريد الاستغراق فيه لينقطع بفظاعة كالمرات السابقة، سأحتفظ بمشاعري حتى ينتهي الحلم وأنا هادئ تمامًا. لكن لم يحدث شيء، لم نسقط ولم يُقتل عدنان ولم أختنق حتى الموت! بدأت الشكوك تراودني حول كوْنه واقعًا، نظرتُ بجنون إلى الساعة التي تمرّ، الوقت يمر بانتظام وهيْبة، منزل الدكتور بكر كما هو، إحساسي بإسفنج الأريكة الناعم تحتي حقيقي! كل شيء حقيقي! بدأت أنفاسي بالتصاعد والاختناق، توقف عدنان عن الحديث وهو ينظر إليّ بحيرة قلقة، ما الطريقة الأمثل لإنهاء حلم ما؟! علي أن أشعر بالألم لإيقاف هذا الحلم! ابتلعتُ ريقي بألم وأنا أمدّ يدي إلى السكينة ببطء، نظر إلي بكر نظرات مُرتعبة وقام من فوره واقفًا: بلال، ما بك؟ لا أعلم إذا كان قد فهم ما سأقدم عليه أم لا، لكنّه تجاوز المنضدة بخطوة واسعة ومنعني من إكمال جرح يدي بالسكين.. كنت قد جرحتُها بالفعل جرحًا بسيطًا، توقف عن التنفس وهو ينظر إلي بإشفاق إلى عينيّ المصدومتين بمنظر الدم، لم أستيقظ، إذن.. هذا واقع؟! بدأت أرتجف وأنا أمسك برأسي، مستحيل! عدنان موجود فعلا؟ إنني أشعر بالألم في يدي، وبإحساس الدم يسيل على أصابعي! بدوت وكأنني على وشك فقدان عقلي، أو على وشك الإغماء، لم أعلم ماذا سيحدث لي، لكنني شعرتُ ببكر يحتضنني برفق وهو يقول بصوت رقيق: بلال، أعصابك متعبة فقط، استرح قليلا يا بنيّ.. ضغطتُ أكثر على الصداع الذي يتزايد في رأسي وقلتُ بانهيار: لا، مجرد حلم سخيف! لكن عدنان الذي أمسك كتفي وهو ينظر إلي بعينين عاتبتين، أطار تلك الأفكار من رأسي، ورقية من الجانب الآخر، تركني بكر معهما، بعد أن ودّعنا بنظرات حانية، كانا متأثرين جدا لحالتي، احتواني عدنان بين ذراعيه بينما جلست رقية بجانب كتفي تسُاندني.. بالطبع كانت ردّة فعلي كمريض نفسيّ حقيقي! انهيار وبكاء هستيري كالفتيات تمامًا، كنتُ أعيب ذلك على رقية وعبير في السابق، الآن أنا أسوأ منهما حالًا.. لا أعلم كيف كذب الدكتور بكر عليّ في الماضي وأخبرني أنني لستُ مريضًا نفسيًّا؟ لكنني كنتُ أضحك، أضحك بشدة حتى البكاء، وأنا أرى نفسي أمام عدنان الذي بدأ يضحك عليّ ساخرًا مع رقيّة.. مرّت الدقائق سريعة واكتشفت أن الحلم حقيقة، لقد عاد عدنان إلينا! _ مرّت سنوات كثيرة، أعتقد أنها سبع سنوات! انتقلنا نحن الثلاثة للعيش في منزل قريب من الدكتور بكر، أصبح عدنان الآن في أمان، لقد ضحّى فريد باسم بكل ما لديه لإنقاذه من السجن ودخل بدلًا منه، على كل حال كان عجوزًا على وشك الموت! لذلك لم نخف على عدنان من أي شيء سوى عوائل أولئك المهرّبين الذين قُبض عليهم، لكن هم على كل حال لا يعلمون هويّته الحقيقية فقد استقال شهاب من منصب رئيس المستشفى إلى أحد أطباء المستشفى.. وتخلّى عنها للأبد! تركتُ العمل بالورشة إلى تعلّم برمجة الحاسب، ذلك الجهاز الذي أغرمتُ به في الماضي عندما رأيته مع عادل زوج مريم أخت بكر، أختي رقيّة أيضًا دخلت معهدًا لتعلّم اللغات وعملتْ مدرّسة في مدرسة ابتدائيّة. ومنذ أتمت العشرين من عمرها، تقدم لخطبتها ذلك الوغد زيْد، لم أكن أتوقع أبدًا وأنا أفتح له باب منزلنا رؤيته في مثل هذا الوقت، اعتذر أنه جاء بدون موعد ولكنه حاول البحث عنّا كثيرًا، وحصل أخيرًا عليه من الدكتور بكر، أخبرني بابتسامته المستفزة أنه سيُنهى دراسته في كلية الطب قريبًا ويريد الاطمئنان أن رقية ستكون من نصيبه. كنت في تلك اللحظة على وشك طرده، لكن عدنان جاء مُسرعا ودعاه إلى الدخول بترحاب وتفهم، ظلّ طوال الوقت معه. كنت _بدون سبب_ لا أستطيع تحمّل وجوده معي في نفس الغرفة، لا أطيق هذا الرجل! بالطبع كان يُلقي النكات المضحكة بخفة دمه لينفجر عدنان ضحكًا وأبتسم أنا مجاملة. بعدها تشاجرنا أنا وعدنان بسبب ذلك، كنت أقول له بعصبية: إنني لا أتحمّله، لا أستطيع الموافقة عليه وقلبي لا يرتاح له. أمسك عدنان كتفيّ بقوة وقال بحسم: هو لن يتزوجك، رأي رقيّة سيكون هو الرأي الفاصل في هذه المسألة، وبالتأكيد لا حاجة لأؤكد لك أنني أعتقد أنه رجل كريم. ابتسمت بسخرية مغمغما: فعلا. تنهد عدنان بقلة حيلة وهو يبتسم قائلا: منذ حاول رجل الأمن طرده من المستشفى عندما أتى لزيارتك ثم توضيح دكتور بكر ودفاعه عنه وأنا أعتقد أنه بالفعل شاب مكافح، ربما لم يعجبك بسبب تساهله ومبالغته في المزح مع أي شخص، لكنه في وقت الجد بالغ الحرص والاهتمام، كما أنه ذو دين وأخلاق. بعدها انتهى الموضوع حين وافقت رقيّة بخجل وهي تُطرق برأسها أرضًا، كان عدنان يردد مرارًا أنه لو لم يكن موجودًا لما تمّ هذا الزواج بهذا الشكل! والآن بعد ثلاث سنوات أخرى، رقية تعيش بهدوء في بيت جميل صغير قريب منّا، فهذا الشرط الوحيد الذي اشترطته على عدنان لأوافق أن أكون هادئًا، أن تكون رقية قريبة مننا لنستطيع زيارتها متى شئنا، ولتكون أيضا قادرة على رؤيتنا في أي وقت. وزيْد يعمل طبيبا في إحدى المستشفيات الحكومية، ليعود في آخر اليوم إلى زوجته "التي هي أختي بالمناسبة -__-" وطفلته الصغيرة زهرة، التي أحبّت رقية أن تسميّها على اسم أختها الراحلة، وحين تأتي طفلة أخرى ستسمّيها على اسم نسمة أيضا. في الحقيقة كنت عند زيارتهم أنشغل أنا بزهرة حتى لا تفلت أعصابي أمام استفزازات زيد، وأترك عدنان يتوّلى زمام الأمور مع هذا الوغد. _ انقطعتُ فترة عن الدكتور بكر وزيارته لظروف في عملي، فترة طويلة تقارب ثلاث سنوات كنت أهاتفه فيها فقط، لذلك كنت متشوقًّا جدا لزيارته بعدها، ولكنني كنت مُحرجًا جدا أيضًا! لتلك الفكرة التي عشعشت في رأسي منذ رأيت خيال عبير الأسود خارجًا من المنزل في حفل زفاف أختي منذ ثلاث سنوات، لقد أصبحت تُقارب العشرين عامًا! أما أنا فقد دخلتُ لتوّي في الخمسة والعشرين، أعلم لقد كبرنا لدرجة مهولة حتى أنني لا أصدّق نفسي وأنا أنظر إلى لحيتي السوداء الصغيرة في المرآة! هل تظنونني مناسبًا لها؟ عبير هي الفتاة الوحيدة التي أشعر بالخجل كلما تذكرتها! كنت متوترًّا جدا وأنا أقف أمام الحوض في الحمام، سمعتُ صوت عدنان المنزعج في الخارج: بلال، لقد أطلتَ في الداخل كثيرًا، ماذا تفعل؟ أخذتُ نفسًا عميقا وأنا أخرج، ليُفاجئ بحلّتي الرسمية الفخمة التي أرتديها، حكّ رأسه في كسل قائلا: هل ستخرج اليوم لمقابلة عمل؟ ابتسمت بتوتر قائلا: لا، يكفيني عملان فقط في اليوم، هل تريدني أن أموت؟ ضحك عدنان وهو يتخطّاني إلى الحمام: أنت كنت تريد الموت قبًلا، المهم أين ستذهب؟ قلتُ له بتهكم: أين سأذهب في يوم جمعة يا عدنان الآن؟ بالله عليك، فكر قليلا! فجأة أمسكت كتفه برجاء وأنا أقول بتوسل: أرجوك تعال معي! استغرب عدنان ونظر إلى يدي المتمسكة بملابسه قائلا بدهشة: أين؟ هل تخاف من الوحوش يوم الجمعة؟ ابتسمتُ بخفة على مزحته ثم قلتُ بغم: لا، بل عند الدكتور بكر! ابتسم بخبث وقد فهمني تمامًا، سحب ملابسه من بين يدي وهو ينظر إلي نظرة خاصة: بلال، أرجوك كن رجلًا حازمًا، ألا تستطيع اتخاذ قرار كهذا لوحدك؟ نظرتُ إليه بيأس وأنا أشعر كلماته تقتلني، قلتُ بإحراج: أنت تعلم أن الموضوع مُحرج جدا! وقف عدنان أمام الحوض وبدأ بتفريش أسنانه وهو يقول بلا مبالاة: لا أراه مُحرجًا، أنت ستذهب لتطلبها فقط منه، ولا تنس الاعتذار عن كل تلك الفترة التي انقطعت فيها عنه، لا تبررّها بهذا الموضوع الذي تشعر أنه مُحرج لك، فمهما كان يجب عليك الاستمرار في علاقتك مع الدكتور بكر حتى لو رفض طلبك! شعرتُ بالاكتئاب لمجرد تلك الفكرة، أن يرفض الدكتور بكر طلبي لعبير؟ يا له من احتمال مخيف! أكمل عدنان وهو يتمضمض بصوت مُزعج: بالإضافة إلى أنني إذا ذهبتُ معك ربما سيعتقد الدكتور بكر أنك ما زلت طفلا، ولكن إذا ذهبت لوحدك وأخبرته طلبك بكل حزم وقوة سيُعجب بك وتقطع نصف المسافة، ثم نأتي أنا ورقية إن شاء الله إذا حصل وفاق أو خطوبة، سيكون حضورنا عندها مقبولًا ومرّحبًا به! اتسعتْ عينيّ بصدمة، تريد أن تحضر الخطوبة فقط يا عدنان! جاء عدنان ووضع يده المبللّة على كتفي قائلا بجدّية: هيا يا بلال صدقني إذا قمت بالخطوة الأولى ستجد الموضوع أسهل مما تعتقد! صرخت منتفضا وأنا أبتعد عن يده المبللة وأطلق هو ضحكة عالية وهو يمضي إلى غرفته، قلتُ له مستوقفا: ولكنك يا عدنان لم تقم بهذه الخطوة من قبل! رغم أنك أكبر سنًّا، ألا يعني هذا أن لي الحق في الاضطراب والتوتر من هذا الموضوع؟ لم يلتفت عدنان وقال بلهجة اعتيادية: أنا لم أقم بهذه الخطوة لأنني لا أريد، لو كنتُ أريد لفعلتُها، لكنك تريد ولا تجرؤ على فعلها بسبب خجلك، هذا هو الفرق بيننا! قلتُ بامتعاض وأنا أنظر له بازدراء: أتعني أنك ستظلّ طول حياتك عازبًا؟ التفت إليّ ليُغلق الباب وقال مُشاكسا بابتسامة خبيثة: نعم، فالعيش مع أخوتي ممتع جدا! خصوصا معك! وأغلق الباب ببطء مطلقا ضحكات شريرة، تنهدتُ بأسى وضيق وأنا أرى الساعة تجاوزت التاسعة صباحًا.. ألقيتُ نظرة عابرة على الإفطار التي أرسلتْه لنا رقية، ابتسمتُ بحنان وأنا أتناول لقمتين، ثم أنظر بفزع إلى رسالة الدكتور بكر على هاتفي: "أنتظرك اليوم العاشرة صباحًا في منزلنا، بالمناسبة لقد غيرّنا العنوان، وهذا هو" .." مرحًبا بك يا بلال" كان قلبي واقعًا في معدتي حين رننتُ الجرس، كنت موقنًا بذلك حتى أنني حاولت تعديله ليصعد إلى صدري قليلًا لكن لا فائدة! حاولت تهدئة ضرباته في معدتي فعلى الأقل إذا كان لا يريد تغيير مكانه فليهدأ! تأملتُ المكان الجديد برهبة، المنزل الجديد للدكتور بكر، تُحيطه خضرة جميلة مع أزهار رائعة، يتكوّن من طابقين، بسيط للغاية ولكنّه أنيق، كعادة الدكتور بكر في اختيار ألوان هادئة تضفي البهجة والهدوء على النفس.. لكن أكثر ما تضايقتُ من أجله هو أنني لن أقابل عبد الله ابن جارتهم مرة أخرى، لقد كان الجيران بالفعل هم أفضل ميزة للمنزل السابق، تناسيتُ قلقي وحلّ مكانه الذهول حين فتح لي الباب عبد الله بوجه صبوح متبسّم، ضحك وهو يفتح ذراعيه لي قائلا: أهلًا بك بلال. تنازلتُ عن رهبتي وأنا أعانقه بحرارة هاتفًا: عبد الله، كيف حالك؟ كان عبد الله هو الآخر رجلًا طويلًا وعريضًا في الخامسة والعشرين من عمره، قلت له مازحًا: ليتني تذكرتُ ربع جنيه! فبمجرد أن تذكرتك حتى ظهرتَ وفتحت لي الباب. ضحك عبد الله بشدة وهو يُربت على ظهري، كنت أريد سؤاله عن سبب وجوده في هذا المنزل ولكنني رجّحتُ أنه يزور الدكتور بكر مثلي، شعرتُ بالإحراج من الدكتور بكر، فلقد أخبرتًه أنني أريد الحديث معه في موضوع خاص، كيف يوافق على زيارة عبد الله في هذا اليوم؟!! زاد التوتر علي وأنا جالس في غرفة الاستقبال الفخمة لوحدي وقد ذهب عبد الله لندائه، كم استغربتُ كثيرًا! هل تشعرون أن عبد الله يتجوّل بحرية قليلا؟ يفتح لي الباب ثم يذهب لنداء دكتور بكر؟ لله في خلقه شؤون.. على كل حال سأستجوبه عن ذلك لاحقًا. ابتسمتُ بصدق وحب وأنا أشعر بذراعي بكر الدافئتين على ظهري، شعرتُ بألم حزين حين تذكرتُ تقصيري معه في الفترة الماضية، لكنه لم يأتِ لي بسيرة عن ذلك أبدًا، رحّب بي بشدة وبالغ في إكرامي.. جلس بجانبي أمام المنضدة بثوب أبيض أنيق وشعره البنيّ الناعم رطب، يبدو أنه كان يتوضأ قبل مجيئي.. ابتسم بحب عميق وهو يقول مازحًا: هاه يا بلال أما زلت تريد الانتحار برغم كل هذه المميزات الرائعة فيك؟ ضحكتُ بشدة وأنا أتذكر هذا السؤال الذي يسأله الدكتور بكر لي ليذكّرني بحالتي قبل عشر سنوات، ظلّت المحادثة على وتيرة هادئة حتى أنستْني موضوعي الأساسي الذي جئت من أجله، ونسيت موضوع عبد الله الذي اختفى أيضًا مذ جئتُ! تبا، ماذا يفعل ذلك الوغد في الداخل؟! احتلّت ملامح الجدّية فجأة وجه الدكتور بكر وهو يقول مبتسما بهدوء: إذن، ما هي خططك للمستقبل يا بلال؟ ألن تتزوج؟ وقع قلبي مجددا في معدتي، يا الله! هذا الموضوع محرج جدا أمام الدكتور بكر، أعتقد أن نظراتي التصقت بالأرض، لم أعد قادرًا على رفع رأسي، أشعر وكأنني فتاة! كل الأشياء التي سخرتُ من وجودها في الفتيات انتقلت إلي وكأنها تسخر مني هي الأخرى! هل حان الوقت لأطلب منه يد عبير؟ كلّا، علي التأكد من عدم اقتراب عبد الله أو دخوله علينا فجأة، رفعتُ رأسي لأجد ما أفكر فيه حقيقة، لقد دخل عبد الله فعلا وهو يحمل صينية طعام الفطور! اضطربت قائلا: أنتم تمزحون، ما هذا بالله عليكم؟ أنا لم آت للإفطار.. ابتسم عبد الله بترحيب وهو يضع الصينية أمامي على المنضدة قائلا: إنها وجبة إفطار بسيطة أعدّتها عبير، وكذلك الفطير المشلتت أعدته أمي، يبدو أن مقولة الجميع عنك بسوء حظك مقولة خاطئة يا بلال فلو كنتَ كذلك ما كنتَ لتأتي اليوم! ابتسمتُ مجاملة على مزاحه وأنا أتأمل الطعام اللذيذ الذي أعدّته عبير، والفطير المشلتت الذي امتنعت سابقًا عن تناوله بسبب عبد الله وها أنا شهيتي تنفجر، خصوصا بعد أن قال الدكتور بكر: الإفطار ليس من أجلك فقط يا بلال، فنحن عادة نفطر في مثل هذا الوقت لنستطيع الذهاب لصلاة الجمعة باكرًا ^__^.. كدت أن أومأ برأسي موافقا لولا أن تجمدت حين فكرت في معنى كلمة نحن التي انطلقت من الدكتور بكر وكلمة "أعدتها عبير" التي انطلقت من فم عبد الله! هناك أمر خاطئ! رفعتُ رأسي بسرعة وأنا أقول لعبد الله بصدمة: من أحضر هذا الإفطار من عبير؟ كاد عبد الله أن يضحك لكنه كتم ضحكته ثم نظر إلي قائلا ببطء: أنا أعيش هنا يا بلال. عقدتُ حاجبيّ بعدم فهم، هل جاؤوا معهم إلى هنا للعيش؟ كل هذا رغبة في عدم فقدان جيرانهم؟ قلتُ بعصبية: ولو كنت تعيش هنا، ليس مبررا لما تفعله، ترى عبير بدون حجاب؟ أي رجل عديم المروءة أنت؟ ضحك عبد الله هذه المرة وهو يمدّ كفّه ليربت على كتفي: سوف أخبرك الحقيقة! ثم نظر إلي بعينين جادتّين قائلا بابتسامة: أنت تعلم يا بلال أن عبير فتاة متميزة، وأنها عروس مثالية لمن يتمنى الزواج، ولذلك أنا اتخذت خطوتي و.. قبل أن يُكمل كلامه التفتت إلى الدكتور بكر بتيْه شديد وأنا آخذ أنفاسي بصعوبة، كان ينظر إلي بتركيز وحذر وكأنه يريد تسجيل ردة فعلي بعينيه الاثنتين، لم أعلم ماذا أفعل، ابتسمتُ ابتسامة باهتة ذابلة وأنا أقوم واقفا لأقول لعبد الله: مبارك! _ |