. . . . . . أخذت تضرب بيديها المتعبتين صدر ذلك الرجل القوي الواقف أمامها دون أن يبدي حراكًا.. بصوتٍ ضعيف متألم يقطّع الروح وعينين محمرتين متوهجتين وبغير تصديق! في صبيحة ذلك اليوم الخريفي الكئيب، استقبلت رشا نبأ استشهاد خطيبها وفارس أحلامها.. ذاك الرجل الذي لطالما رأت فيه بطلها الوحيد، كيف لا؟ وهو الوحيد الذي كان بقربها منذ رحيل والدها وشقيقيها عنها وهي طفلة.. لكن جهاد، جارهم الفتى طيب القلب اليتيم مثلها، كان بمثابة شعلة الأمل.. لم يكن ضعيفًا مثلها فاتخذته سندها الدائم. لطالما أحبت فيه طريقته في تلقينها دروس الحياة، في إقناعها بأن ما حدث قد حدث وليس بوسعنا تغيير ما مضى.. بل إن هذا العالم بحاجة لمن يُغير مستقبله إلى الأحسن.. إلى من يوقف سيل الدموع والدماء يوميًا بكل بساطة! تلك الندبة العميقة في وجهه والتي زادته رجولة وأنفة، لازالت تتذكر كيف كان يتحسسها بيده ويقول بابتسامة: "أترين هذه الندبة يا رشا؟ إنها الأثر الأخير من ذلك اليوم.. اليوم الذي ضحى فيه والداي بحياتهما لأجلي، هل أخبرتكِ بالقصة؟" ورغم أنها سمعتها منه مرارًا إلا أنها كانت تحرك رأسها نافية فيكمل بنفس الابتسامة: "اقتحم أولئك الأوغاد حينا عنوة، وحالما انتشر الخبر دبّ الرعب في نفوس الجميع، لم يسعفنا الوقت كثيرًا وكان همّ والداي الأكبر كيف ينقذانني من مجزرة محتومة!! حوار سريع غير مفهوم دار بينهما وقتها وأنا أنظر إليهما مذهولاً.. ثم اقترب والدي مني بملامح مرهقة حدّ الموت وبسرعة أحدث في وجهي جرحًا بسكينته ثم ما لبث أن أفقدني الوعي .. رغم أنه أفقدني وعيي إلا أن ذاكرتي لازالت تحتفظ بلحظة انهيار أمي بالقبل عليّ والبرود الذي اجتاحني حالما ابتعد حضنها الدافئ عني.." لم يكن جهاد يبكي ولا يتذمر بعد أن ينتهي من سرد قصته على مسامعي.. بل يبتسم بطريقة تزيد الألم في قلبي، ثم يُعلق حين يرى دموعي: "رشا ! تحوّل لون عينيكِ إلى الأخضر! تبدوان جميلتين جدًا.." ولكن في إحدى المرات طغى الحزن على صوته وهو يقول: "ورغم ذلك.. احرصي على أن تكونا مشرقتين دائمًا.." .. انهارت رشا أخيرًا بعد أن خارت قواها، جثت على الأرض وأمها تحاول إعانتها على الوقوف.. "تمالكي نفسكِ يا ابنتي أرجوكِ.." كانت امرأة نحيلة غزى الشيب رأسها ورسم البؤس على وجهها تجاعيد تحكي الكثير.. حولت نظرها إلى ذلك الرجل الذي بدا عليه أنه فرغ من سكب حصّته من العبرات ... "مراد بني أنا آسفة، أتدخل ؟" أجابها مراد أحد أقرب أصدقاء جهاد ورفيقه في خوض الشقاء.. "أرجو المعذرة، لديّ شيء أقدمه للآنسة رشا وأغادر.. إنها رسالة من جهاد!" حالما سمعت رشا اسم جهاد رفعت رأسها بنظرات متوسلة وكأنها تأمل أنه لا يزال على قيد الحياة.. كيف يموت جهاد ! كيف يموت ذلك الرجل البطل، ذلك الرجل الحنون الرؤوف الصلب الثابت !!؟ لا تغادر ذاكرتها تلك المرات التي ترسلها فيها أمها لإحضار الماء من المنبع البعيد نوعًا ما عن البيت، وبمجرد أن يلمحها مارة وهو بدكان خاله يخرج إليها ويرافقها مبررًا: "لابد من شخص يرافقكِ، أنى لطفلة أن تحمل كل هذا بمفردها؟" و أثناء سيرهما يقول: "رشا.. أترين هذه الجبال وهذه الأراضي وهذه السماء وكل هذه الأزهار والمياه؟ كلها ملك لنا! إنها أرضنا وحدنا!أولئك المتطفلون مجرد حمقى لظنهم أن بوسعهم سلبها منا!" تنظر إليه بحزن وتقول: "ماذا عن الأرواح الغالية التي سبق وسلبوها منا !؟" يأخذ دلو الماء من يدها ليقول بصوته المُطمئن: "ما رحلوا إلا لتعيشي أنتِ، وأعيش أنا، لنكبر ويكبر معنا حب أرضنا وبلادنا وغيرتنا عليها.. لنضع أيدينا بأيدي بعض ونحارب الطغاة!" لطالما لمعت عيناه إصرارًا وإرادة كلما جرت على لسانه عبارة رد الثأر، ولطالما شعرت هي بالنشوة والأمل ثقة فيه..! .. أخذت رشا الرسالة من يد مراد فشعرت بها تمدّها بجُرعة منشّطة.. بالطبع، فقد تلقت لتوها رسالة منه.. ستقرأ الآن كلماته المُحفزة في أشد لحظاتها حاجة إليها .. ولكن.. أيُعقل لشيء أن يطفئ في صدرها هذه النار الحارقة المتأججة حسرة على فراقه !!؟ كان عائلتها بعد أمها.. كان الأب والأخ والصديق والحبيب وكلّ شيء..! في أحد أيام رمضان، كانت فتيات ونساء الحي يعددن لسفرة جماعية كما جرت العادة.. وذهبت إلى بيت أم علاء لإحضار شيء.. أم علاء أي زوجة خال جهاد، أم علاء التي لم تكن يومًا أمًا لعلاء، فقط كان اسمًا تمنته لمولودها الأول الذي لم يأتِ.. دخلت وكان جالسًا عند مائدة المطبخ يقوم بالدعاء.. ابتسمت، لطالما حرص على تذكيرها بالدعاء في أكثر الأوقات استجابةً. وحين همّت بالخروج كان قد انتبه إليها أخيرًا فسألته: "ماذا دعوت؟" "أن تكوني حلالي.." هنا احمرّت وجنتاها ولفت شال رأسها جيدًا وهرولت خارجةً من شدة الحياء، تزامن ذلك مع آذان المغرب.. لم يتردد جهاد يومًا في قول ما يجول بخاطره، وقد كانت هي الشخص الذي يحوي جميع فضفضاته، ‘‘ لطالما كان ذلك من أحد أسباب سعادتي ’’ .. أغلقت باب غرفتها وتهالكت على حصير الأرضية، فضت الرسالة بكل حذر وأبعدتها عنها قليلاً خشية أن تُبللها بدموعها التي أبت الانصياع والتوقف.. وا أسفاه على فقد ذلك البطل.. الشهادة كانت حلمه، لم يقلها بصريح العبارة ولكن كان بإمكان أيٍّ كان أن يقرأها في عينيه..! كان حبه لوطنه يتزايد وينضج مع السنين، اعتبرت دائمًا وجوده في هذا العالم شيئًا مميزًا.. الدقائق التي تمضيها برفقته ترتوي فيها بكلامه الرجوليّ الرزين، وتدرك فيها معنى أن تعيش لأجل الوطن أكثر في كل مرة..! علمها ألا تنسى من مروا بحياتها يومًا وأن تتجاوز الحزن بكل قوة.. طلب منها ذات مرة أن تُرافقه سرًا إلى قبو منزلهم القديم، في ذلك اليوم رأت السعادة تنضح من محياه وهو يتحسّس بندقية.. بندقية حقيقية! كانت تشدُّ كُمّي ثوبها من الرهبة في حين كان هو يبدو كما لو أنه يطأ النعيم ~ نظر إليها، لمح الخوف على وجهها فابتسم.. لعل أقوى أسلحته كانت ابتسامته الرائعة تلك.. أقوى من ألف طلقة نارية تخرج من أية بندقية! "رشا يا عزيزتي.. إننا نحيا في عالم وزمن لا يرحمان.. أضحى فيهما الضعف والخوف شيئين لابد من التخلص منهما.. أتعرفين أنني أقدس والداي لسبب وهو أنهما ضحيا لأجلي! في تلك اللحظة لم أفهم سبب إيذاء والدي لي، ولكن فيما بعد أدركت أنها لا شيء أمام ما نالاه وأمام ما كان سيحل بي.. لولا أنهم ظنوني متُّ يومها لما كنتُ موجودًا معكِ الآن.. لولا ذلك لما استطعتُ أن أنقل إليكِ عدواي، عدوى حب الوطن وعدوى الحياة لأجل من نحب.. ولولا أنني تجرعت من الألم والحزن ما يكفي لما أدركتُ معنى الشقاء ومحاولة التغيير.." يومئذٍ خفق قلبها خفقة مُخيفة.. خالجها شعور لم تجربه منذ فترة طويلة حتى خالته غاب إلى الأبد.. "جهاد الآن أكثر من عائلتي.. أضحيتُ عائلته أيضًا !! وهذا الخاتم في بنصري الأيسر ليس مجرد حلقة معدنية، بل رباط يربط بيننا مهما تباعدت المسافات.." رددت في نفسها.. قرر جهاد الانضمام للجيش! كانت تساعد الخالة أم علاء في توضيب حقيبة جهاد وتراقب في نفس الوقت دموعها الصامتة.. "سنتناول العشاء جميعنا معًا الليلة!" أصرت أم رشا.. كانت هي الأخرى كمن تخشى توديع ثالث أبنائها الشباب.. الانضمام للجيش في نظر سكان القرية كان يعني المُضيّ قدمًا نحو الموت! لما أسدل الليل ستائره رافَقته إلى خارج البيت وقلبها يكاد يخترق قفص صدرها لعُنف نبضاته الخائفة الثائرة.. سلمته حقيبته.. تلك الحقيبة الرثة التي أودع كل واحد منهم، أفراد أسرته، حزمة من المشاعر والذكريات.. أمسك بكتفيها ونظر جيدًا في عينيها قائلاً: "رشا.. رشا! أستودعكِ الله أنتِ والجميع، لكن عديني أن تهتمي بنفسكِ وأبي ووالدتيّ الاثنتين.. سأشتاقكم جميعًا، خاصةً أنتِ!" قاطعته وأنفاسها تكاد تختنق من شدة البكاء: "عدني أولاً أن تهتمَّ أنتَ بنفسك ! تعلم أنكَ كنت ولازلتَ تعني الحياة بالنسبة لي.. عدني أن تعود سالمًا، فإنكَ إن خرقتَ الوعد متُّ أنا !" قبّل جبينها بحنانٍ ولفّ قماشةً ما على معصمها.. عرفت رغم تشوش الرؤية لديها أنه علم الوطن.. "هذا هو الشيء الوحيد الذي ينبغي أن تحيي لأجله! إن متُّ، فأمنيتي أن ألقاكِ في الفردوس الأعلى.. كلنا راحلون، لكن على هذا أن يبقى!" قال عبارته وشدَّ على معصمها مؤكدًا، ثم استدار مغادرًا.. لم تستطع إيقافه، كان دائمًا يُجيد اختيار الكلمات التي تريح قلبها.. التفت مُجددًا ناحيتها ليقول بابتسامته المعتادة: "رشا.. أحبكِ في الله يا عزيزتي إلى اللقاء!" رحل ليلتها هو ومراد صديقه الذي ترك خلفه هو الآخر.. أبًا شيخًا ضريرًا وأمًّا مُمزقة القلب.. .. يعتصر قلبها تعاسةً اليوم وهي تتذكّر كل كلمة من كلماته.. "هذا العالم عديم الرحمة لم يترك لنا شيئًا ولا أحدًا.. أولاً أبي، شقيقيّ، والآن جهاد !!" .. "رشا عزيزتي.. أخبري أمي وأمي الأخرى، أبي، مراد.. وجميع الرفاق، أني أشتاقكم كثيرًا..! رشا أتبكين؟ لا تبكِ، ولا تحزني.. فأنا لستُ حزينًا أبدا لرحيلي، لا لشيءٍ إلا لأنني أتوق للُقياكم أنتِ والأهل في جنان المولى.. أخبرتكِ يومًا أن على الوطن فقط أن يحيا حتى النهاية، ولابد أن يذهب فداء ذلك شلّة من أبنائه الشجعان.. أريدكِ الآن أن تمسحي دموعكِ ودموع كل من بكى عليّ، وأن ترفعي رأسكِ فخرًا بي! أنتِ كنتِ دافعي الأول في هذه الحياة، صدقيني.. لولاكِ لضعتُ! أنا الآن أموت وابتسامة تعلو ثغري بمجرد أن أذكركِ." .. في الغد تصدّر اسمه كل الجرائد المحلية بالخط العريض.. جهاد! الشهيد البطلُ ابن الوطن.. فجّر نفسه مع قنبلة موقوتة وسط جمع غفيرٍ من المحتلين الطغاة، بعد أن تمكن من خداعهم والولوج بينهم.. بينما كانوا في أحد احتفالاتهم الدنيئة، انتهز هو الفُرصة ليخلّص العالم ولو من ثلة قليلة من أولئك الأوغاد..! "جهاد.. حتى وإن متَّ.. فروحكَ وذكراكَ ستخلدان في صدري مع رسالتك القصيرة التي حفظتها عن ظهر قلب، إلى الأبد..! أنا على يقينٍ تامٍّ بأن تضحيتك وموتك لم يذهبا سُدًى.. وداعًا أيها البطل، يا من جاهدت إلى آخر رمق من حياتك.. ها قد عُدتَ إلى بارئكَ بعد طول اشتياقٍ، بعد أن حفرتَ خلفكَ في قلوبنا مكانًا عطرًا يستحيل لأحد أن يدنسه أو يحتله" ‘ رشا ’ .. سواءً كان جهاد أو أيّ شهيدٍ آخر في هذا الوطن العربيّ.. ستظلون جميعكم خالدين في قلوبنا.. حتى إن لم نوهب شرف رؤيتكم، فبكُم مجتمعون في الجنة بإذنه تعالى.. . . . . . بسم الله الرحمن الرحيم ، السلام عليكم كما ترون هذه أول قصة أكتبها في المنتدى .. تطلب مني ذلك قدرامُعتبرًا من الشجاعة احم ، حاولت قدر المستطاع إلى أن جعلتها في 1500 كلمة بالضبط سررتُ لهذه الفرصة التي أتيحت لي حقًا *-* أتمنى أن تعجبكم هذه القصة و ألا تملوها .. و أن تكون لغتي في المستوى ،، فأنا في الواقع فاشلة في اختيار النهايات وفي الربط بين الأحداث أحيانًا .. شكرًا عزيزتي سر الحياة على هديتكِ الجميلة ؛ هذا الطقم الرائع !! في النهاية ، بالتوفيق للجميع ؛ سلام |