بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أين البركة ؟!
الخطبة الأولى:
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتَّقوا الله رحمكم الله، ولا يغرنَّكم سهلُ الدنيا، فبعد السهلِ حُزون، والفرِحُ فيها محزون، والحُزن فيها غير مَأمون، ما ضحِكت فيها نفوس إلا وبَكَت عيون، هي داء المَنون، من ركَن إليها فهو المغبون، لم يهتمَّ بالخلاص إلا أهلُ التقى والإخلاص، أيّامهم بالصلاح زاهرة، وأعينُهم في الدُّجى ساهرة، في نفوس طاهرة، وقلوبٍ بخشية الله عامرة، يعملون للدنيا والآخرة.
أيّها المسلمون، حقٌّ على كلِّ مسلم ومتبصِّرٍ أن يقفَ موقفَ تأمُّل وتدبّر ونظرٍ وتفكّر، لقد فتح الله على أهلِ هذا العصر ما فتح من نِعَم لا تحصى، لم يعرِفها السابقون، ولم ينعَم بها الأسلاف، في العلم والتعليم والإعلام والتواصُل والطبّ والعلاج، في الكسبِ والاحتراف والمالِ والاقتصاد والنّقل والمواصلاتِ والتجارَةِ والصناعة والزراعةِ واللباس والزينةِ، في كلِّ ميادين الحياة وشؤونها، تطوّرٌ عظيم واسع، غيَّر ظروفَ الناسِ وأحوالهم، مكَّن الله لهم في الأرض ما لم يمكِّن لمن قبلهم، فتح الله الأسواقَ والأرزاق وتبادُلَ المنافع بين أهل الدنيا وأرجاءِ المعمورة.
إنَّ المسلمَ ذا القلب الحيِّ والعاقلَ المتبصِّر ممن يلقي السمعَ وهو شهيد ليتساءَل: أين البرَكة؟! أين الطّمأنينةُ؟! أين الحياةُ الطيِّبة الموعود عليها في مثل قوله سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]؟!
العلومُ والمختَرَعات والمكتشَفَات والمنجَزَات والمصنوعَاتُ والمنتجَات مهما امتدَّ رواقها واتَّسع ميدانها هل تحقِّق بذاتها الطّمأنينَة؟! وهل تجلب سعادة؟! وهل يتنزَّل بها برَكة؟! العصرُ عصرُ عِلم وعصر سرعَة وعصر تِقنيّة، ولكن هل هو عصر فضيلةٍ؟! هل هو عصر طمأنينة؟! هل هو عصر بركة؟!
كم من أمّةٍ قويّة غنيّة، ولكنها تعيش في شِقوَةٍ، مهدَّدَة في أمنها، تخشَى تقطُّع أوصالها، يسدوها قلَقٌ، يهدِّدها انحلال، قوّةٌ في خوف، ومَتاع بلا رضا، ووَفرةٌ من غير صلاح، وحاضِر نضِر ومستقبَل مظلِم، بل لعلَّه ابتلاء يعقبُه نكال.
أيّها الإخوة الأحِبّة، كلُّ هذه التأمّلات تدعو إلى التساؤل: ما هي البركةُ؟ وأين البركة؟ وأين الحياةُ الطيّبة والعيشة الهنيّة؟ حيث يقول الله -عز وجل- في محكم تنزيله: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) [الأعراف: 96].
عبادَ الله، البركة هي النّماء والزِّيادة والسعادة والكثرةُ في كلِّ خير، وبرَكاتُ ربِّنا كثرةُ خيره وإحسانِه إلى خلقه وسَعَة رحمته. والبركةُ فيوض الخيرِ الإلَهيّ وثبوته ودوامُه، قال أهل العلم: ولما كان فضل الله لا يُحصَى ولا يحصَر ويأتي للإنسان من حيث لا يحسّ ولا يحتسِب قيل لكلِّ ما يشاهَد منه زيادةٌ غير محسوسَةٍ: هو مبارك وفيه بركة.
فالخير كلُّه من الله وإليه وبيدَيه، فربّنا سبحانه له كلُّ كمال، ومنه كلُّ خير، وله الحمد كلّه، وله الثناء كله، تبارك اسمُه، وتباركت أوصافُه، وتبارك فِعاله، وتبارَكت ذاته، فالبركة كلُّها منه وبيَدِه، لا يتعاظَمُه شيءٌ سُئلَه، ولا تنقصُ خزائنُه على كثرةِ عطائه وجزيلِ نَوَاله، أكُفُّ جميع العالم إليه ممتدَّة تطلُبُه وتسأله (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [الرحمن: 29] (يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) [المائدة: 64]، ويمينه ملأى، لا يفيضُها نفَقة، سحّاءَ الليل والنهار، عطاؤُه وخيرُه مبذول في الدنيا للأبرارِ والفجار، فللَّهِ الحمد أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا على خيرِه الجزيل وفضله العميمِ وبركاته الدائمة ونِعَمه الوافرة الظاهرةِ والباطنة، فتبارك سبحانه بدوامِ جودِه وكثرة خَيره ومجدِه وعُلوِّ عظمَته وجلالِ قدسه.
الخيراتُ والنِّعم في الدنيا والآخرة في القديمِ والحديث كلُّها من فضله في وجودِها وثبوتها ودوامِها وكثرتها وبركتها، فالله الحمد والمنة.
وربُّنا سبحانه وضَع البركةَ في كثيرٍ من مخلوقاته، فالماء طَهورٌ مبارك، وفي السّحورِ بَركة، وبيت الله مبارَك، وطيبَةُ الطيِّبة مباركة، والمسجد الأقصَى باركَه الله وبارك ما حولَه، والقرآن أنزله ربُّنا كتابًا مباركًا في ليلةٍ مباركة، فكلُّ ما دلَّ الدليل على أنه مبارَك فقد وضَعَ الله فيه البرَكة، وهو سببُها، ففيهَا الخير والنمَاء والزيادة.
والمبارَك من الناس كما يقول ابن القيّم -رحمه الله- هو الذي يُنتَفَع به حيث حلَّ، (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ) [مريم: 31].
بركاتٌ يضَعها الله في الأشياءِ والأنفس والأموال والبنين والأهلِين والأحوال والأزمنةِ والأمكنة والعلومِ والمعارف والمشاعِرِ والأعمال. بركاتٌ في طيِّبات الحياةِ، وبركاتٌ تنَمِّي الحياة وترفَعُها، وليست وفرةً مع شِقوةٍ وكثرةً مع تردٍّ وانحلال.
أيها المسلمون، أمّا سبيل تحصيلِ البركةِ وحصولها فالإيمانُ والتقوى والصلاحُ والعَدل والرّحمة والإحسان، ولقد قيل لآدم أبي البشَر من أوّل هبوطه إلى هذه الدنيا: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) [طه: 123، 124]، وقال عن أبي البَشَر الثاني نوحٍ -عليه السلام-: (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) [هود: 48]. الإيمانُ والتَّقوى واتّباعُ الهدَى هو الطريق إلى بركاتِ السماء والأرض واستدرارِ الأرزاق والخيرات، وعدٌ من الله حق، ومن أوفى بعده من الله؟
عبادَ الله، الدينُ بعقائدِه وشرائعِه يقتضِي سعادةَ الدنيا قبل الآخرةِ مِن أوَّل نشأةِ البشريّة، من عهدِ آدم ونوح وإبراهيمَ وموسى وعيسَى ومحمّد عليهم الصلوات والسلام إلى أن يرِثَ الله الأرضَ ومن عليها، وأهلُ الإيمان يتلقَّونَ هذا بقلبٍ مؤمِن مصدِّق مسلِّم، لا يتردَّدون في ذلك لحظة، ولا يشكّون في وقوع مدلولِه طَرفَة.
الإيمان والتقوَى والصلاح والهدى قوَةٌ دافِعة دافِقَة تنطلِق لعمارةِ الأرض وبنائها وابتغاءِ خَيراتها وبركاتها في رقِيِّ الحياة ونمائها وتطوُّرها، في دفعِ الفساد والفِتنة، في مسيرةٍ صالحة منتِجة، تحوطها عنايةُ الله ومددُه وبركاته، ويعمُّها خيرُه وتوفيقُه وعنايَتُه. بالصّلاح والهدَى يفتح الله بركاتِ السّماء والأرض، ويأكل الناس من فوقِهم ومن تحت أرجلهم، في فَيضٍ غامِر ومَدَد لا ينقطع.
إنَّ المؤمنَ بالله واليوم الآخرِ لا يخاطر بدنياه ليربَح آخرتَه، كلا، إنّه بإيمانه يربَح الحياتين ويفوز بالحُسنَيَينِ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) [النساء: 134] (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) [النحل: 30] (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الأعراف: 32].
حريٌّ بالمؤمنِ أن ينظرَ ويتأمَّل في الآثار المباركةِ للدين والطاعات في حياةِ المسلم، بل في حياة الإنسانيّة كلِّها. العبادات والطاعاتُ وحُسن الخلق والتعامُل وسائلُ تزكيةٍ لنفس المؤمن وترقية لروحِه وتهذيب سلوكِه، تثمِر الخيرَ والبركة، وتورِث الطمأنينةَ والسّكينة.
تأمَّلوا هذا الحديثَ العظيم في شأن المتبايِعَين، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن صدَقا وبيَّنا بورِك لهما في بيعِهما، وإن كذبا وكتمَا محِقَت بركةُ بيعِهما)) حديث صحيح رواه الإمام مسلم من حديث حكيمٍ بن حزام رضي الله عنه[1].
يصدُق البائع في سِلعته وصفاتِ المبيع ومِقدار الثمن، ويصدق المشتري في الوفاءِ وسَلامة الثّمن، ويدلُّ الحديث على أن الدنيا لا يتِمّ حصولها إلاّ بالعمل الصالح، وشُؤمُ المعاصي يذهَب بخيرَيِ الدنيا والآخرة.
ويظهَر ذلك ويتأكَّد -أيها المسلمون- في الحديث الصحيح الآخر في قولِه: ((الحلِف منفقةٌ للسلعة ممحقَة للكَسب)) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه[2]. وقارِنوا ذلك -رحمكم الله- واربطوه بما يمحَق الله من الربا ويزيد في الصدقات كما قال سبحانه: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ) [الروم: 39] وفي قولهِ سبحانه: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة: 276]، قال مقاتل: "ما كان من رِبا وإن زاد حتى يغبَط صاحبه فإنَّ الله يمحَقه"[3]، وفي حديثٍ حسَن مرفوع: ((إنَّ الربا وإن كثُر فإنَّ عاقبتَه إلى قِلّ))[4].
إنَّ كلَّ هذه المخالفات والمعاصِي تمحَق البركة في المعاملاتِ وإن بدَت في عدَدِها وكمّيّتها زائدةً متكاثرة، فمَحقُ البركة يفضي إلى اضمِحلال العدَد وقِلَّة النّفع وتلاشي الفائدة، ناهيكم ثم ناهيكم باضمحلال الأجرِ في الآخرة.
عباد الله، إنَّ معيشةَ التّقي والصلاح والطاعةِ والعبادة تورِث الصّحّةَ البدنيّة والنفسيّة، وتثمر الراحة المادية والبدنيّة، وتنتِج البركة والطمأنينةَ، وتحفَظ لصاحبها في عاجلِ أمرِه وآجله ذخائرَ من الخير لا تكون لغيره، مَن كانتِ الدنيا همَّه فرَّق الله عليه شمله، وجعل فقرَه بين عينيه، ولم يأتِه من الدّنيا إلا ما كتِب له، ومن كانت الآخرة همَّه جمع الله عليه أمرَه، وجعل غِناه في قلبه، وأتَته الدنيا وهي راغمة.
إنَّ الشواهد متكاثِرةٌ على ما للإيمانِ والصلاحِ من آثارٍ وبركات في النّفس وفي الحياة، في الزمان والمكان، في الأهلِ والدّار. ولا ريبَ أنَّ مسلَكَ التّقى يفتح على الإنسان أبوابَ الرّضا والقناعة والبركةِ والسعادة، فالقاعِدةُ المقرَّرة التي لا تتخلَّف: إنَّ الدينَ الحقّ والإيمان الصحيح والعمل الصالح سَببٌ لسعادة الدنيا وبركاتها، وأهلُ الإيمان حين يفتَح الله عليهم من بركاتِه ونِعَمه يكون أثرُه فيهم من الشّكرِ لله والرّضَا عنه والاغتِباط بفضله وصَرف النعم في سبيلِه ورضاه وفي طريقِ الخير لا في الشرّ وفي الصلاح لا في الفساد، ويكون جزاؤُهم زيادةَ النّعم وبركاتها، أمانٌ في النفوس وطمأنينةٌ في القلوب ونفعٌ في الممتلَكات وحسنُ ثوابِ الآخرة (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 38].
ومِن سنَنِ الله في عباده أنَّ الأمانَ جزاء الإيمان، وأنَّ الخوفَ جزاءُ الكفران (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82].
وبعد: فلا ريبَ أنَّ حياة الإيمان والفضيلةِ هي البركةُ والاستقرار والسّكينة. الإيمانُ الراسخ يشرِق على القلوبِ سناه، ويخُطُّ في أعماقِ النفوس مجراه، إيمانٌ عميق وعقيدَة راسخة تتَّسِع للروح والمادّةِ والحقِّ والعِزَّة والعِلم والدين والدّنيا والآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) [الروم: 6-8].
نفعني الله وإيَّاكم بالقرآنِ العظيم وبهديِ محمَّد، وأقول هذا القول، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أين البركة ؟!
الخطبة الأولى:
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتَّقوا الله رحمكم الله، ولا يغرنَّكم سهلُ الدنيا، فبعد السهلِ حُزون، والفرِحُ فيها محزون، والحُزن فيها غير مَأمون، ما ضحِكت فيها نفوس إلا وبَكَت عيون، هي داء المَنون، من ركَن إليها فهو المغبون، لم يهتمَّ بالخلاص إلا أهلُ التقى والإخلاص، أيّامهم بالصلاح زاهرة، وأعينُهم في الدُّجى ساهرة، في نفوس طاهرة، وقلوبٍ بخشية الله عامرة، يعملون للدنيا والآخرة.
أيّها المسلمون، حقٌّ على كلِّ مسلم ومتبصِّرٍ أن يقفَ موقفَ تأمُّل وتدبّر ونظرٍ وتفكّر، لقد فتح الله على أهلِ هذا العصر ما فتح من نِعَم لا تحصى، لم يعرِفها السابقون، ولم ينعَم بها الأسلاف، في العلم والتعليم والإعلام والتواصُل والطبّ والعلاج، في الكسبِ والاحتراف والمالِ والاقتصاد والنّقل والمواصلاتِ والتجارَةِ والصناعة والزراعةِ واللباس والزينةِ، في كلِّ ميادين الحياة وشؤونها، تطوّرٌ عظيم واسع، غيَّر ظروفَ الناسِ وأحوالهم، مكَّن الله لهم في الأرض ما لم يمكِّن لمن قبلهم، فتح الله الأسواقَ والأرزاق وتبادُلَ المنافع بين أهل الدنيا وأرجاءِ المعمورة.
إنَّ المسلمَ ذا القلب الحيِّ والعاقلَ المتبصِّر ممن يلقي السمعَ وهو شهيد ليتساءَل: أين البرَكة؟! أين الطّمأنينةُ؟! أين الحياةُ الطيِّبة الموعود عليها في مثل قوله سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]؟!
العلومُ والمختَرَعات والمكتشَفَات والمنجَزَات والمصنوعَاتُ والمنتجَات مهما امتدَّ رواقها واتَّسع ميدانها هل تحقِّق بذاتها الطّمأنينَة؟! وهل تجلب سعادة؟! وهل يتنزَّل بها برَكة؟! العصرُ عصرُ عِلم وعصر سرعَة وعصر تِقنيّة، ولكن هل هو عصر فضيلةٍ؟! هل هو عصر طمأنينة؟! هل هو عصر بركة؟!
كم من أمّةٍ قويّة غنيّة، ولكنها تعيش في شِقوَةٍ، مهدَّدَة في أمنها، تخشَى تقطُّع أوصالها، يسدوها قلَقٌ، يهدِّدها انحلال، قوّةٌ في خوف، ومَتاع بلا رضا، ووَفرةٌ من غير صلاح، وحاضِر نضِر ومستقبَل مظلِم، بل لعلَّه ابتلاء يعقبُه نكال.
أيّها الإخوة الأحِبّة، كلُّ هذه التأمّلات تدعو إلى التساؤل: ما هي البركةُ؟ وأين البركة؟ وأين الحياةُ الطيّبة والعيشة الهنيّة؟ حيث يقول الله -عز وجل- في محكم تنزيله: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) [الأعراف: 96].
عبادَ الله، البركة هي النّماء والزِّيادة والسعادة والكثرةُ في كلِّ خير، وبرَكاتُ ربِّنا كثرةُ خيره وإحسانِه إلى خلقه وسَعَة رحمته. والبركةُ فيوض الخيرِ الإلَهيّ وثبوته ودوامُه، قال أهل العلم: ولما كان فضل الله لا يُحصَى ولا يحصَر ويأتي للإنسان من حيث لا يحسّ ولا يحتسِب قيل لكلِّ ما يشاهَد منه زيادةٌ غير محسوسَةٍ: هو مبارك وفيه بركة.
فالخير كلُّه من الله وإليه وبيدَيه، فربّنا سبحانه له كلُّ كمال، ومنه كلُّ خير، وله الحمد كلّه، وله الثناء كله، تبارك اسمُه، وتباركت أوصافُه، وتبارك فِعاله، وتبارَكت ذاته، فالبركة كلُّها منه وبيَدِه، لا يتعاظَمُه شيءٌ سُئلَه، ولا تنقصُ خزائنُه على كثرةِ عطائه وجزيلِ نَوَاله، أكُفُّ جميع العالم إليه ممتدَّة تطلُبُه وتسأله (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [الرحمن: 29] (يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) [المائدة: 64]، ويمينه ملأى، لا يفيضُها نفَقة، سحّاءَ الليل والنهار، عطاؤُه وخيرُه مبذول في الدنيا للأبرارِ والفجار، فللَّهِ الحمد أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا على خيرِه الجزيل وفضله العميمِ وبركاته الدائمة ونِعَمه الوافرة الظاهرةِ والباطنة، فتبارك سبحانه بدوامِ جودِه وكثرة خَيره ومجدِه وعُلوِّ عظمَته وجلالِ قدسه.
الخيراتُ والنِّعم في الدنيا والآخرة في القديمِ والحديث كلُّها من فضله في وجودِها وثبوتها ودوامِها وكثرتها وبركتها، فالله الحمد والمنة.
وربُّنا سبحانه وضَع البركةَ في كثيرٍ من مخلوقاته، فالماء طَهورٌ مبارك، وفي السّحورِ بَركة، وبيت الله مبارَك، وطيبَةُ الطيِّبة مباركة، والمسجد الأقصَى باركَه الله وبارك ما حولَه، والقرآن أنزله ربُّنا كتابًا مباركًا في ليلةٍ مباركة، فكلُّ ما دلَّ الدليل على أنه مبارَك فقد وضَعَ الله فيه البرَكة، وهو سببُها، ففيهَا الخير والنمَاء والزيادة.
والمبارَك من الناس كما يقول ابن القيّم -رحمه الله- هو الذي يُنتَفَع به حيث حلَّ، (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ) [مريم: 31].
بركاتٌ يضَعها الله في الأشياءِ والأنفس والأموال والبنين والأهلِين والأحوال والأزمنةِ والأمكنة والعلومِ والمعارف والمشاعِرِ والأعمال. بركاتٌ في طيِّبات الحياةِ، وبركاتٌ تنَمِّي الحياة وترفَعُها، وليست وفرةً مع شِقوةٍ وكثرةً مع تردٍّ وانحلال.
أيها المسلمون، أمّا سبيل تحصيلِ البركةِ وحصولها فالإيمانُ والتقوى والصلاحُ والعَدل والرّحمة والإحسان، ولقد قيل لآدم أبي البشَر من أوّل هبوطه إلى هذه الدنيا: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) [طه: 123، 124]، وقال عن أبي البَشَر الثاني نوحٍ -عليه السلام-: (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) [هود: 48]. الإيمانُ والتَّقوى واتّباعُ الهدَى هو الطريق إلى بركاتِ السماء والأرض واستدرارِ الأرزاق والخيرات، وعدٌ من الله حق، ومن أوفى بعده من الله؟
عبادَ الله، الدينُ بعقائدِه وشرائعِه يقتضِي سعادةَ الدنيا قبل الآخرةِ مِن أوَّل نشأةِ البشريّة، من عهدِ آدم ونوح وإبراهيمَ وموسى وعيسَى ومحمّد عليهم الصلوات والسلام إلى أن يرِثَ الله الأرضَ ومن عليها، وأهلُ الإيمان يتلقَّونَ هذا بقلبٍ مؤمِن مصدِّق مسلِّم، لا يتردَّدون في ذلك لحظة، ولا يشكّون في وقوع مدلولِه طَرفَة.
الإيمان والتقوَى والصلاح والهدى قوَةٌ دافِعة دافِقَة تنطلِق لعمارةِ الأرض وبنائها وابتغاءِ خَيراتها وبركاتها في رقِيِّ الحياة ونمائها وتطوُّرها، في دفعِ الفساد والفِتنة، في مسيرةٍ صالحة منتِجة، تحوطها عنايةُ الله ومددُه وبركاته، ويعمُّها خيرُه وتوفيقُه وعنايَتُه. بالصّلاح والهدَى يفتح الله بركاتِ السّماء والأرض، ويأكل الناس من فوقِهم ومن تحت أرجلهم، في فَيضٍ غامِر ومَدَد لا ينقطع.
إنَّ المؤمنَ بالله واليوم الآخرِ لا يخاطر بدنياه ليربَح آخرتَه، كلا، إنّه بإيمانه يربَح الحياتين ويفوز بالحُسنَيَينِ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) [النساء: 134] (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) [النحل: 30] (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الأعراف: 32].
حريٌّ بالمؤمنِ أن ينظرَ ويتأمَّل في الآثار المباركةِ للدين والطاعات في حياةِ المسلم، بل في حياة الإنسانيّة كلِّها. العبادات والطاعاتُ وحُسن الخلق والتعامُل وسائلُ تزكيةٍ لنفس المؤمن وترقية لروحِه وتهذيب سلوكِه، تثمِر الخيرَ والبركة، وتورِث الطمأنينةَ والسّكينة.
تأمَّلوا هذا الحديثَ العظيم في شأن المتبايِعَين، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن صدَقا وبيَّنا بورِك لهما في بيعِهما، وإن كذبا وكتمَا محِقَت بركةُ بيعِهما)) حديث صحيح رواه الإمام مسلم من حديث حكيمٍ بن حزام رضي الله عنه[1].
يصدُق البائع في سِلعته وصفاتِ المبيع ومِقدار الثمن، ويصدق المشتري في الوفاءِ وسَلامة الثّمن، ويدلُّ الحديث على أن الدنيا لا يتِمّ حصولها إلاّ بالعمل الصالح، وشُؤمُ المعاصي يذهَب بخيرَيِ الدنيا والآخرة.
ويظهَر ذلك ويتأكَّد -أيها المسلمون- في الحديث الصحيح الآخر في قولِه: ((الحلِف منفقةٌ للسلعة ممحقَة للكَسب)) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه[2]. وقارِنوا ذلك -رحمكم الله- واربطوه بما يمحَق الله من الربا ويزيد في الصدقات كما قال سبحانه: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ) [الروم: 39] وفي قولهِ سبحانه: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة: 276]، قال مقاتل: "ما كان من رِبا وإن زاد حتى يغبَط صاحبه فإنَّ الله يمحَقه"[3]، وفي حديثٍ حسَن مرفوع: ((إنَّ الربا وإن كثُر فإنَّ عاقبتَه إلى قِلّ))[4].
إنَّ كلَّ هذه المخالفات والمعاصِي تمحَق البركة في المعاملاتِ وإن بدَت في عدَدِها وكمّيّتها زائدةً متكاثرة، فمَحقُ البركة يفضي إلى اضمِحلال العدَد وقِلَّة النّفع وتلاشي الفائدة، ناهيكم ثم ناهيكم باضمحلال الأجرِ في الآخرة.
عباد الله، إنَّ معيشةَ التّقي والصلاح والطاعةِ والعبادة تورِث الصّحّةَ البدنيّة والنفسيّة، وتثمر الراحة المادية والبدنيّة، وتنتِج البركة والطمأنينةَ، وتحفَظ لصاحبها في عاجلِ أمرِه وآجله ذخائرَ من الخير لا تكون لغيره، مَن كانتِ الدنيا همَّه فرَّق الله عليه شمله، وجعل فقرَه بين عينيه، ولم يأتِه من الدّنيا إلا ما كتِب له، ومن كانت الآخرة همَّه جمع الله عليه أمرَه، وجعل غِناه في قلبه، وأتَته الدنيا وهي راغمة.
إنَّ الشواهد متكاثِرةٌ على ما للإيمانِ والصلاحِ من آثارٍ وبركات في النّفس وفي الحياة، في الزمان والمكان، في الأهلِ والدّار. ولا ريبَ أنَّ مسلَكَ التّقى يفتح على الإنسان أبوابَ الرّضا والقناعة والبركةِ والسعادة، فالقاعِدةُ المقرَّرة التي لا تتخلَّف: إنَّ الدينَ الحقّ والإيمان الصحيح والعمل الصالح سَببٌ لسعادة الدنيا وبركاتها، وأهلُ الإيمان حين يفتَح الله عليهم من بركاتِه ونِعَمه يكون أثرُه فيهم من الشّكرِ لله والرّضَا عنه والاغتِباط بفضله وصَرف النعم في سبيلِه ورضاه وفي طريقِ الخير لا في الشرّ وفي الصلاح لا في الفساد، ويكون جزاؤُهم زيادةَ النّعم وبركاتها، أمانٌ في النفوس وطمأنينةٌ في القلوب ونفعٌ في الممتلَكات وحسنُ ثوابِ الآخرة (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 38].
ومِن سنَنِ الله في عباده أنَّ الأمانَ جزاء الإيمان، وأنَّ الخوفَ جزاءُ الكفران (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82].
وبعد: فلا ريبَ أنَّ حياة الإيمان والفضيلةِ هي البركةُ والاستقرار والسّكينة. الإيمانُ الراسخ يشرِق على القلوبِ سناه، ويخُطُّ في أعماقِ النفوس مجراه، إيمانٌ عميق وعقيدَة راسخة تتَّسِع للروح والمادّةِ والحقِّ والعِزَّة والعِلم والدين والدّنيا والآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) [الروم: 6-8].
نفعني الله وإيَّاكم بالقرآنِ العظيم وبهديِ محمَّد، وأقول هذا القول، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.