قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 4].
قد جاء بين قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ ذكر خمس صفات وهي كما جاءت في الآيتين من السورة الكريمة:
1- الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم.
2- وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا.
3- وعلى ربهم يتوكلون.
4- الذين يقيمون الصلاة.
5- ومما رزقناهم ينفقون.
وهذه الصفات الخمس جاءت على سبيل التعيين والتحديد للمؤمنين حقًا، فإن قوله تعالى (إنما)، كما جاء في المعجم: (وإن زدت على "إن": "ما" صارت للتعيين، لأنه يوجب إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه) ، فمن تحققت فيهم الصفات الخمس فأولئك هم المؤمنون حقًا؛ وقد تأكد ذلك بقوله (أولئك) وقوله (هم).
وهذه الصفات الخمس منها الثلاث الأول أعمال قلبية باطنة، ثم الصلاة والزكاة من الأعمال الظاهرة، وبهذا جمعت هذه الصفات بين الاعتقاد والعمل، وتم التصديق بين الباطن والظاهر فكان الحكم بالإيمان الحق.
وهذه الصفات الخمس أثبتت للمؤمنين أمورًا خمسة بعضها ثناء وبعضها جزاء:
الأمر الأول: وهو مدحهم بأنهم "مؤمنون".
الأمر الثاني: زيادة مدح وتأكيد بقوله (حقًا):
الأمر الثالث: لهم درجات عند ربهم؛ وهذا هو الجزاء الأول، وهو نعم الجزاء وما أشرفه وأعظمه من جزاء، غير أن هذه الدرجات لا شك أنها متفاوتة ومتفاضلة لأنهم لا شك متفاوتون في درجات وجل القلب، وفي تأثرهم بتلاوة القرآن وتفاضلهم في الإيمان، فهم ليسوا على درجة واحدة- خصوصًا في الأعمال القلبية- كما أنهم متفاوتون في الإنفاق وفي أدائهم للصلاة وفي درجات الخشوع؛ لهذا كانت درجاتهم – عند ربهم- متفاوتة؛ فالمتوكلون؛ المفوضون، المحتسبون مع شدة الوجل ولين القلوب عند الذكر وتلاوة القرآن، لا شك أن لهم أعلى الدرجات، ومن كان أقل فهو في الدرجة أقل.
الأمر الرابع: المغفرة (وهي: التغطية والستر) ، وهي التجاوز عن السيئات، وتغمدهم بالرحمات، والعفو عن الذلات، والفوز بالجنات.
الأمر الخامس: الرزق الكريم: (الرزق: العطاء وما ينتفع به) ، والكرم اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن في بابه فلعل وصف الرزق به هنا حقيقة) ، وفي روح المعاني: (معنى كون الرزق كريمًا أن رازقه كريم، ومن هنا وصفوه بالكثرة وعدم الانقطاع إذ من عادة الكريم أن يجزل العطاء ولا يقطعه فكيف بأكرم الأكرمين تبارك وتعالى.. وجعله نفسه كريمًا على الإسناد المجازي للمبالغة، والظاهر كما قيل تقديمها هنا نكتة، وربما يقال في وجه ذكر هذه الأشياء الثلاثة على هذا الوجه، أن الدرجات في مقابلة الأوصاف الثلاثة أعني الوجل والإخلاص والتوكل، ويستأنس له بالجمع والمغفرة في مقابلة إقامة الصلاة، ويستأنس له بما ورد في غير ما خبر أن الصلوات مكفرات لما بينها من الخطايا، وأنها تنقي الشخص من الذنوب كما ينقي الماء من الدنس، والرزق الكريم بمقابلة الإنفاق.. ويقال: قدم سبحانه الدرجات لأنها بمحض الفضل، وذكر بعدها المغفرة لأنها أهم عندهم من الرزق، وقيل: المغفرة: بترك الذنوب، والرزق الكريم بالأعمال الصالحة فتدبر، والله تعالى أعمل بأسرار كلامه) .
وإذا كان هذا هو جزاء المؤمنين حقًا، وهو الدرجات العليا والمغفرة والرزق الكريم في الآخرة فهل لهم جزاء في الدنيا؟ وهل يعجل الله تعالى ثوابًا لمن تحققت فيهم هذه الصفات في الحياة الدنيا؟ الجواب: نعم.. وبيانه كما يلي:
أولًا: النصر والتمكين وظهور الدين لهذه الجماعة المؤمنة: لقوله تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51] ، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47] ؛ يقول ابن القيم: (والله تعالى إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه القائمين بدينه علمًا وعملًا.. وكذلك العزة والعلو إنما هما لأهل الإيمان الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو علم وعمل وحال؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139] ، فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان)، وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8] ، فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه، فإذا فاته حظ من العلو والعزة، ففي مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان؛ علمًا وعملًا ظاهرًا وباطنًا. وكذلك الدفع عن العبد هو بحسب إيمانه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [الحج: 38] ، فإذا ضعف الدفع عنه فهو من نقص إيمانه.. وكذلك النصر والتأييد الكامل، إنما هو لأهل الإيمان الكامل؛ قال تعالى: ﴿ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 14] ، فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه فإنما هي بذنوبه، إما بترك واجب أو فعل محرم، وهو من نقص إيمانه) .
وما من شك أن أهل بدر، وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحقق فيهم الإيمان الكامل، ولهذا كانوا أهلًا لنصر الله عز وجل وتأييده، فأعزهم وأذل المجرمين أعداءهم، ليتعلم المسلمون هذا الدرس، فيتخلقوا بأخلاق المؤمنين ويعودوا إلى القرآن الكريم تلاوة وحفظًا وتدبرًا وتحكيمًا ليكون واقعًا في حياتهم.
وما من شك - أيضًا - أن هذه الصفات الخمس لها علاقة مباشرة بالقتال وتحقيق النصر؛ فالمؤمن الحق هو الذي يخاف الله عز وجل ويعظمه في قلبه، فعند القتال يقبل على الله تعالى مقاتلًا في سبيله، مضحيًا بنفسه وماله، راضي النفس منشرح الصدر، كما يقبل عليه سبحانه في صلاته وقيامه، ويجد في ذلك راحة نفسه وطمأنينة قلبه؛ فلا فصل ولا فصم بين وقوفه لأداء الصلاة ووقوفه في الصف مقاتلًا ومدافعًا عن دينه.
أما عن صلة هذه الصفات بموضوع الأنفال؛ فإنه إذا تحقق الإيمان في القلوب فسوف تسود المحبة والتآلف بين المؤمنين، ويعم الإيثار؛ ويحب الأخ المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه، بل وسيفضله على نفسه؛ فإذا أخذ أخوه شيئًا من الأنفال ولم يأخذ هو فلن يغضب، وإذا فضل غيره عليه بشيء فلن يسخط، لأن النفوس طهرت وزكت، والهمم قد علت والاهتمامات تسامت.. إنها التربية الوجدانية التي تجعل القلوب تلين وتخشع لله وترضى بحكمه، فقد سبقت الصفات الثلاث الأول لحمل المؤمنين على الإذعان بأن شأن الأنفال وقسمتها ليس من شأنهم، والتفكير فيها والقلق عليها يجب ألا يكون ديدنهم، إنها لتربية رقيقة حكيمة، لم يزجر الصحابة بالعنف، ولم يدعوا كرها، ولم ينهوا قسرًا، ولكنهم دعوا إلى إيمانهم والى عهودهم.. أليس التذكير بهذه الصفات، والدعوة إليها واستدعائها كافيًا لإقناع الصحابة- أو بعضهم على الأصح - بضرورة الإقلاع عما ضامر بعض النفوس من التفاتة يسيرة إلى الدنيا في ظروف الفرحة أو النشوة بالنصر؟.. أما إقام الصلاة والإنفاق من رزق الله، فإن كلًا من هاتين الصفتين تفعل فعلها في تربية النفوس المؤمنة، وفي تزكيتها وتدريبها على الانضباط والنظام والانتماء للجماعة وحب البذل والعطاء والتضحية وتلك من أهم صفات المؤمنين المجاهدين الذي يستحقون النصر والتأييد من الله عز وجل.