●● لماذا لايحقُ للمرأة أن تحلم كما الرجال؟
دائمًا مايحتدُّ النقاش عندما يصلُ إلى قضايا المساواة بينَ الرجل والمرأة، لكننا أغفلنا أنّ اللهَ أحصى كُلَّ شئٍ في إمامٍ مُبين ..
سورةُ مريم على وجهِ الخصوص.
مريم، ..يا مريم..
كيف مررت بكل هذا؟
كيف احتملته؟ كيف تماسكت؟ كيف صمد صمودك؟!
كيف استطعت أن تفعلي ذلك، منذ أن عرفت...حتى النهاية؟
من أي شيء أنت يا مريم...بأي شيء عجن طينك الأرضي حتى أصبحت بهذه القوة..
يا مريم...لا يستطيع رجل أن يفهم هذا...لا يستطيع أن يتصوره..
لكن المرأة تستطيع... المرأة تستطيع أن تفهم ذلك..
وتشعر بك يا مريم...
*******
سورة مريم هي عن "المرأة الخارقة"..لكنها ليست خارقة بالمعنى الهوليوودي للكلمة...إنها عن المرأة الخارقة التي يمكن أن نراها كل يوم..ويمكن نتعامل معها كل يوم...بل ربما عشنا معها طيلة حياتنا...
لماذا هي خارقة ما دامت منتشرة هكذا؟ ببساطة لأن " الرجال" لا يستطيعون تحمل ما تتحمله المرأة "الخارقة" ..لذلك عندما يفكرون ويقيّمون ما تفعله، يكتشفون أنها خارقة "بالنسبة لهم"....رغم أن مفاهيم القوة احتكرت للرجل لفترة طويلة، إلا أن هناك نوعا من القوة لا يطيقه الرجل...ليست ضمن مجال احتكاره، بل هي محتكرة للمرأة...هذا النوع من القوة التي جعلتها مؤهلة لتحمل آلام الولادة، هذا الجلد والصبر الذي يجعلها قادرة على تحمل أعباء العناية بطفلها..وأحيانا بعدة أطفال، بالإضافة إلى أكبرهم ، وربما أصعبهم، زوجها...
وهذا كله بالإضافة إلى البيت ومتطلباته وربما وظيفة لا تقل إرهاقا عن وظيفة زوجها...تركض هذه المرأة بين عدة جبهات وتنتصر فيها جميعا..وقد تكون مريضة أو نفساء أو مرضع أثناء ذلك..ولكن كل شيء يسير غالبا حسب المعتاد، دون أن ينتبه أحد أصلا لها...بينما قد يدخل المنزل في حالة طوارئ إذا أصيب الرجل بالزكام...
لا أقول أن السيدة مريم كانت خارقة بهذا المعنى...لا..هي أعلى بكثير من هذا الخارق " الموجود"...لكن من هذا الباب..دلفت مريم إلى ألمها..وأيضا إلى مجدها..
مريم اختزنت كل ألام نساء العالم، وكل صبرهن وجلدهن..هي ممثلة عنهن جميعا، تنوب عنهن وقد تقطرت كل تجاربهن ومعاناتهن عبرها..
منذ أن ولدت مريم، وهي منذورة لكي تثبت أن المرأة يمكنها أن تقوم مقام الرجل...كما جاء في سورة آل عمران...
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ... فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ
أمها كانت تريد ذكرا تهبه لله ( حسب التشريع اليهودي)...لكن مريم أنثى..ومن تلك اللحظة كان على مريم أن تثبت ما على ملايين، مئات الملايين من النساء، أن يثبتنه...ليست الأنثى أقل من الذكر...هي ليست كالذكر، لكنها ليست أقل منه..,ويمكنها أن تقوم بالكثير مما يمكنه هو أن يقوم به...كما يمكنها أن تقوم هي بما لا يمكنه هو أن يفعله...
هذا التحدي يواجه الكثير من الإناث على نحو يجعل حياتهن بأسرها مبرمجة على أساسه ...قصة يبدو أنها لن تنتهي منذ فجر التاريخ...تدخل المرأة في دور المرأة الخارقة التي تحارب وتنتصر على كل الجبهات...
كانت لا تزال جنينا في بطن أمها يوم بدأ التحدى، لم يكن من المعتاد تقديم الإناث للخدمة الدينية، وكان الفرض في الشريعة عندهم تقديم الطفل الأول إذا كان ذكرا وليس أنثى..ولكن أمها كانت نذرتها ..وأوفت بالنذر...وكان على مريم أن تقوم مقام الذكر، وأبلت في ذلك بلاء خارقا...بل أكثر من ذلك..قامت بدور ما كان يمكن لذكر أن يفعله...
قد يتخيل الرجال ما مرت به السيدة مريم...لكني أعتقد أن خيالنا يبقى قاصرا مقابل ما يمكن أن تفهمه المرأة من ذلك..أن تكون شريفة لم يمسسها بشر في بيئة شديدة التدين والمحافظة، ثم أن تبلغ بالخبر الصاعق: حبلى...
الخوف. العار. القيل والقال. الفضيحة.التكذيب. العار. العار.
كل هذا وأوجاع الحمل التقليدية أيضا...
وهي بمفردها...
نستطيع كرجال أن نتخيل...لكني أعتقد أن الصورة في اذهان النساء ستكون أوضح وأدق..
******
ثم أجاءها المخاض إلى جذع النخلة..
تخيلوا المخاض وهي وحدها...تذكروا كيف تكون الاستعدادت اليوم..ثم تخيلوا الأمر..وحدها...في العراء...وطفل أول..دون تجربة سابقة تسهل عليها أنها بمفردها...نعم لا بد أن ذلك قد حدث قبل وبعد..نسوة أضطررن أن يلدن في الخفاء وبمفردهن...لكنه يبقى أمرا صعبا شديد الصعوبة...
وكان مخاضها مؤلما...أجاءها من ألمه إلى جذع النخلة...أضطرها إلى أن تلوذ بجذع النخلة..تتمسك به لعل ذلك يخفف ألمها..
وهناك تساقط عليها " رطبا جنيا"..
وعندما عادت إلى قومها، كانوا يظنون أنها جاءت تحمل عارها..
بينما كانت في الواقع...تحمل مجدها...كلمة الله...
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ
******
لا يمكنن أن أسمع تلك الآيات التي تقص قصة مريم وحملها دون أن يتسلل إلى خيالي صوت جعفر بن أبي طالب وهو يقرأها أمام النجاشي...يوم هاجر المسلمون إلى الحبشة فرارا من أذى قريش، وارسلت قريش خلفهم من يطلب من النجاشي تسليمهم...
أتخيل صوته الذي لم أسمعه من قبل وهو يقرأ الآيات...
.
تخيلوه..تخيلوا الكلمات تخرج من جعفر..ويعم الصمت فاسحا المجال لذلك النور المتدفق حزنا ورقة...تخيلوها وهي تتجول في القصر والملك وحوله حاشيته..
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا
وضعتهم الآيات في قلب أزمة مريم..الأزمة التي جعلتها تتمنى لو أنها ماتت ونسيت تماما..ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا...إمرأة في أزمة..وحيدة...على وشك أن تواجه اتهامات العار والفضيحة من قومها..
كم تشبه أولئك الغرباء المهاجرين الذين كان قومهم يريدون يرجعوهم غصبا وقهرا لينالوا منهم سوء العذاب...
لا بد أنهم سمعوا الآيات كما لو كانت تنزل للتو..كما لو أنهم يسمعونها أول مرة..
كانوا بضعة وثمانين رجلا وزوجاتهم..
كلهم أحسوا أنهم، مريم...
****
ونحن أيضا، البعض منا على الأقل، أجاءنا مخاضنا إلى جذوع نخل...لا...لم تكن جذوع نخل بالضبط..كانت قوارب هجرة...أحيانا كانت مجرد قشة...وتعلقنا بها تعلق الغريق...
لكن مخاضنا...لم ينته عند النخلة..ولا برطب جني....
لم ينته بعد...
*****
لا يمكن لقارئ سورة مريم أن يغفل عن تكرار ذكر لفظ " الرحمن" فيها...11 مرة ذكرت الكلمة في سورة مريم ( عدا البسملة)..لا يوجد أي سورة أخرى في القرآن تقترب من ذلك...وأقرب شيء إلى ذلك هي سور الأنبياء ويس و الملك، وكل منها ذكرت الكلمة فيها 4 مرات...
صدفة؟ حاشا لله.
لعله عز وجل هنا يشير لنا إلى معاني الرحمة التي تشير إليها لفظة الرحمن..فيربطنا بمريم..بالأم..بالمرأة الخارقة...هل هناك أكثر رحمة من الأم بين البشر؟ ..أليس معنى الرحمة قد جاء من " الرحم"...أم العكس؟ لا فرق...لكن رحمة الأمهات أمر لا خلاف عليه...حتى في قسوتهن أحيانا...ثمة رحمة...تكون من أجل مصلحة أبنائهن وبناتهن...
كما لو أنه عز وجل قد شاء أن يقربنا من معنى "الرحمن" عبر أوسع واقرب ما نعرفه من معاني الرحمة...
******
في نفس السورة، على بعد آيات من قصة مريم، يأتينا مشهد لسيدنا إبراهيم في مواجهة مع أبيه....قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا
الأمهات عادة لا يفعلن ذلك..رحمتهن تمنعهن من قول ذلك مهما كان موقفهن ..لديهن أساليب " مضادة" أخرى طبعا..لكن هذا النمط نادر عند النساء...
******
وفي نهاية السورة تقريبا...
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا..
الود؟
كم هو مناسب هذا لجو السورة..ولمريم عليها السلام..
****
تختصر كل النساء..وتمثلهن أيضا...
السيدة العذراء، رمز النقاء والرحمة والأمومة...
مريم...
مريمتنا جميعا...
ملحوظة: جزء جعفر مقتبس من "السيرة مستمرة"