(18) كنت أحاول ربط حذائي الجديد بيد واحدة، أجلس على سريري وأرتدي سترة سوداء فوق ملابسي القطنية واشترى لي الدكتور بكر بنطال جينز أزرق مُدّعيا أنه سيبقى معي طول عملي، حاولت أن أنحني أكثر لكي أتمكن من ربط الحذاء.. لكن جفلت بشدة حين فوجئت برأس الدكتور بكر، لقد انحنى لكي يربط الحذاء لي! أبعد يدي برفق وهو يقول ببساطة: اتركه لي. لقد كنت أرتجف، فأنا موضع استحقار الناس واستفزازهم، كانوا ينظرون لي كأني كائن من فصيلة حيوانات، ولكنه يتعامل معي وكأنني.. وكأنني شخص عادي! تأملتّه بتركيز شديد وهو يربط الحذاء ولا أرى من رأسه إلا شعره الناعم البنّي، تسقط بعض خصلاته على جبينه العريض، حتى رفع رأسه قائلا بودّ: انتهيت! في سيارته، كانت أول مرة أخرج فيها بكل هذه الأريحية، أجلس على المقعد المُجاور له، أنظر منبهرا إلى داخل السيارة وخارجها! مررنا على شارع مألوف بالنسبة لي، شارع وسط المدينة، فقد كنت أعمل فيه شحاذًّا فيما مضى! اتسعت عيناي وأنا أحدّق في المكان الذي كنت أعتكف فيه، أو أقف فيه بصندوق المناديل، أو أنام بجانب أختيّ زهرة ونسمة، أو أصاب بضربة شمس! يا الله، لم أكن أتخيل يومًا وأنا أتسوّل، أنني سأجلس ذات يوم، في تلك السيارات الملّاكية الفخمة، أنظر إلى هؤلاء الأطفال البؤساء.. أنا حقا منبهر، لا أكاد أصدق نفسي. في المستشفى كان فك الجبس سهلا جدا، لكن يدي لم تكن تتحرك إلا بصعوبة، أخبرني الطبيب أن هذا طبيعي، نظر الطبيب إلى الدكتور بكر قائلا: عليك الاعتناء بابنك جيدا، حتى يتعافى تمامًا من إصاباته ويعود بصحة وحيوية كما كان. عندما نظر لي نظرات مُرحًّبة بادلته نظرة خالية من المعاني، طول الطريق وأنا معه كان يشير على أماكن ومتاجر عديدة يشرح لي مكانتها ويتذكر بعض الذكريات عنها! بعد ذلك جلستٌ أفكر.. أفكر في إخوتي.. لقد أصبحت إنسانًا آخر بالكليّة، فلم أتوقع في يوم من الأيام أن أذهب إلى عيادة ويُشترى لي دواء وأركب سيارة فاخرة! يا ترى ما حالُ رقية الآن؟ عندما عدُت كانت عبير ماتزال نائمة، سمع الدكتور بكر أذان المغرب وهو يقف على باب غرفتها، فابتسم بهدوء وهو يتلفت إلي: هل أطلب منك شيئا يا بلال؟ أومأت برأسي أيْ نعم، وأنا أنتبه له، فقال: لدي بضاعة بالغة الأهمية وصلت اليوم عصرًا، ويجب علي الذهاب سريعًا إلى المتجر، هناك أمور عليّ إنهاؤها، لذا، هل تستطيع الاعتناء بها ريثما أعود؟ قلت موافقا: بالطبع.. ظهر في عينيه الرضا وهو يفتح الباب على عجل: إذن، هناك حساء خضروات فوق الرخام في المطبخ، وحليب في الثلاجة، تستطيع التصرف صحيح؟ ثم أعاد علي محذرا برجاء: أتمنى أن تجعلها تأكل.. لم تأكل مذ جاءت من المدرسة! ثم خرج من الباب مسرعًا، أخذت نفسًا عميقًا وأنا أستدير، لرؤية عبير النائمة، وعلى وجهها عدة كدمات وخدوش، حسنًا.. هل كانت تريد المجيء معي لفك جبسي؟ ها هي قد سقطت وتعلمت عاقبة العجلة -_-. ذهبت إلى المطبخ وحاولت تحضير الطعام، لم أستطع تسخين حساء الخضار، فلم أكن سابقًا أستطيع استخدام الأفران المتقدمة، أخذت الصحن وتوجهت إلى عبير، جلست بجانب سريرها، قلت بهدوء: عبير. بعد عدة دقائق فتحت عينيها، أخذت وقتا حتى تعرفت علي، ثم قامت ببطء وهي تفرك عينيها قائلة بنعاس: ماذا فعلت في العيادة؟ هل فككت الجبس؟ وضعت الصحن على طاولة قريبة وأنا أقول: بالتأكيد، لقد أصبحت يدي المكسورة تتحرك. ثم ابتسمت لها وأنا أحرّكها ببطء وأقول: لكنها تتحرك بصعوبة بعض الشيء. نظرت إلى يدي بتركيز ثم قالت بحنان وقلق: هل شعرت بألم وأنت تفك الجبس؟ نظرت لها بدهشة ثم ابتسمت وهززت رأسي بـ لا، ابتسمت باطمئنان ورضا وهي تستوي جالسة على سريرها، قلت بعد صمت: أحضرت لك الطعام، يجب أن تأكليه. أطرقت برأسها واحمّر وجهها وهي تغمغم: ولكنني لا أريد. أخذت الصحن ولم أعرف ماذا أفعل؟ شعرت بحيرة كبيرة وبدأت قطرات العرق تتسرب فوق جبيني رغم الشتاء، نظرت مليًّا إلى الطبق ثم إليها ورفعت الملعقة قائلا باضطراب: يجب أن تأكلي حتى لو اضطرت لفعل ذلك بنفسي! قرّبتُ الملعقة من فمها فنظرت لي بصدمة ثم رفعت كفّها وضربت الملعقة فسقط الحساء على الأرض. عيناها اتسّعت، وانفجرت في الضحك بدون أن أفهم أي شيء. نظرت لها باستغراب وتضايق، كم أحسست بإهانة، هكذا يا عبير؟! قلت بضيق: ما الذي فعلتِه؟ لم تتمالك نفسها من الضحك وهي تقول بصوت متقطع: ألا تذكر.. أول يوم؟ منذ شهر؟ لقد فعلت ذلك! أكملت ضحكها الهستيري وأنا أنظر بدهشة، بدأت أفهم الأمر وأنا أتذكر أول يوم لي، حين قدمت لي الطعام فضربت يدها بالفعل وسقط الحساء على قدمها وأحرقها.. إذن هي تردّ الثأر؟ حاولت كتم الابتسامة التي كادت تظهر، ثم قلت بهدوء: حسنا، هل ستأكلين أم لا؟ هدأت بعد ضحكها ثم حدقت إلي قائلة بخبث: بل سآكل.. كنت أقلدك فحسب. عقدت حاجبيّ، ثم قلت بخوف: عبير.. شفتاك تنزفان. ظهر على وجهها الدهشة والألم ثم لمستهما وهي تنظر إلى إصبعها الدامي، قالت وهي تتألم: بسبب الضحك.. إنها تؤلمني، جرح شفتي يٌفتح حين أضحك! ناولتها منديلا وأنا أراقبها باهتمام، جففت الدم وهي تغمض عينيها ثم قلت لها بحسم: إذن لا تضحكي. بدت وكأنها على وشك الابتسام، أخذت الطبق من يدي وقالت: سوف آكل. أكلت ثلاث ملاعق بالضبط وأنا أراقبها، في كل مرة كانت تبتلع الخضروات دون مضغها، في المرة الرابعة بلعتها بصعوبة ولمحتُ دموعها تظهر وهي تتشنج في مكانها.. أخذت الطبق من يدها حين ناولته لي وهي ممتقعة الوجه، سألتها بقلق: ماذا؟ قوّست فمها للأسفل وهي تقول بألم: جروح لثّتي.. لا أستطيع.. الاستمرار! قلت بجدّية وحسم: لا.. يجب أن تُكملي.. أنت لم تأكلي شيئا منذ أتيت! لكنها وضعت يدها على فمها وهي تقوم مسرعة.. لحقتها في وجل إلى الحمام فرأيتها تتمضمض بالماء ثم تخرجه مخلوطًا بالدم، كم هذا مُخيف ومقشعر! بدأت بالبكاء، كان علي أن أفعل شيئا، لكنني لم أكن قادًرا، كنت مسمّرا في مكاني وحسب. ماذا أفعل مثلًا؟ تبعتها وهي تنام على السرير وهي حزينة جدا. قلت متسائلا بإشفاق: ماذا تريدين أن أفعل لكي أخفف عنك الألم؟ نظرت لي ببطء، ثم حدقت بي: اقرأ لي شيئًا من القرآن! فتحت فاهي بدهشة: ماذا تقولين؟ رددت بإصرار: اقرأ لي قرآنًا، من أي سورة تحفظها! شعرت بورطة حقيقية! ماذا أحفظ من القرآن؟ لا شيء.. لا يوجد!! تعرقت وأنا أقول بتوتر شديد: قرآن؟ همستْ بإعياء: نعم، عندما يقرؤه أبي لي أنام وأهدأ. حدقت فيها مصدومًا، اختنقتْ بالدموع وهي تضع يدها على فمها مجددا. هيا حاول يا بلال.. أن تتذكر.. تذكر.. ماذا تحفظ؟ قرآن. لقد حفظت منه الكثير قبل ذلك، نعم حفظت، لكن لم لا أتذكر.. ماهي السورة التي أسمعها كثيرًا...؟ ماهي؟ الحمد لله؟ آه نعم، هذه بدايتها، الحمد لله رب العالمين.. قلت لها بلهفة: سوف أفعل، اهدئي الآن! كتمت أنينها وهي تنظر لي بترقب، ابتسمت وأنا أناولها المناديل، ثم أحاول السيطرة على أعصابي وتمالك توتري.. وبدأت أقرأ لها.. حاولت تقليد طريقة الشيوخ الذين يصلّون في المساجد، ابتسمتْ بتعب ثم أغمضت عينها. قلت بعد قراءتي: هل ذهب الألم؟ لكنها لم ترد، لقد نامت! بهذه السرعة؟ يا لها من طفلة! _ ظلّ بلال يتأملها عدة دقائق بعد نومها، أهدابها المبللة، بقايا الدموع على خديّها الحمراويّين وجهها الباهت، قطرات دماء في شفتها وبين أسنانها، شعرها المضفور من خلفها والذي تبعثر بشدة حتى خرجت خصل عدة منه على وجهها، لم تكن بملابس المدرسة فقد ساعدها بكر على تغييرها. إنها حقا نقية القلب! زفر في راحة وهو يغطيها ببطء وحذر ثم أغلق الضوء واتجه إلى غرفته، أخرج دفتره، وبدأ بالكتابة، عليه أن يتدرب جيدًا على ذلك! شعر بالنعاس لكنه لم يستسلم له، فبكر لم يأت بعد، عليه أن يصبر حتى يأتي ثم ينام مطمئنا على عبير. بعد ساعة كاملة كانت عيناه تُغلق دون إرادته، ورأسه تميل إلى الأسفل.. إذا ظلّ جالسا على السرير سوف ينام حتما، أغلق الدفتر وهو يضعه على الخزانة، سمع صوت ماء مُنساب، خرج مسرعا ليرى عبير في الحمام، تئن وهي تتمضمض، سألها بخوف: ما الأمر؟ نظرت له ثم أكملت غسل فمها وقالت بصوت حزين: لم أصل المغرب ولا العشاء! علي أن أصليهما. قال باحتجاج: لكنك متعبة الآنّ! لا يجب عليك ذلك. قالت بإصرار: لا، يجب علي ذلك. سكت قليلا وهو يفكر، ألهذه الدرجة تريد أن تتوضأ للصلاة حتى لو تعذبت؟! |