العاقل لا يغفل عن ذكر الآخرة في لحظة فإنها مصيره ومستقره، فيكون له في كل ما يراه من ماء أو نار أو غيرهما عبرة وموعظة، فإن المرء ينظر بحسب همته؛ فإذا دخل بزاز ونجار وبناء وحائك دارا معمورة مفروشة فإذا تفقدتهم رأيت البزاز ينظر إلى الفرش يتأمل قيمتها، والحائك ينظر إلى الثياب يتأمل نسجها، والنجار ينظر إلى السقف يتأمل كيفية تركيبها، والبناء ينظر إلى الحيطان يتأمل كيفية إحكامها واستقامتها. فكذلك سالك طريق الآخرة لا يرى من الأشياء شيئا إلا ويكون له موعظة وذكرى للآخرة، بل لا ينظر إلى شيء إلا ويفتح الله عز وجل له طريق عبرة؛ فإن نظر إلى سواد تذكر ظلمة اللحد، وإن نظر إلى حية تذكر أفاعي جهنم، وإن نظر إلى صورة قبيحة شنيعة تذكر منكرا ونكيرا والزبانية، وإن سمع صوتا هائلا تذكر نفخة الصور، وإن رأى شيئا حسنا تذكر نعيم الجنة، وإن سمع كلمة رد أو قبول في سوق أو دار تذكر ما ينكشف من آخر أمره بعد الحساب من الرد والقبول.
وما أجدر أن يكون هذا هو الغالب على قلب العاقل لا تصرفه عنه مهمات الدنيا. فإذا نسب مدة المقام في الدنيا إلى مدة المقام في الآخرة استحقرها إن لم يكن ممن أغفل قلبه وأعميت بصيرته.
من حِكم ابن عطاء الله السكندري
إلى متى تفر من ربك وتركن إلى غيره؟
العجب كل العجب ممن يهرب مما لا انفكاك عنه، ويطلب ما لا بقاء له معه فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور سورة الحج الآية 46.
أي العجب الكامل من العبد الذي يهرُب – بضم الراء من باب نَصَر – أي يتباعد من ربه الذي لا انفكاك له عنه بأن لا يفعل ما يقربه إليه، مع توارد إحسانه عليه، ويطلب ما لا بقاء له معه وهو الدنيا وكل شيء سوى الله، بأن يقبل على شهواته، ويتبع شيطانه وهواه. وما ألطف ما قيل لمن هو من هذا القبيل:
تفنى اللذائذ يا من نال شهوتـه
من المعاصي ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقبُ سوءٍ لا انفكاك لها
اخير في لذة من بعدها النـار
وهذا إنما يكون من عمى البصيرة التي هي عين القلب، حيث استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وآثر الفاني على الباقي. وفي الآية إشارة إلى أن عمى الأبصار بالنسبة لعمى البصائر كالأعمى، فإن عمى الأبصار إنما يحجب عن المحسوسات الخارجية، وأما عمى البصائر أي عيون القلوب، فإنه يحجب عن المعاني القلبية والعلوم الربانية.
لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى يسير والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى سورة النجم الآية 42. وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه”. فافهم قوله عليه الصلاة والسلام، وتأمل هذا الأمر إن كنت ذا فهم. والسلام.
أي لا تطلب بأعمالك الصالحة عوضاً، ولو في الآخرة. فإن الآخرة كون كالدنيا، والأكوان متساوية في أنها أغيار وإن وجد في بعضها أنوار، بل اطلب وجه الكريم المنان الذي كون الأكوان، وفاءً بمقتضى العبودية، وقياماً بحقوق الربوبية لتتحقق بمقام: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى سورة النجم الآية 42. وهذا مقام العارفين الذين رغبوا عن طلب الثواب، ومحضوا النظر إلى الكريم الوهاب، فتحققوا بمقام الإخلاص الناشئ عن التوحيد الخاص. وأما من فر من الرياء في عباداته، وطلب بها الثواب، فقد فر من كون إلى كون بلا ارتياب، فهو كحمار الرحى – أي الطاحون – يسير ولا ينتقل عما سار منه لرجوعه إليه. وفي هذا التشبيه التنفير عن هذا الأمر ما لا مزيد عليه. وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله” أي نية وقصداً، "فهجرته إلى الله ورسوله”؛ أي وصولاً.