لماذا الحديث عن الشكر؟
من الأسباب التي دعتني إلى الكتابة في مثل هذا الموضوع ما يلي:
1- الشكر أصل من أصول الإيمان التي يجب العمل بها، فكما قيل: الإيمان نصفان نصف شكر، ونصف صبر.
2- ورود نصوص كثيرة من القرآن والسنة تحثنا على الشكر، وتحذرنا من الجحود.
3- قلة السالكين في طريق الشكر، كما قال تعالى: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [1].
4- انتشار ظاهرة الإسراف والتبذير في مجتمعنا مما قد يؤذن بأن ما نحن فيه من نعم في خطر فلنتنبه جيدًا. قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [2].
5- غفلة كثير من الناس عن مثل هذا الموضوع، وعده نافلة من نوافل القول والعمل.
6- إن الشكر من أخلاق الأنبياء، قال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ ﴾[3]، وقال عن نوح عليه السلام: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾[4].
7- إن الله وعد الشاكرين بالمزيد، والجاحدين بالوعيد الشديد، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾[5].
8- عدم شكر النعم هدف يسعى الشيطان إلى تحقيقه. قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾[6].
9- الشكر يجلب النعم ويزيدها، ويدفع حلول النقم.
10- مدى أهمية حاجتنا إلى معرفة نعم الله علينا، فنرد الجميل إلى المنعم بالشكر والعرفان بفضله، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾[7].
11- إن كثيرًا من النعم - وللأسف الشديد - استعملت في معصية الله، وهذا من أشد أنواع الجحود والكفران.
تعريف الشكر
الشكر لغة:
مصدر شكر يشكر، وهو عرفان الإحسان ونشره. والشكر من الله: المجازاة والثناء الجميل. والشكور:كثير الشكر، والجمع شُكُر، وفي التنزيل: ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾[8]، وهو من أبنية البالغة.
وأما الشكور في صفات الله - عز وجل - فمعناه أنه يزكو عنده القليل من أعمال العباد فيضاعف لهم الجزاء، وشكره لعباده مغفرته لهم، وقولهم: (شكر الله سعيه) أي بمعنى أثابه الله على ذلك[9].
الشكر اصطلاحًا:
قال ابن القيم - رحمه الله -: الشكر ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافا ً، وعلى قلبه شهودًا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعة[10].
وقال السعدي - رحمه الله - في تفسيره: (الشكر: اعتراف القلب بمنة الله تعالى، وتلقيها افتقارًا إليها، وصرفها في طاعة الله تعالى، وصونها عن صرفها في المعصية)[11].
وعرفه آخرون بقولهم: الشكر هو الثناء على المنعم بما أولاكه من معروف.
حقيقة الشكر
أخي الحبيب:
إن حقيقة الشكر لا يمكن لنا أن نحيط بها إلا إذا أمعنا النظر في النعم وعرفنا قيمتها إذ لو فقدت مثلاً، ولكن قبل هذا وذاك دعونا نتأمل ما قاله صاحب كتاب "إذا صح الإيمان"عن حقيقة الشكر فيقول: "إذا صح إيمان العبد قامت في قلبه حقيقة الشكر لله والاعتراف له بالفضل والمنة واستشعر قوله تعالى: ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾[12] واستحضر أن كل ما به من قوة وسمع وبصروحركة وقدرة،و ذكاء وعقل، وأكل و شرب، ونفس وأن ما احتوى عليه هذا الجسم من خلايا وعروق، وأنسجة وأعصاب، وما يجري فيه من دماء، أن كل ذلك وغيره مما نعلم وممالا نعلم أنه من الله وبتدبيره وفضله، ورعايته وحفظه، ليس فقط على المتقين بل على الناس أجمعين؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾[13].
ويقول أيضًا: "إن من قامت في قلبه حقيقة الشكر استشعر أنه بين نعمة و ذنب ولا تصلح النعمة إلا بالحمد والشكر، ولا يصلح الذنب إلا بالتوبة والاستغفار"[14].
فضل الشكر
لقد ذكر الله الشكر في أكثر من خمسين موضعًا من كتابه الكريم، فمرة قرنه سبحانه بالإيمان به وأخبر أنه لا غرض ولا حاجة له في عذاب خلقه إن شكروا و آمنوا به، فقال تعالى: ﴿ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ﴾[15].
وتارة أخرى يخبر سبحانه أن أهل الشكر هم المخصوصون بمنته عليهم من بين عباده فقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾[16].
بل إن الله وصف عباده الشاكرين بأنهم قلة من عباده فقال تعالى: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾[17]، ومما يدل على فضل الشكر وعلو منزلته أن رضا الله معلق بالشكر.
يقول ابن القيم - رحمه الله -: "ومن منازل ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ منزلة الشكر، وهي من أعلى المنازل، وهي فوق منزلة ((الرضا)) وزيادة؛ فالرضا مندرج في الشكر إذ يستحيل وجود الشكر بدونه"[18].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها)[19].
وعلق سبحانه زيادة النعم بشكره عليها ومن جحدها كان له العذاب الشديد من الله، فقال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾[20]؛ فبين سبحانه أنه متى ما شكرت نعمه يزيدك بغير حساب، وزيادته لا حد لها، كما أنه لا نهاية لشكره.
قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه - لرجل من همذان: "إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد "[21].
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: "إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء، فإذا لم يشكر عليها قلبها عذابًا".
وعن معاذ -رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده وقال: ((يا معاذ، والله إني لأحبك ثم أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك))[22]؛ فهذا الحديث يدل على عظم منزلة الشكر وفضله، إذ جعل الشكر مدار الخير وعنوانه، ولهذا أوصى معاذًا بطلب العون من الله على هذه العبادة، وجعل موضع الطلب في دبر كل صلاة تشريفًا، وتكرار الطلب في اليوم خمس مرات دلالة على أهميته وفضله.
الشيطان يحول بينك وبين الشكر
ولما عرف عدو الله إبليس - اللعين - قدر مقام الشكر وفضله، وأنه من أجل المقامات وأرفعها، جعل غايته ومناه أن يحول بين العباد وبين الشكر، وصرفهم عنها بأي وسيلة كانت، فعندما أمره الله - سبحانه وتعالى - بالسجود لآدم - عليه السلام - امتنع للاستجابة لهذا الأمر، فطرده وجعله من الملعونين وتوعده بدخول النار، ولكنه لم يكتف بسماع أوامر الطرد والإبعاد، وإنما قام بكل وقاحة وخبث بسرد خطته لإغواء بني آدم.
يقول الله تعالى: ﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾[23]؛ فهنا يكشف إبليس حقيقة تخفى على كثير من الناس وهي أن معظم الناس لا يقومون بشكر الله والناجي منهم هو الذي يقوم بأداء الشكر.
يقول الشيخ: عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: "وإنما نبهنا الله على ما قال وعزم على فعله لنأخذ حذرنا ونستعد لعدونا، ونحترز منه بعلمنا بالطريقة التي يأتي منها، ومداخله التي ينفذ منها، فله تعالى علينا بذلك أكمل نعمة"[24].
وذكر الأستاذ: سيد قطب - رحمه الله - كلامًا لطيفًا حول هذه الآية فقال: "ويجيء الشكر تنسيقًا مع ما سبق في مطلع السورة: ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف:10] لبيان السبب الحقيقي في قلة الشكر، وكشف الدافع الحقيقي الخفي من حيلولة إبليس دونه وقعوده على الطريق إليه ليستيقظ البشر للعدو الكامن الذي يدفعهم عن الشكر والهدى[25].
أمور معينة على الشكر
الأمور المعينة على الشكر كثيرة، ولكن نجملها في هذه الأسباب على سبيل المثال لا الحصر لها:
1-إمعان النظر في كثرة النعم التي نرفل فيها ليلاً ونهارًا، وسرًا وجهارًا، وأننا مطالبون بشكر الله عليها سواءً كانت حسية أو معنوية.
2- النظر في أمور الدنيا إلى من هو دونك، وإلى أمور الآخرة في من فوقك، كما أرشدنا إلى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم "[26].
3- مقارنة ما نحن اليوم فيه من النعم وبين ما كان عليه سلفنا وأجدادنا في الماضي.
4- التحدث بالنعم، قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾[27]؛ قال الحسن البصري: "أكثروا من ذكر هذه النعم، فإن ذكرها شكر ".
5- الاقتصاد في النعمة وصرفها في الخير.
6- النظر في سير الصالحين، وكيف كانوا يشكرون الله على نعمه.
7- زيارة دور الإعاقة والمصحات النفسية وغيرها، والنظر في حال أولئك المرضى لنستشعر قيمة ما نحن فيه من نعم كثيرة قلّ لها شكرنا [28].
8- محبة النعمة واحترامها طريق إلى الشكر.
9- تذكر الماضي من جاهلية وضلال وفقر، وكيف توالت عليك نعم الله، قال تعالى مذكرًا نبيه - صلى الله عليه وسلم - بعض نعمه عليه: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ﴾[29].
10- التفكر في حقيقة الشكر.
كيف يتحقق الشكر لله؟
لكي يتم لك تحقيق الشكر على أكمل وجه لا حظ أن الشكر يقوم على ثلاثة أركان وهي:
الركن الأول: الاعتقاد الصادق بالقلب بأن الله وحده هو واهب النعم فيزداد معها حبك للمنعم، لأن القلوب جلبت على محبة من أحسن إليها.
الله أكبر!! كم يكون حبنا لله مقابل نعمه علينا، وهو الذي قال: ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾[30].
الركن الثاني: الاعتراف باللسان، أي بالتحدث بالنعمة ونسبتها إلى منعمها وكثرة الحمد والثناء عليه كلما لاحت لنا نعمة نقول: الحمد لله....الحمد لله.
الركن الثالث: استعمال النعم في طاعة الله وبذلها فيما يرضيه، وكفها عن معاصيه، فليحذر المسلم من أن يستعين بنعم الله على معاصيه أو يتقوى بها لبلوغ شهواته فهذا عين النكران والجحود .
الشكر والبلاء
اعلم أن النعمة ليست وحدها التي تستحق الشكر فقط، بل اعلم أن في كل فقر ومرض وخوف وأي بلاء في الدنيا كان خمسة أشياء ينبغي أن يفرح العاقل بها ويشكر الله عليها:
الأولى: أن كل مصيبة ومرض يتصور أن يكون هناك أكثر منها شناعة وفداحة لأن مقدرات الله لا تتناهى فلو ضاعفها الله على العبد فما كان يمنعه؟! فليشكر العبد ربه إذ لم تكن أعظم.
الثانية: أن المصيبة لم تكن في الدين، قال رجل لسهل بن عبد الله: دخل اللص بيتي وأخذ متاعي، فقال، اشكر الله تعالى، لو دخل الشيطان قلبك فأفسد عليك إيمانك ماذا كنت تصنع؟!.
الثالثة: أنه ما من عقوبة أو مرض إلا كانت للمؤمن كفارة له ورفعة في درجاته يوم القيامة، كما جاء ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما يصيب المسلم من نصبِِ ولا وصبِ ولاهم ولا حزن ولا أذى ولا غم،حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه))؛ [متفق عليه][31].
الرابعة: أن هذه المصيبة كانت مكتوبة عليه في أم الكتاب ولا بد أن تصل إليه فقد وصلت ولم يعدم الرضا واستراح منها فهي نعمة.
الخامسة: أن الابتلاء دلالة على محبة الله للعبد،ويبتلى المؤمن على قدر إيمانه.؛ قال- صلى الله عليه وسلم -: ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط))[32].
قال الغزالي: - رحمه الله -: "وكل عبد سئل عن حاله فهو بين أن يشكر أو يشكو أو يسكت، فالشكر طاعة، والشكوى معصية قبيحة من أهل الدين، وكيف لا تقبح الشكوى من ملك الملوك وبيده كل شيء؟! فالأحرى بالعبد إن لم يحسن الصبر على البلاء وأفضى به الضعف إلى الشكوى أن تكون شكواه إلى الله تعالى فهو القادر على إزالة البلاء، وذل العبد لمولاه عز والشكوى إلى غيره ذل"[33].
أخي المسلم: إذا أصبت ببلاء فعليك بالصبر والشكر،ثم وإياك والتسخط والضخر، (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك)[34].
موانع الشكر
الأمور التي تمنع المسلم من الشكر وتصرفه عن هذه العبادة كثيرة، ومنها:
1- عدم استشعار قيمة النعمة، وما ذاك إلاّ أنه لم يذق طعم حرمانها، أو لجهله بحقيقة الشكر.
2- الغرور بدوام النعمة، وكثرة التقلب فيها، فيغفل عن زوالها أو مفارقته إياها.
3- طلب المثالية في النعم، فإما أن يطلب المستحيل أو ما ليس له وجود على أرض الواقع[35] فيشغل نفسه عن شكرها.
4- عدم القناعة بما هو فيه من نعمة، فتجده ينظر إلى من هو أحسن منه حالاً وأوفر نعمة، فيزدري نعمة الله عليه فلا يرى لها حق شكر عليه.
5- الأمن من مكر الله، فترى كثيرًا من ضعاف الإيمان ينظر إلى الكفرة والطغاة وهم يرفلون بوافر من النعم مع ما هم عليه من الكفر والطغيان، فيأمن على نفسه، لأنه يرى أنه أحسن منهم حالاً.
6- عدم أخذ العظة والعبرة ممن حُرم بعض النعم، إما وُلد فاقدًا لها، أو قدر الله عليه بحادث أفقده بعض ما كان ينعم به.
7- الكِبر والبطر، فتجد بعض من اغتنى بعد فقر يرى أنه اغتنى على استحقاق منه،كما قال تعالى على لسان قارون: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾[36].
8- الاستهزاء بأصحاب البلاء وعدم ذكر الدعاء الوارد عند رؤية المبتلى[37].
العلاقة بين الحمد والشكر
الفرق بين الحمد والشكر محل نزاع بين أهل العلم واللغة، فمنهم من قال: أن الشكر مثل الحمد إلاّ أن الحمد أعم منه، فإنك تحمد الإنسان على صفاته الجميلة، وعلى معروفه ولا تشكره إلا على معروفه دون صفاته.
قال ثعلب: "الشكر لا يكون إلا عن يد، والحمد يكون عن يد وعن غير يد"، وقال القرطبي: "وتكلم الناس في الحمد والشكر، هل هما بمعنى واحد؟ أو بمعنيين؟.
فذهب الطبري والمبرد إلى أنهما بمعنى واحد سواء، وهذا غير مرضي، والصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان، وهذا قول علماء اللغة الزجاج والقتبي وغيرهما.
وقال ابن القيم - رحمه الله -: "الحمد أخص من الشكر موردًا، وأعم منه متعلقًا، فمورد الحمد اللسان فقط، ومتعلقه النعمة وغيرها، ومورد الشكر اللسان والجنان والأركان، ومتعلقه النعمة، والفرق بينهما: أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه، وأخص من جهة متعلقاته، والحمد أعم من جهة المتعلقات، وأخص من جهة الأسباب"[38].
فالحمد لا يكون إلاّ باللسان فقط، وأما الشكر فإنك تشكر بلسانك وبقلبك بحبك له، وبفعلك تعبيرًا لصاحب المعروف عن شكرك له.
التفكر يقودك إلى الشكر
فيم تفكر؟ .......... وعلام تشكر؟
أخي الحبيب:
إنك إذا أطلقت العنان للفكر، واستدام بك النظر في نعم الله عليك، فلا بد أن يدفعك إلى الشكر.
أخي الحبيب:
دعني أحلق بك سريعًا في نظرة تأمل خاطفة لنعمة واحدة من بين سائر النعم لنرى عجيب صنع الله ومنته علينا، فمع نعمة الأكل فإلى هناك.
خلق الله لك الطعام، ومن ثم خلق لك شهوة إليه، ولا يكفي بل خلق لك حس الذوق إذ به تعلم ما ينفعك وما يضرك، ثم خلق لك الأعضاء التي تتناول بها الأكل، ثم هب أنك أخذت الطعام باليد فكيف يصل إلى بطنك؟!
فجعل لك الفم واللحيين وركب فيهما الأسنان، ثم انظر كيف أنعم الله عليك بخلق اللسان فإنه يطوف في جوانب الفم ويحرك الأكل بحسب الحاجة، ثم هذا الطعام المطحون من يوصله إلى المعدة وهو في الفم؟!
فهيأ الله لك المريء والحنجرة، فإذا ورد الطعام إلى المعدة وهو خبز وفاكهة مقطعة فكيف يصير لحمًا ودمًا؟؟!
فجعل الله المعدة كالقدر يقع فيها الطعام فينضج بالحرارة ويصير مائعًا يصلح للنفوذ في تجاويف العروق ثم ينصب الطعام من العروق إلى الكبد فيستقر فيها ريثما ينضج تمامًا، ثم يتفرق في الأعضاء ويبقى منه الرجيع، فيخرج فضلة زائدة عن حاجتك إليها.
كل ذلك يصير وأنت بمجرد أن بلعت اللقمة لا تشعر بها، من أدار هذه المصانع؟؟!
وأنت لا تعرف سوى أنك تجوع فتأكل، والبهيمة تعرف أيضًا أنها تجوع فتأكل، وتتعب فتنام، فإذا أنت لم تعرف من نفسك إلاّ ما يعرف الحمار، فكيف تقوم بشكر الله على نعمه التي لا تحصى؟؟![39].
لماذا لا نشكر؟
إننا حينما نشاهد المرضى والمبتلين، وقد فقدوا الصحة والعافية، والذين يُقتّلون ويُشرّدون، وقد فقدوا نعمة الأمن والاستقرار وغيرهم، فنشكر الله على اللطف والسلامة، إذ لم نكن نحن هم، ونحضر إلى المقابر فنعلم أن أحب الأشياء إلى الموتى هو أن يرجعوا إلى الدنيا ليتدارك من عصى عصيانه، وليزيد في الطاعة من أطاع ولكن هيهات لهم.
فالواجب علينا أن نشكر الله الذي بسط علينا الحياة والصحة والفراغ لنعمل صالحًا ونتوب إليه.
معاشر الإخوة:
إن من نعم الله علينا أنه ما من أحد إلاّ ويعرف من دسائس أمور نفسه وخفاياها الكثير من القبائح والذنوب المستورة، ولو كشف الغطاء ورفع الستير ستره عنا، واطلع عليها فرد من الخلق لافتضحنا وما ربحنا، فكيف لو اطلع الناس كلهم عليها في ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾، فلماذا لا نشكر الله بالستر الجميل على مساوئنا حيث أظهر الجميل وستر القبيح؟
بل إننا قبل هذا وذاك نشاهد خلقًا كثيرًا قد ابتلوا ببلاء أفظع وصنيع أشنع من ذلك كله، ألا وهو الانحراف في الدين والوقوع في الشرك والبدع والخرافات[40] وفي قاذورات المعاصي، والله قد حفظك منها، فلماذا لا تشكر الله على جميل فضله وإنعامه؟
وها هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - يترجم لنا الشكر إلى عمل، فحينما سألته أم المؤمنين - رضي الله عنها - وهي تتعجب من قيامه حتى تتفطر قدماه فتقول له: وتفعل هذا وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: - صلى الله عليه وسلم -: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!))[41].
أخي الحبيب:
اشكر الله على نعمه ولا تكفرها، واعقل ولا تغفل عن قول الحق تبارك وتعالى: ﴿ .. هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ﴾[42].
حوار مع نعمة
لو وقفت مع نفسك - أخي الحبيب - وقفة تدبر وتأمل وحاورت النعم التي ترفل فيها وافترضتها تقبل الحوار، فليكن هذا الحوار:
- من أنتِ؟
- قالت: أنا النعمة التي ترفل فيها: ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ [لقمان: 20].
- ومن أين جئت إليّ؟
- قالت: أتيتك من عند مولاك هبة لك، ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53].
- عددك قليل أم كثير؟
- قالت: لا يحصيني إلاّ الذي خلقني: ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [النحل: 18].
- بم تزيدين وبم تنقصين؟
- قالت: أزيد بالشكر وأنقص بالكفر، ﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
- هل أنت خير على كل أحد؟
- قالت: لا... فربما كنت نقمة في صورة نعمة: ﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ [آل عمران: 178].
- من المحروم منكِ؟
- قالت: المحروم من فقدني أو حُرم: ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [القلم: 44]؛ أي يسبغ عليهم النعم ويحرمون الشكر.
- هل نُسأل عنكِ يوم القيامة؟
- قالت: نعم وربي: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [ التكاثر: 8].
الخاتمة
وبعد:
فإننا والله لفي نعم كثيرة لا تقدر بثمن، ولا تجزئها أعمالنا مهما طال بنا الزمن، فإذا كان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم الشاكرين، قد اعترف بتقصيره وعجزه عن شكر نعم الله فقال: -رضي الله عنه-لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، فما ذا نقول نحن؟!
وبعد هذا كله:
اعلموا - يا رعاكم الله - أن الحجة قامت علينا علمنا هذا أم تجاهلنا، ولا يبقى إلاّ أن نسأل أنفسنا بكل صراحة ووضوح، ما هو حالنا مع شكر نعم الله علينا؟؟!
أخي:
إذا لم تسأل نفسك اليوم وتحاسبها، فسوف تُسأل غدًا: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 8].
سدد الله الخطى، وبارك في الجهود، وهدى إلى الصواب من القول والعلم والعمل، والله أسأل أن ينفعنا بما نقول ونسمع، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.