السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كيف حالكم مع الامتحانات^^ وفقكم الله وألهمكم الإجابات الصحيحة يارب أعلم أنه جزء قصير ولكن لمساعدتكم على المذاكرة (6) جلس عثمان وطارق في مساء نفس اليوم على طاولة في أحد المطاعم، وبدأ عثمان الحديث مندفعًا: أستاذ طارق، إن ابنك مجنون! لقد تجمهر الصحفيون على والدي عند خروجه وعرفوا بخبر هروبه، وهكذا تأكد الجميع أن بهاء هو بهابيهو.. يا إلهي.. لا أعرف كيف يفكر بهاء؟! ابتسم طارق وهو يكاد يضحك على عثمان الذي كان منفعًلا للغاية حينها، ثم قال: هلّا شرحت لي أولا ماذا حدث منذ البداية حتى أفهم ما فعله ابني؟ أخبره عثمان بكل الأحداث التي حصلت حتى هروب بهاء، بعد ذلك ابتسم طارق وقد فهم عقليّة ابنه، قال عثمان متسائلا: الآن هل فهمت أسبابه؟ قال طارق: نعم فهمتها! ولكنها تحتاج إلى تأكيد، وأنا لا أقول شيئا لست متأكدا منه! -حسنا أخبرني بها أرجوك! - عثمان ضع في احتمالاتك أن بهاء من الممكن أن يكون مخطئا في فعله هذا وأنه لم يُحسن دراسة وضعه وأهدافه جيدا، لا تنس أنه كان مضطربا ومتفاجئا، وفوق ذلك كان يشعر بالحرج والانكسار من والدك ومنك شخصيّا! أتخَاله بعد كل هذا يُفكر بطريقة سليمة؟ تنهد عثمان وهو يضع رأسه على الطاولة ويقول بألم: أنا من كان السبب في فضحه. وضع طارق يده على كتفه قائلا بحزم: لاتكن أحمقاً، ولا تزر وازرة وزر أخرى! ثم قام طارق واقفا وهو ينظر بعيدا، لم يرد على عثمان الذي رفع رأسه بغمّ وهو يتساءل: ماذا هناك؟ أطرق طارق قليلا برأسه ثم قال: هيا يا عثمان سنذهب إلى قسم الشرطة! رفع عثمان حاجبيه دهشة وهو يقوم تابعا لطارق، لسبب ما ظل صامتًا طول الطريق، ذهبا إلى القسم، طلب طارق مقابلة المفتش عمير، سأله عثمان في إلحاح للمرة السابعة: ماذا تريد أن تفعل يا أستاذ طارق؟ تنهد طارق قائلا: سأتكلم قليلا مع والدك، أنا واثق بأن أحدًا ما قد طرح عليه الأدلة وناقشه فيها! ويبدو أنه قد راح يؤكد له أن بهاء هو بهابيهو، بكل الأدلة التي تركتها أنت وبهاء ثغرات ورائكما، وأعتقد أنه أيضا طلب منه سؤالك عن المسدس المستخدم.. وقال له إذا غيّر إجابته فهو كاذب.. وأنت غيرت إجابتك فأصبحت في عين أبيك كاذبا فعلا! في هذه اللحظة جاء أحد الشرطة وقال له: الأستاذ طارق فليتفضل لينتظر قليلا، فالمفتش عمير يريد ابنه عثمان لدقيقتين! تبادل طارق وعثمان النظرات الحائرة، ثم ذهب عثمان مع الرجل إلى أبيه، كان والده مشغولا بمكالمة مع لجنة البحث الجنائي، منفعلا وعصبيا كما هو عادته شعر عثمان بالوجل من طريقة أبيه، ولم يتجرأ على الجلوس أمامه في المكتب، بل ظلّ واقفا بوجه شاحب. أنهى عمير المكالمة بقسوة، ثم نظر إلى ابنه نظرات حادة! ارتجف عثمان منها! قال عمير: عثمان، هل خططت لتهريب بهاء؟ ابتلع عثمان ريقه في صعوبة وهو يجيب: لا يا أبي والله لم أفعل، لقد هرب بعيدا عن علمي! قال عمير مشككا: وكيف أصدقك وأنت كذبت علي قبلها أكثر من مرة؟ قال عثمان بصدق: ولكنني اعتذرت لك وترضيتك، وقلت إنني لن أكذب مرة أخرى. ابتسم عمير بسخرية قائلا: صحيح والدليل أنك قلت لي بعدها أن هناك شخصيتين من بهابيهو واحد طيب والآخر شرير! من تظنّ أنك تكذب عليه؟ تضايق عثمان قائلا: ولكن هذه الحقيقة لم لا تصدقني؟ قال عمير في ملل وانزعاج وهو يقول: لأنها حقيقة لا ينبغي أن تصدق، حقيقة كاذبة. هتف عثمان في رجاء وإحباط: أبي.. أبي بالله عليك هل أصبح ابنك الذي ربيته سبعة عشر عاما تربية حسنة، أصبح في يوم وليلة مجرما يخفي جرم صديقه، وكاذبا لا يقول إلا كذبا؟ سكت عمير ولم يردّ، جلس وهو يتنهد، ثم نادى على الشرطي وأمره بإحضار الأستاذ طارق ليدخل! عندما دخل الأستاذ طارق لاحظ أن عثمان يقف بشرود، وهو يُسبل أهدابه الحزينة بدون أن يلاحظ نظرات أبيه المحدقة له في كل لحظة! وضع طارق يده على كتف عثمان وهو يقول بحنو: عثمان، اجلس لنتكلم مع والدك! التفت عثمان إليه متوترا ومكتئبا، وقال: لا يا أستاذ طارق، أعتذر، تكلما مثل ما تشاءان! ثم خرج سريعا، ولم يستطع طارق تجاهل الانكسار الواضح في عيني عثمان. سمع صوت عمير الذي حاول أن يجعله هادئا ومرحّبا: تفضل يا سيد طارق بالجلوس، لا عليك به! جلس طارق بعد تنهيدة حارّة وسلمّ عليه، ثم بدأ: أستاذ عمير أريد أن أتكلم معك كلاما خاصّا! _ بالتأكيد! اخرج أيها الشرطي وأغلق الباب! _أرجو أن تتقبله بغض النظر عن قرابتي للمتهم! _نعم فقد عهدتك محترما منصفا طول حياتك يا طارق. شكره طارق بإيماءة من رأسه، ثم قال: أنت تعلم أن بهاء مُتّهم بالسرقة، وبأنه بهابيهو اللص المعروف الذي يسرق المكاتب بأموالها ومجوهراتها! وأنه في أول أربع عمليات له لم يسرق شيئا، بل فضح شركات جاسوسية محتالة، وكان له الفضل في ذلك بعد الله سبحانه وتعالى! قاطعه عمير في عصبية: كأنك تثني عليه يا طارق. ألم تر جرائمه في عملياته الباقية؟ ابتسم طارق بهدوء: ولكنني أتكلم عن العمليات الأولى! قال عمير بخجل: اعذرني على مقاطعتي، أكمل يا طارق. _حسنا، ركّز معي، سأخبرك بمعادلة غاية في الأهمية: الأربع عمليات الأولى أو لنقل الثلاث عمليات الأولى كانت شريفة على الأقل ولنصنفها في مجموعة (1)، الست عمليات الأخيرة لصوصية وسرقة! وعلى فكرة هم عشر عمليات كاملة لبهابيهو، العملية الرابعة كانت لفضح أحد الشركات ولكن.. دعنا نصنفها مع الستة عمليات الأخرى لتصبح مجموعة (2)، هل أنت معي؟ قال عمير في تفكير عميق: نعم ولكن لماذا صنفت العملية الرابعة مع الستة؟ أليست العملية الرابعة كانت شريفة؟ لمَ لمْ تصنفها مع مجموعة (1)؟ قال طارق: سؤالك يعجبني يا أستاذ عمير، وسأجيبك، لأسباب خاصة ستعرفها بعد قليل، والآن سأتحدث عن خصائص مجموعة (1)، وكلها معلومات لديكم. المجموعة (1) تتكون من ثلاث عمليات، ليس بها أي سرقة، بل نتائجها كانت مشجعة حيث فضحت عددا من الشركات المحتالة، هذه العمليات الثلاث، وُجدت بها بصمات، أليس كذلك؟ قال عمير: نعم. _جميل، والآن لنأتي للمجموعة (2)، تتكون من سبع عمليات، الأولى ليس بها سرقة والستة الباقية كلها سرقة. هل وجدتم بها بصمات؟ _لا. _هكذا تتضح الأمور يا سيد عمير، هل تعرف سبب وجود بصمات في المجموعة (1) وعدم وجودها في المجموعة الأخرى؟ _امم ليست لدي أية فكرة، قل لي أنت! _هذا لأن من قام بعمليات مجموعة (1) ليس هو نفسه الذي قام بعمليات مجموعة (2)! قال عمير مستنكرا: لا يا طارق، أنت هكذا تقول أشياء بلا دليل! _ومن قال لك أنها بدون دليل؟ البصمات جزء من الدليل، لأن بهابيهو فاعل مجموعة (2) يعلم أنه لو ترك بصمته، وتمت مقارنتها ببصمات مجموعة (1) سيجدونها مختلفة! ولذلك لم يترك أي بصمة.. _ولكن من الممكن تفسيرها بأنه انتبه على نفسه وارتدى قفازات ليتجنب ترك بصماته! ولكن عدم وجود بصمات في العمليات الأخرى، ليس دليلا على اختلاف الشخص نفسه! _ حسنا، معك حق في هذه، ولكن سأطلب منك شيئا أخيرا، أن تأخذ فيديو لعملية من المجموعة (1)، وفيديو لعملية من المجموعة (2)، أو حتى صور لها، وحاول أن تجد اختلافات بينهما! وستجد.. وستشعر بالدهشة منها! عقد عمير حاجبيه مفكرا، وهو يقول: لم نفعل هذا من قبل ولم نفكر فيه، لأنه لم نتخيل أن يكون هناك شخصان يؤديان نفس الدور! قال طارق متبسما: بالطبع، والمجرم الحقيقي كسب من هذه النقطة نجاحا كبيرا، فبسبب هذا، ستتجه كل التهم نحو فاعل المجموعة (1)، وهو بهاء! قال عمير: هل تقول بأن عمليات المجموعة (1) فعلها بهاء وعمليات المجموعة (2) فعلها شخص آخر؟ أجاب طارق: نعم. قال عمير: وما دليلك؟ قد يكون هذا محاولة منك لنسب العمليات الشريفة لابنك، والعمليات القذرة لشخص آخر غير موجود أصلا! ابتسم طارق قائلا: لا يمكن، لو كنت كذلك، لنسبت العملية الرابعة لـ المجموعة (1)، لكي يكون نصيب ابني كل العمليات الشريفة، ونصيب الشخص الغير موجود أصلا _كما تقول_ كل العمليات القذرة. ولكن الحق يُقال، لقد قام بهاء بثلاث عمليات فقط! والباقي فعلها شخص آخر ولك حرية التصديق، ولكن بعد تحليل الصور والفيديوهات وإيجاد الاختلافات والتشابهات، وأنا متأكد أنك ستصل لنتيجة مفادها أن الثلاث عمليات الأولى كان فاعلها شخص واحد، والسبعة الأخيرة فاعلها شخص واحد أيضا! تنهد عمير مفكرا وهو يقول: بالطبع سأنفذ طلبك، وآمل أن تخرج بنفس نتيجتك، على الأقل سأكون غير نادم على ثقتي التي أعطيتها لبهاء! _ انطلق عثمان في أرجاء حديقة صغيرة أمام قسم الشرطة، نظر إلى السماء ذات اللون البرتقالي المُعلِن عن غروب شمس هذا اليوم، وتنهد بحرارة، وهو يقول في نفسه: لا أدري ما أفعل مع والدي، صار لا يكلمني كالسابق، كلامه معي تُهم باطلة يرميها علي كل يوم، لم يعد يكلمني عن قضاياه التي يواجهها في عمله ولا عن مشكلاته، أمي كذلك مستغربة ولكن بالطبع لم يخبرها أبي بما فعلته! آه يا بهاء، أنا آسف من أجل كذباتي التي ورطتك بها معي، وجعلت أبي يتأكد من أنك بهابيهو اللص! آسف لأنني لم آويك إلى أي مكان آخر غير هذه المستشفى البغيضة! كان بإمكاني أن أنفذ خطة أفضل من هذه بكثير، ولكن قدّر الله وما شاء فعل! ولكن أين أنت الآن؟ لم أعتد على غيابك أبدا يا بهاء، هذا أول يوم منذ عرفتك لا أراك فيه! مهما حصل يا بهاء أحتاج لك ولنصائحك ولقوتك في الحق! ولعتابك لي حتى ولو كان عتابا قاسيا! أحتاج لك لأقول لك ما حصل معي، أشكو همومي! سكت عثمان عن هذه الأفكار التي تجيش في صدره، عندما سمع أذان المغرب عاليا بصوت شجي: الله أكبر! اتسعت عينا عثمان، وقد أدرك معنى هذه الرسالة، نعم إنها رسالة من الله، من خالقه وبارئه. يقول له فيها: الله أكبر من همومك يا عثمان! الله أكبر من هذه المشاكل التافهة! الله أكبر من صديقك بهاء الذي سيختفي عنك فترة، الله أكبر من والدك عمير.. أكبر من أفكارك كلها! أكبر من حسن ظنك ومن سوء ظنك! شعر عثمان برعشة خفيفة تسري في جسده وهو يُكمل سماع الأذان بكل حواسه! وانتعشت روحه وهو يتوضأ في المسجد للصلاة، لم يدرِ ما هذا النقاء الصافي الذي ينتشر في قلبه! كان شعورا خياليا وهو يصطف مع من حوله ليُصلي وقد شعر بأنه يلبي نداء الله له، وقلبه ينبض: لبيك يا الله! إنه في هذه اللحظة بالذات، يتجدد إيمانه بالله، يتجدد شعوره في الصلاة، لم يكن هذا الشعور الروتيني الذي يفعله كل يوم، كلا! كان شعورا مختلفا، مزيجا من الراحة والانشراح والسكينة في قلب عثمان، وهو يلمس بجبهته أرض المسجد، ليجد لسانه ينطلق في الدعاء، متناسيا بهاء وغير بهاء! وأما عن عثمان بعد صلاة المغرب، فقد زال شعوره بالاكتئاب كليا، وأصبح شخصا نقيّا صافيا، خاليا من التعقيدات_ التي كانت تغزوه قبل صلاة المغرب_، لقد عرف كيف سيفكر الآن! عرف كيف يتصرف، كيف يعمل! والشكر لله وحده. _ _بعد ثلاثة أيام على هروب بهاء_ دخل عثمان لمنزله بعد صلاة العشاء، ألقى السلام، على والده ووالدته اللذان كانا يجلسان على المائدة يتناولان طعام العشاء، التفت أمه فرحة وهي تدعوه للطعام، اعتذر عثمان بأدب: عذرا أمي ولكنني لستُ جائعا الآن! وجد عمير يقول له: عثمان، لم تأخرت حتى العشاء؟ قال عثمان متبسما: لقد قضيت مباراة ممتعة وشاقّة في المركز الرياضي ولم أتحمل الجوع بعدها فتناولت وجبة في أحد المطاعم وجئت! قال عمير بهدوء: لن تأكل معنا إذن! فقالت أمه مُشجعة: لا بأس أن تأكل مرتين. ابتسم عثمان أكثر وهو يتخذ مقعدا بجانبهما وهو يقول: بالطبع لن أفوّت فرصة الجلوس مع والداي، هل أنا أحمق؟ ضحك عمير على ذلك التعبير الطفولي الذي أظهره عثمان على وجهه، وانتبه لأول مرة أن عثمان منذ أيام لا يلقى وجهه إلا متبسما راضيا، وقد لاحظ عمير سكوته الدائم منذ هروب بهاء الذي مضى عليه ثلاثة أيام كاملة! والحزن الدفين في عيني عثمان الصافيتين! عثمان لديه عينين سوداويتين، نقيتين، وبشرة بيضاء، أنف طويل بعض الشيء وجبهة قصيرة تلمسها بعض خصلات شعر عثمان السوداء الفاحمة المجعدة! هو ذو طبع مرح وطفولي، يحب المزاح كثيرا، ويُخفي كل أحزانه الأخرى وراء وجهه الضاحك البشوش. كان عمير يُتابعه ببصره وهو يضحك مع والدته ويثرثر معها، ثم تضربه على كتفه ببساطه وهي تقول: أيها المحتال، تقول إنك تعشيت في الخارج ثم تطلب مني بعض الباذنجان المحمر بالليمون؟! ضحك عثمان وهو يشاهدها تقوم من مكانها ذاهبة للمطبخ، وتحاشى النظر إلى والده، فقد شعر بتحديق والده به فلم يجرؤ على رفع بصره إليه. ابتسم عمير قائلا: لن تستطيع إخفاء حزنك على بهاء يا عثمان. نظر إليه عثمان بتساؤل، فسأله عمير بإشفاق: بنيّ هل حقا لا تعرف أي شيء عن بهاء؟ تنهد عثمان وهو يقول: لا يا أبتِ، صدقني لا أعلم مكانه الآن! وأغمض عينيه لكيلا يرى ملامح وجه أبيه القاسية وهو يقول: بل تعرف وتخفيه! ولكن عمير ابتسم راضيا وهو يضع يده على كتفه في رفق قائلا: أصدقك.. أصدقك يا عثمان! رفع عثمان عينيه ناظرا بدهشة، فقال عمير مؤكدا: لو كنت تعرف أي شيء عنه لذهبت للقائه كل يوم ولما لمحت هذا الحزن في عينيك! لهذا أنا أثق في قولك. ثم قام من المائدة وعثمان لا يزال غير مصدق لما يراه ويسمعه، هل صدقه والده لأول مرة أخيرا بعد أربعة أيام من التعذيب والاتهامات؟ بل وابتسم في وجهه ووثق فيه، يا لسعادة عثمان الآن وهو يتابع والده ببصره وهو ينصرف، إنه لا يصدق، قلبه يطير من الفرح الآن! التفت عمير فجأة لولده قائلا باهتمام: صحيح يا عثمان، قل لي الحقيقة التي كنت تقولها قبل ذلك؟ ارتبك عثمان وقد خشي أن يقول له حقيقة بهابيهو، فيكذبه مرة أخرى! ولكنه أخذ نفسا عميقا وهو يقول: إن بهابيهو منه اثنان، واحد شريف والآخر لص.. لص حقيقي! ونظر إلى والده مترقبا ما سيقوله، ولدهشته فقد سأله عمير بجدّيه: هل أنت واثق؟ أومأ عثمان برأسه إيجابا، فانصرف عمير مفكرا، ودخل مكتبه وأغلق الباب، أما عثمان فقد اتسعت ابتسامته حتى صارت ضحكة.. ضحكة طويلة ضحكها من قلبه! ولكنه صُدم بضربه قوية على كتفه الأيمن وأمه تقول له خائفة: بسم الله عليك يا حبيبي، لم تضحك عاليا بهذه الطريقة لوحدك؟ ضحك عثمان أكثر وهو يراقب أمه تضع الباذنجان على المائدة، وهي تنظر له باستهجان. فقام واقفا وهو يحضنها بسعادة قائلًا: أشكرك على الباذنجان يا أمي. شعرت أمه بالدهشة وهي تربت على كتف ابنها ثم قالت ضاحكة: والله لو أعلم أن مزاجك سيتحسن هكذا بالباذنجان لصنعته لك منذ زمن! زادت ضحكة عثمان وهو ينظر بعينيه الحالمتين إلى باب مكتب والده المغلق، وهو يقول في داخله: أين أنت يا بهاء لترى ما حصل، لقد صدقني أبي.. أبي صدّقني! _ ارتدى طارق حذائه وهو ينُادي على زوجته غدير بأنه سيخرج الآن، ظهرت هي بعباءتها السوداء وهي تضع النقاب على وجهها فلاحظ آثار البكاء في عينيها الذابلتين! تنهد قائلا: غدير حبيبتي ألم أقل لك لا تُري أمك هذا الوجه؟ ستظنك متخاصمة معي وتفعل مشكلة أخرى! مسحت عينيها قائلة: لا أستطيع إمساك نفسي عن البكاء يا طارق، كلما تذكرت أنني لم أرَ بهاء منذ ثلاثة أيام! وزيادة على ذلك أنه كان مصابا! الله أعلم ماذا حصل له؟ وما هو وضعه الآن، حي.. أو مريض.. أو... مَيْـ.. ت! قالت الكلمة الأخيرة وهي تجهش بالبكاء ثانية، أما طارق فقد جلس على إحدى الأرائك مسترخيا، فقالت غدير متسائلة ببكاء: ما الأمر؟ لم جلست؟ قال طارق وهو يغمض عينيه بهدوء: سأنام قليلا حتى تنتهي من بكائك هذا! لن آخذك لوالدتك وأنت بهذا المنظر المُزري! سكتت بسرعة وهي تنظر إليه ثم مسحت دموعها سريعا وهو تقول ببراءة: لن أبكي ثانية يا طارق، أعدك بذلك! لم تستطع لمح الابتسامة الساخرة التي ظهرت على شفتي طارق فقد أخفاها سريعا، وهو يقوم خارجا من المنزل، وزوجته تتبعه. وفي السيارة سألته برجاء: حقا يا طارق ألا تُخفيان عني أنت وبهاء شيئا؟ تنهد طارق مبتسما فهذه هي المرة الأربعين التي تسأله هذا السؤال، وهو يجاوبها: وما الذي من الممكن أن أخفيه عنك يا غدير؟ قالت متوجسة: أعني، سبب اختفاء بهاء كل هذه المدة! قال طارق: أخبرتك أن الشرطة تبذل كل جهدها للبحث عنه! لم يجدوه حتى الآن، وتفاصيل اختفائه مبهمة للغاية، أنا أثق بأنه سيعود فـظني الحسن بالله يجعلني أطمئن على مصيره. وجدها قد سكتت فأكمل قائلا: صدقيني يا حبيبتي أنا شخصيا لا أعلم أي شيء عن مكانه الآن ...! ابتسمت له بعينيها الواسعتين قائلة: لا بأس يا طارق أنا أصدقك.. وأدعو الله أن يعيد ابني إلي سالما من كل سوء! ثم أنزلت رأسها وذكرت الله، واستمعت إليه وهو يقول راجيا بلطف: ولكن يا غدير بالله عليك لا تُخبري أي أحد من عائلتك بهذا الخبر حتى يثبت لنا خبر موثوق عنه، حاولي أن لا تحضري سيرة عن بهاء، وإياك أن تبكي أمام والدتك! إذا عرف... قالت غدير متنهدة: نعم لن أفعل شيئا من هذا، إنني أعلم. _ عاد طارق إلى المنزل الخالي من البشر، اتجه إلى غرفته، نظر إلى الساعة فوجدها الثامنة مساء، نفض سريره لكي ينام، وأثناء ذلك سمع طرقا على الباب، عقد حاجبيه باستغراب وحيرة وهو يقول لنفسه: من يمكن أن يأتي الآن إلى المنزل؟ اتجه إلى الباب وفتحه، وتفاجأ بما رآه! كان بهاء يقف أمامه مباشرة. متبسما له بتعب وإرهاق شديدين، وهو يقول بصوته الذي اشتاق طارق كثيرا لسماعه: كيف حالك يا أبي؟ ضحك طارق وهو يقول بمشاعر أبوية هائجة: بهاء، هل اختفيت لأشتاق إليك مثلا؟ ثم ضمّه إليه في حرارة وحنان، وهو يقول فرحا: يا إلهي، لقد شعرت بوحدة شديدة منذ اختفائك، أوحشتني يا بهاء، والدتك تبكي كل يوم على الأقل عشر مرات! ابتسم بهاء بدفء وهو بين أحضان والده الحبيب، وهو يشعر بجسده المُنهك سيقع بعد قليل، وهمس: أنا أسعدُ باللقاء يا أبي! وأتبع جملته بتراخي قدميه المرتجفتين. |