جعفر بن أبي طالب
أشبهت خلقي، وخلقي
نسبة رضى الله عنه أشبهت خلقي، وخلقي
هو جعفر بن ابي طالب , ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخو على بن أبى طالب لأبويه.
فضائله رضى الله عنه
انظروا جلال شبابه..
انظروا نضارة أهابه..
انظروا أناته وحلمه، حدبه، وبرّه، تواضعه وتقاه..
انظروا شجاعته التي لا تعرف الخوف.. وجوده الذي لايخاف الفقر..
انظروا طهره وعفته..
انظروا صدقه وأمانته...
انظروا فيه كل رائعة من روائع الحسن، والفضيلة، والعظمة، ثم لا تعجبوا، فأنتم أمام أشبه الناس بالرسول خلقا، وخلقا..
أنتم أمام من كنّاه الرسول بـ أبي المساكين..
أنت تجاه من لقبه الرسول بـ ذي الجناحين..
أنتم تلقاء طائر الجنة الغريد، جعفر بن أبي طالب..!! عظيم من عظماء الرعيل الأول الذين أسهموا أعظم اسهام في صوغ ضمير الحياة..!!
جعفر بن أبى طالب خطيب المهاجرين
أقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم مسلما، آخذا مكانه العالي بين المؤمنين المبكرين..
وأسلمت معه في نفس اليوم زوجته أسماء بنت عميس..
وحملا نصيبهما من الأذى ومن الاضطهاد في شجاعة وغبطة..
فلما اختار الرسول لأصحابه الهجرة الى الحبشة، خرج جعفر وزوجه حيث لبيا بها سنين عددا، رزقا خلالها بأولادهما الثلاثة محمد، وعبد الله، وعوف...
وفي الحبشة كان جعفر بن أبي طالب المتحدث اللبق، الموفق باسم الاسلام ورسوله..
ذلك أن الله أنعم عليه فيما أنعم، بذكاء القلب، واشراق العقل، وفطنة النفس، وفصاحة اللسان..
ولئن كان يوم مؤتة الذي سيقاتل فيه فيما بعد حتى يستشهد.. أروع أيامه وأمجاده وأخلدها..
فان يوم المحاورة التي أجراها أمام النجاشي بالحبشة، لن يقلّ روعة ولا بهاء، ولا مجدا..
لقد كان يوما فذّا، ومشهدا عجبا..
وذلك أن قريشا لم يهدئ من ثورتها، ولم يذهب من غيظها، ولم يطامن كم أحقادها، هجرة المسلمين الى الحبشة، بل خشيت أن يقوى هناك بأسهم، ويتكاثر طمعهم.. وحتى اذا لم تواتهم فرصة التكاثر والقوّة، فقد عز على كبريائها أن ينجو هؤلاء من نقمتها، ويفلتوا من قبضتها.. يظلوا هناك في مهاجرهم أملا رحبا تهتز له نفس الرسول، وينشرح له صدر الاسلام..
هنالك قرر ساداتها ارسال مبعوثين الى النجاشي يحملان هدايا قريش النفيسة، ويحملان رجاءهما في أن يخرج هؤلاء الذين جاءوا إليها لائذين ومستجيرين...
وكان هذان المبعوثان: عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وكانا لم يسلما بعد.
كان النجاشي الذي كان يجلس يومئذ على عرش الحبشة، رجلا يحمل إيمانا مستنيرا.. وكان في قرارة نفسه يعتنق مسيحية صافية واعية، بعيدة عن الانحراف، نائية عن التعصب والانغلاق...
وكان ذكره يسبقه.. وسيرته العادلة، تنشر عبيرها في كل مكان تبلغه..
من أجل هذا، اختار الرسول صلى الله عليه وسلم بلاده دار هجرة لأصحابه..
ومن أجل هذا، خافت قريش ألا تبلغ لديه ما تريد فحمّلت مبعوثيها هدايا ضخمة للأساقفة، وكبار رجال الكنيسة هناك، وأوصى زعماء قريش مبعوثيها ألا يقابلا النجاشي حتى يعطيا الهدايا للبطارقة أولا، وحتى يقنعاهم بوجهة نظرهما، ليكونوا لهم عونا عند النجاشي.
وحطّ الرسولان رحالهما بالحبشة، وقابلا بها الزعماء الروحانيين كافة، ونثرا بين أيديهم الهدايا التي حملاها إليهم.. ثم أرسلا للنجاشي هداياه..
ومضيا يوغران صدور القسس والأساقفة ضد المسلمين المهاجرين، ويستنجدان بهم لحمل النجاشي، ويواجهان بين يديه خصوم قريش الذين تلاحقهم بكيدها وأذاها.
وفي وقار مهيب، وتواضع جليل، جلس النجاشي على كرسيه العالي، تحفّ به الأساقفة ورجال الحاشية، وجلس أمامه في البهو الفسيح، المسلمون المهاجرون، تغشاهم سكينة الله، وتظلهم رحمته.. ووقف مبعوثا قريش يكرران الاتهام الذي سبق أن ردّداه أمام النجاشي حين أذن لهم بمقابلة خاصة قبل هذ الاجتماع الحاشد الكبير:
" أيها الملك.. انه قد ضوى لك إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، بل جاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم، أعمامهم، وعشائرهم، لتردّهم إليهم"...
وولّى النجاشي وجهه شطر المسلمين، ملقيا عليهم سؤاله: " ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، واستغنيتم به عن ديننا"..؟؟
ونهض جعفر قائما.. ليؤدي المهمة التي كان المسلمون المهاجرون قد اختاروه لها ابّان تشاورهم، وقبل مجيئهم إلى هذا الاجتماع..
نهض جعفر في تؤدة وجلال، وألقى نظرات محبّة على الملك الذي أحسن جوارهم وقال:" يا أيها الملك.. كنا قوما أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان..
وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء..
ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات.. فصدّقناه وآمنّا به، واتبعناه على ما جاءه من ربه، فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فغدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان، والى ما كنّا عليه من الخبائث..
فلما قهرونا، وظلمونا، وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك"...
ألقى جعفر بهذه الكلمات المسفرة كضوء الفجر، فملأت نفس النجاشي إحساسا وروعة، والتفت إلى جعفر وسأله:" هل معك مما أنزل على رسولكم شيء"..؟
قال جعفر: نعم..
قال النجاشي: فاقرأه علي..
ومضى جعفر يتلو لآيات من سورة مريم، في أداء عذب، وخشوع فبكى النجاشي، وبكى معه أساقفته جميعا..
ولما كفكف دموعه الهاطلة الغزيرة، التفت إلى مبعوثي قريش، وقال: " ان هذا، والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة..انطلقا فلا والله، لا أسلمهم إليكما"..!!
انفضّ الجميع، وقد نصر الله عباده وآزرهم، في حين رزئ مندوبا قريش بهزيمة منكرة..
لكن عمرو بن العاص كان داهية واسع الحيلة، لا يتجرّع الهزيمة، ولا يذعن لليأس..
وهكذا لم يكد يعود مع صاحبه الى نزلهما، حتى ذهب يفكّر ويدبّر، وقال لزميله: " والله لأرجعنّ للنجاشي غدا، ولآتينّه عنهم بما يستأصل خضراءهم"..
وأجابه صاحبه: " لا تفعل، فان لهم أرحاما، وان كانوا قد خالفونا"..
قال عمرو: " والله لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد، كبقية العباد"..
هذه إذن هي المكيدة الجديدة التي دبّرها مبعوث قريش للمسلمين كي يلجئهم إلى الزاوية الحادة، ويضعهم بين شقّي الرحى، فان هم قالوا عيسى عبد من عباد الله، حرّكوا ضدهم أضغان الملك والأساقفة.. وان هم نفوا عنه البشرية خرجوا عن دينهم...!!
وفي الغداة أغذا السير إلى مقابلة الملك، وقال له عمرو: " أيها الملك: انهم ليقولون في عيسى قولا عظيما".
واضطرب الأساقفة..
واهتاجتهم هذه العبارة القصيرة..
ونادوا بدعوة المسلمين لسؤالهم عن موقف دينهم من المسيح..
وعلم المسلمون بالمؤامرة الجديدة، فجلسوا يتشاورون..
ثم اتفقوا على أن يقولوا الحق الذي يسمعون من نبيهم عليه الصلاة والسلام، لا يحيدون عنه قيد شعرة، وليكن ما يكن..!!
وانعقد الاجتماع من جديد، وبدأ النجاشي الحديث سائلا جعفر:
"ماذا تقولون في عيسى"..؟؟
ونهض جعفر مرة أخرى كالمنار المضيء وقال:" نقول فيه ما جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه"..
فهتف النجاشي مصدّقا ومعلنا أن هذا هو ما قاله المسيح عن نفسه..
لكنّ صفوف الأساقفة ضجّت بما يسبه النكير..
ومضى النجاشي المستنير المؤمن يتابع حديثه قائلا للمسلمين: " اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي، ومن سبّكم أو آذاكم، فعليه غرم ما يفعل"..
ثم التفت صوب حاشيته، وقال وسبّابته تشير الى مبعوثي قريش: " ردّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها...فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردّ عليّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه"...!!
وخرج مبعوثا قريش مخذولين، حيث وليّا وجهيهما من فورهما شطر مكة عائدين إليها...
وخرج المسلمون بزعامة جعفر ليستأنفوا حياتهم الآمنة في الحبشة، لابثين فيها كما قالوا:" بخير دار.. مع خير جار.." حتى يأذن الله لهم بالعودة إلى رسولهم وإخوانهم وديارهم...
سعادة النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم جعفر
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتفل مع المسلمين بفتح خيبر حين طلع عليهم قادما من الحبشة جعفر بن أبي طالب ومعه من كانوا لا يزالون في الحبشة من المهاجرين..
وأفعم قلب الرسول عليه الصلاة والسلام بمقدمة غبطة، وسعادة وبشرا..
وعانقه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " لا أدري بأيهما أنا أسرّ بفتح خيبر.. أم بقدوم جعفر..".
جهاده واستشهاده رضى الله عنه
وكانت غزوة مؤتة التي أسلفنا الحديث عنها، تتحرّك راياتها في الأفق متأهبة للزحف، وللمسير..
ورأى جعفر في هذه الغزوة فرصة العمر، فأما أن يحقق فيها نصرا كبيرا لدين الله، وإما أن يظفر باستشهاد عظيم في سبيل الله..
وتقدّم من رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجوه أن يجعل له في هذه الغزوة مكانا..
كان جعفر يعلم علم اليقين أنها ليست نزهة.. بل ولا حربا صغيرة، إنما هي حرب لم يخض الإسلام منها من قبل.. حرب مع جيوش إمبراطورية عريضة باذخة، تملك من العتاد والأعداد، والخبرة والأموال ما لا قبل للعرب ولا للمسلمين به، ومع هذا طار شوقا إليها، وكان ثالث ثلاثة جعلهم رسول الله قواد الجيش وأمراءه..
وخرج الجيش وخرج جعفر معه..
والتقى الجمعان في يوم رهيب..
وبينما كان من حق جعفر أن تأخذ الرهبة عنده عندما بصر جيش الروم ينتظم مائتي ألف مقاتل، فانه على العكس، أخذته نشوة عارمة إذا أحس في أنفه المؤمن العزيز، واعتداد البطل المقتدر أنه سيقاتل أكفاء له وأندادا..!!
وما كادت الراية توشك على السقوط من يمين زيد بن حارثة، حتى تلقاها جعفر باليمين ومضى يقاتل بها في إقدام خارق.. إقدام رجل لا يبحث عن النصر، بل عن الشهادة...
وتكاثر عليه وحوله مقاتلي الروم، و رأى فرسه تعوق حركته فاقتحم عنها فنزل.. وراح يصوب سيفه ويسدده إلى نحور أعدائه كنقمة القدر.. ولمح واحدا من الأعداء يقترب من فرسه ليعلو ظهرها، فعز عليه أن يمتطي صهوتها هذا الرجس، فبسط نحوها سيفه، وعقرها..!!
وانطلق وسط الصفوف المتكالبة عليه يدمدم كالإعصار، وصوته يتعالى بهذا الزجر المتوهج:
يا حبّذا الجنة واقترابها طيّبة، وبارد شرابها
والروم روم، قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إذا لاقيتها ضرابها
وأدرك مقاتلو الروم مقدرة هذا الرجل الذي يقاتل، وكأنه جيش..
وأحاطوا به في إصرار مجنون على قتله.. وحوصر بهم حصارا لا منفذ فيه لنجاة..
وضربوا بالسيوف يمينه، وقبل أن تسقط الراية منها على الأرض تلقاها بشماله.. وضربوها هي الأخرى، فاحتضن الراية بعضديه..
في هذه اللحظة تركّزت كل مسئوليته في ألا يدع راية رسول الله صلى الله عليه وسلم تلامس التراب وهو حيّ..
وحين تكّومت جثته الطاهرة، كانت سارية الراية مغروسة بين عضدي جثمانه، ونادت خفقاتها عبدالله بن رواحة فشق الصفوف كالسهم نحوها، أخذها في قوة، ومضى بها إلى مصير عظيم..!!
وهكذا صنع جعفر لنفسه موتة من أعظم موتات البشر..!!
وهكذا لقي الكبير المتعال، مضمّخا بفدائيته، مدثرا ببطولاته..
حزن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون على جعفر رضى الله عنه
وأنبأ العليم الخبير رسوله بمصير المعركة، وبمصير جعفر، فاستودعه الله، وبكى..
وقام إلى بيت ابن عمّه، ودعا بأطفاله وبنيه، فقبّلهم، وذرفت عيناه..
ثم عاد إلى مجلسه، وأصحابه حافون به. ووقف شاعر الإسلام حسّان بن ثابت يرثي جعفر ورفاقه:
إلى الموت ميمون النقيبة أزهر | غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم | |
أبيّ إذا سيم الظلامة مجسر | أغرّ كضوء البدر من آل هاشم | |
لمعترك فيه القنا يتكسّر | فطاعن حتى مال غير موسد | |
جنان، ومتلف الحدائق أخضر | فصار مع المستشهدين ثوابه | |
وفاء وأمرا حازما حين يأمر | وكنّا نرى في جعفر من محمد | |
دعائم عز لا يزلن ومفخر | فما زال في الإسلام من آل هاشم |
يوما بمؤتة، أسندوا لم ينقلوا | وجدا على النفر الذين تتابعوا | |
وسقى عظامهم الغمام المسبل | صلى الإله عليهم من فتية | |
حذر الردى، ومخافة أن ينكلوا | صبروا بمؤتة للإله نفوسهم | |
قدّام أولهم، فنعم الأول | إذ يهتدون بجعفر ولواؤه | |
حيث التقى وعث الصفوف مجدّل | حتى تفرّجت الصفوف وجعفر | |
والشمس قد كسفت، وكادت تأفل | فتغير القمر المنير لفقده |
يقول أبو هريرة: " كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب"...
أجل كان أجود الناس بماله وهو حيّ.. فلما جاء أجله أبى الا أن يكون من أجود الشهداء وأكثرهم بذلا لروحه وحيته..
يقول عبد الله بن عمر: " كنت مع جعفر في غزوة مؤتة، فالتمسناه، فوجدناه وبه بضع وتسعون ما بين رمية وطعنة"..!!
بضع وتسعون طعنة سيف ورمية رمح..؟؟!!
ومع هذا، فهل نال القتلة من روحه ومن مصيره منالا..؟؟
أبدا.. وما كانت سيوفهم ورماحهم سوى جسر عبر عليه الشهيد المجيد إلى جوار الله الأعلى الرحيم، حيث نزل في رحابه مكانا عليّا..
انه هنالك في جنان الخلد، يحمل أوسمة المعركة على كل مكان من جسد أنهكته السيوف والرماح..
وان شئتم، فاسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لقد رأيته في الجنّة.. له جناحان مضرّجان بالدماء.. مصبوغ القوادم"...!!!