من ذاكرة التاريخ
الخلافات والتمزق في قيادة انقلابيي 8 شباط 1963
وانقلاب عبد السلام عارف
حامد الحمداني
19/11/ 2010
أولاً : الخلافات الداخلية والتمزق في قيادة البعث:
لم يكن حزب البعث يحوي عنصر التجانس بين أعضائه، فقد كان أعضاءه وقيادييه ينتمون لطبقات مختلفة، قسم منهم من الطبقة البرجوازية، أو البرجوازية الصغيرة، ونسبة قليلة من العمال والفلاحين والحرفيين ذوي الدخل المحدود.
وكانت قيادة الحزب، على وجه الخصوص، تضم حوالي 5 % من الفلاحين، أكثرهم من الديوانية و20 % من العمال من منطقتي الكرخ والأعظمية، و50 % من الطلاب ذوي الأصول الاجتماعية المختلفة والباقي من الضباط والموظفين والمهنيين (1).
كما كان معظم ضباطهم من الطائفة السنية، في حين كانت قيادتهم القطرية تتألف من خمسة من الشيعة، وثلاثة من الطائفة السنية، ويرجع معظم أعضاء البعث من المناطق الريفية المختلفة نوعا ما، والواقعة على نهري دجلة والفرات الأعليين ومن مجموع 52 من قادة وكوادر الحزب كان 38,5% منهم من السنة، و53,8 % من الشيعة، و7,7 % من الأكراد الفيلين.(2)
وبسبب هذا التباين في التركيبة القومية، والطائفية، والطبقية، فقد كان من الطبيعي أن تكون هناك اختلافات في التطلعات والتوجهات والأفكار والعواطف، كما أن ما ورد حول ارتباط عدد من أعضاء قيادة الحزب بالاستخبارات الأمريكية، وتلقيهم الأوامر والتوجيهات منها، من جهة، ووجود نسبة عالية من الطلاب 50 %الذين لا تتجاوز أعمارهم على الأغلب 20 عاماً بين صفوفهم، وعدم نضوج هؤلاء فكرياً وسياسياً، حيث كان كل همهم منصباً على حربهم الشعواء ضد الشيوعية، وحتى قياديي الحزب، كانوا من هذا الطراز، كما وصفهم مؤسس الحزب، عندما قائلاً:
{بعد الثورة ـ أي انقلاب 8 شباط ـ بدأت أشعر بالقلق من فرديتهم، وطريقتهم الطائشة في تصريف الأمور، واكتشفت أنهم ليسوا من عيار قيادة بلد، وشعب}.
لقد كان الحزب عبارة عن تجمع لعناصر معادية للشيوعية، لا يجمعها أي رابط أيديولوجي، وظهرت بينهم تكتلات أساسها المنطقة، أو العشيرة أو الطائفة، وهكذا كانت التناقضات والخلافات تبرز شيئاً فشيئاً على سطح الأحداث والتي كان من بينها :
1 ـ الموقف من عبد السلام عارف :
في 11 شباط 1963، حدث بين قيادة البعث وعبد السلام عارف، الذي نصبوه رئيساً للجمهورية، صِدامٌ مكشوف، مما دفع علي صالح السعدي، أمين سر القيادة القطرية للحزب، إلى أن يطرح موضوع بقاء عبد السلام عارف أو إزاحته من منصبه، قائلاً:
{ إن عبد السلام عارف سوف يثير لنا الكثير من المتاعب، وربما يكون خطر علينا، إلا أن أغلبية القيادة لم تأخذ برأي السعدي خلال اجتماع القيادة في دار حازم جواد، وقد هدد السعدي بالاستقالة إذا لم تأخذ القيادة برأيه، لكنه عدل عن ذلك بعد قليل، وبعد نهاية الاجتماع ذهب حازم جواد إلى عبد السلام عارف، وأخبره بما دار في الاجتماع، وحذره من أن السعدي ينوي قتله والتخلص منه}.(3)
2 ـ الموقف من قانون الأحوال المدنية:
الخلاف الثاني حدث بين أعضاء القيادة القطرية حينما طُرح موضوع قانون الأحوال المدنية، رقم 188 لسنة 1959 الذي شرعه الزعيم عبد الكريم قاسم، والذي اعتُبر ثورة اجتماعية أنجزتها ثورة 14 تموز فيما يخص حقوق المرأة وحريتها، وإطلاق سراح نصف المجتمع العراقي الذي تمثله المرأة من عبودية الرجل، وكان القانون قد ساوى المرأة بالرجل في الإرث، ومنع تعدد الزوجات إلا في حالات خاصة وضرورية، ومنع ما يعرف بالقتل غسلاً للعار، وغيرها من الأمور الأخرى، وقام عبد السلام عارف بإلغاء القانون في 18 آذار 1963، أثناء وجود علي صالح السعدي في القاهرة، وانقسم مجلس قيادة الثورة ذو الأغلبية البعثية وأعضاء القيادة القطرية حول مسألة الإلغاء، حيث أيده بعض الأعضاء، وعارضه البعض الآخر.
3 ـ الموقف من الحركات السياسية القومية :
كان الخلاف الثالث بين أعضاء قيادة البعث ينصب حول الموقف من الحركات السياسية القومية [القوميون، والناصريون، والحركيون]، وقد أجرت قيادة الحزب نقاشات حادة حول الموقف منهم، وبرز خلال النقاش فكرتان متعارضتان، الأولى تدعو إلى تحجيم القوى القومية، والأخرى تدعو للتعاون معها، لكن القيادة البعثية لم تستطع حسم الأمر، بل على العكس من ذلك أدى الأمر إلى تعيمق الخلافات، والصراعات فيما بين أعضاء القيادة.
4 ـ الموقف من الحرس القومي :
في شهر حزيران 1963 ظهرت أسباب أخرى للخلافات بين أعضاء قيادة الحزب حول الحرس القومي، فقد وجهت القيادة العليا للقوات المسلحة في 4 تموز 1963 برقية إلى قيادة الحرس القومي تحذرها وتهددها بحل الحرس القومي إذا لم تتوقف هذه القوات عن الإجراءات المضرة بالأمن العام وراحة المواطنين. فقد كانت روائح الجرائم التي يقترفها الحرس القومي ضد أبناء الشعب بشكل عام، والشيوعيين منهم بوجه خاص، قد أزكمت الأنوف، وضجت الجماهير الواسعة من الشعب من تصرفاتهم، وإجرامهم.
إلا أن القائد العام لقوات الحرس القومي [منذر الونداوي] لم يكد يتسلم البرقية حتى أسرع إلى الطلب من القيادة العليا للقوات المسلحة سحب وإلغاء البرقية المذكورة في موقف يبدو منه التحدي، مدعياً أن الحرس القومي قوة شعبية ذات قيادة مستقلة، وأن الحق في إصدار أوامر من هذا النوع لا يعود إلى أي شخص كان، بل إلى السلطة المعتمدة شعبياً، والتي هي في ظل ظروف الثورة الراهنة، هي المجلس الوطني لقيادة الثورة ولا أحد غيره.(4)
وهكذا وصل التناقض والخلاف بين البعثيين وضباط الجيش، وعلى رأسهم عبد السلام عارف، إلى مرحلة عالية من التوتر، وبدأ عبد السلام عارف يفكر في قلب سلطة البعثيين بأسرع وقت ممكن.
5 ـ الحرب في كردستان:
وجاءت الحرب في كردستان، التي بدأها البعثيون في 10 أيار 63 لتزيد وضعهم حرجاً، وتعمق من الخلافات فيما بينهم حتى أصبح حزب البعث في وضع لا يحسد عليه، فقد تألبت كل القوى السياسية والعسكرية ضدهم وسئمت أعمالهم وتصرفاتهم.
حاول عبد السلام عارف، وأحمد حسن البكر، بالتعاون مع حازم جواد، وطالب شبيب التخلص من علي صالح السعدي، وإخراجه من الحكومة ومجلس قيادة الثورة، إلا أن الظروف لم تكن مؤاتية لمثل هذا العمل، في ذلك الوقت.
ففي 13 أيلول عُقد المؤتمر القطري للحزب، وجرى فيه انتخاب ثلاث أعضاء جدد من مؤيدي علي صالح السعدي، وهم كل من:
[هاني الفكيكي] و[حمدي عبد المجيد] و[محسن الشيخ راضي]، فيما أُسقط طالب شبيب في الانتخابات، وبقي حازم جواد، كما فاز [أحمد حسن البكر] و[صالح مهدي عماش] و[كريم شنتاف] بتلك الانتخابات.
وهكذا بدا الانقسام ظاهراً أكثر فأكثر، فجماعة السعدي تتهم جماعة حازم جواد باليمينية، بينما تتهم جماعة حازم جواد السعدي وجماعته باليسارية، ووصل الأمر بعلي صالح السعدي إلى الإدعاء بالماركسية، وحاول أن يبرئ نفسه من دماء آلاف الشيوعيين.
وفي الفترة ما بين 5 ـ23 تشرين الأول، عُقد المؤتمر القومي لحزب البعث، في دمشق، وجرى تعاون بين السعدي و[حمود الشوفي] حيث ضمنا لهما أكثرية من أصوات المؤتمرين العراقيين، والسوريين، وسيطرا على المؤتمر وقراراته، وبلغ بهم الحال أن شنوا هجوماً عنيفاً على جناح مؤسس الحزب [ميشيل عفلق]، وطرحوا أفكاراً راديكالية فيما يخص التخطيط الاشتراكي، وحول المزارع التعاونية للفلاحين. (5)
ضاقت الدنيا بميشيل عفلق، حيث لم يتحمل الانقلاب الذي أحدثته كتلة [السعدي و الشوفي] داخل المؤتمر، وجعلته يصرح علناً [ هذا لم يعد حزبي].
ثانياً:الخلافات بين الجناحين المدني والعسكري في الحزب:
بعد أن قوي مركز علي صالح مركزه داخل القيادتين القطرية والقومية، و بدأ هو وكتلته يطرحون أفكاراً راديكالية، وتحولا نحو اليسار، بدأ الضباط البعثيون يشعرون بعدم الرضا من اتجاهات السعدي وكتلته، و أخذت مواقفهم تتباعد شيئاً فشيئاً عن مواقف السعدي، وانقسم تبعاً لذلك الجناح المدني للحزب، فقد وقف الونداوي وحمدي عبد المجيد ومحسن الشيخ راضي، بالإضافة إلى الحرس القومي، واتحاد العمال، واتحاد الطلاب، إلى جانب السعدي، فيما وقف حازم جواد وطالب شبيب، وطاهر يحيى ـ رئيس أركان الجيش ـ وحردان عبد الغفار التكريتي ـ قائد القوة الجوية، وعبد الستار عبد اللطيف ـ وزير المواصلات، ومحمد المهداوي ـ قائد كتيبة الدبابات الثالثة، إلى الجانب المعارض لجناح السعدي، بينما وقف أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش على الحياد، لكن السعدي أتهمهما بأنهما يدفعان الحزب نحو اليمين، وأنهما يؤيدان معارضيه في الخفاء.
ثالثاً:الصراع بين البعث والضباط القوميين والناصريين والحركيين:
كان أحد العوامل الرئيسية للصراع داخل قيادة حزب البعث هو الموقف من القوى القومية، والناصرية، والحركية، فقد انقسمت القيادة القطرية في مواقفها إلى كتلتين فكتلة حازم جواد وطالب شبيب كانت تطالب بقيام جبهة واسعة تضم حزب البعث وكل الفئات القومية والناصرية، والحركية، فيما كانت كتلة السعدي تعارض هذا التوجه، وقد أدى ذلك إلى تأزم الموقف، واشتداد الصراع بين الجناحين وتصاعده حتى وصل الأمر إلى الموقف من السعدي نفسه عندما حاول جناح [ جواد و شبيب] إزاحة السعدي متهمين إياه بالتهور والتطرف.
1 - إعفاء السعدي من منصب وزير الداخلية
وتعاون احمد حسن البكر مع عبد السلام عارف على إزاحته، فكانت البداية قد تمثلت بإجراء تعديل وزاري في 11 أيار 1963، جرى بموجبه إعفاء السعدي من منصب وزير الداخلية، وتعيينه وزيراً للإرشاد، فيما عيين غريمه حازم جواد مكانه وزيراً للداخلية.
وكان ذلك الإجراء أول ضربة توجه إلى قيادة السعدي. ثم تطور الأمر إلى محاولة إخراجه من الوزارة، ومجلس قيادة الثورة، والسيطرة على الحرس القومي الذي يقوده منذر الونداوي، والذي يعتمد عليه السعدي اعتماداً كلياً.
2 - عارف يعفي الونداوي من قيادة الحرس والونداوي يرفض الأمر:
وفي 1 تشرين الثاني63 صدر مرسوم جمهوري يقضي بإعفاء منذر الونداوي من قيادة الحرس القومي، وتعيين عبد الستار عبد اللطيف بدلاً عنه، غير أن الونداوي تحدى المرسوم، وأصرّ على البقاء في منصبه، في قيادة الحرس القومي، وقد أدى ذلك إلى تعقد الموقف، وتصاعد حمى الصراع الذي تفجر بعد عشرة أيام.
يتبع...
الخلافات والتمزق في قيادة انقلابيي 8 شباط 1963
وانقلاب عبد السلام عارف
حامد الحمداني
19/11/ 2010
أولاً : الخلافات الداخلية والتمزق في قيادة البعث:
لم يكن حزب البعث يحوي عنصر التجانس بين أعضائه، فقد كان أعضاءه وقيادييه ينتمون لطبقات مختلفة، قسم منهم من الطبقة البرجوازية، أو البرجوازية الصغيرة، ونسبة قليلة من العمال والفلاحين والحرفيين ذوي الدخل المحدود.
وكانت قيادة الحزب، على وجه الخصوص، تضم حوالي 5 % من الفلاحين، أكثرهم من الديوانية و20 % من العمال من منطقتي الكرخ والأعظمية، و50 % من الطلاب ذوي الأصول الاجتماعية المختلفة والباقي من الضباط والموظفين والمهنيين (1).
كما كان معظم ضباطهم من الطائفة السنية، في حين كانت قيادتهم القطرية تتألف من خمسة من الشيعة، وثلاثة من الطائفة السنية، ويرجع معظم أعضاء البعث من المناطق الريفية المختلفة نوعا ما، والواقعة على نهري دجلة والفرات الأعليين ومن مجموع 52 من قادة وكوادر الحزب كان 38,5% منهم من السنة، و53,8 % من الشيعة، و7,7 % من الأكراد الفيلين.(2)
وبسبب هذا التباين في التركيبة القومية، والطائفية، والطبقية، فقد كان من الطبيعي أن تكون هناك اختلافات في التطلعات والتوجهات والأفكار والعواطف، كما أن ما ورد حول ارتباط عدد من أعضاء قيادة الحزب بالاستخبارات الأمريكية، وتلقيهم الأوامر والتوجيهات منها، من جهة، ووجود نسبة عالية من الطلاب 50 %الذين لا تتجاوز أعمارهم على الأغلب 20 عاماً بين صفوفهم، وعدم نضوج هؤلاء فكرياً وسياسياً، حيث كان كل همهم منصباً على حربهم الشعواء ضد الشيوعية، وحتى قياديي الحزب، كانوا من هذا الطراز، كما وصفهم مؤسس الحزب، عندما قائلاً:
{بعد الثورة ـ أي انقلاب 8 شباط ـ بدأت أشعر بالقلق من فرديتهم، وطريقتهم الطائشة في تصريف الأمور، واكتشفت أنهم ليسوا من عيار قيادة بلد، وشعب}.
لقد كان الحزب عبارة عن تجمع لعناصر معادية للشيوعية، لا يجمعها أي رابط أيديولوجي، وظهرت بينهم تكتلات أساسها المنطقة، أو العشيرة أو الطائفة، وهكذا كانت التناقضات والخلافات تبرز شيئاً فشيئاً على سطح الأحداث والتي كان من بينها :
1 ـ الموقف من عبد السلام عارف :
في 11 شباط 1963، حدث بين قيادة البعث وعبد السلام عارف، الذي نصبوه رئيساً للجمهورية، صِدامٌ مكشوف، مما دفع علي صالح السعدي، أمين سر القيادة القطرية للحزب، إلى أن يطرح موضوع بقاء عبد السلام عارف أو إزاحته من منصبه، قائلاً:
{ إن عبد السلام عارف سوف يثير لنا الكثير من المتاعب، وربما يكون خطر علينا، إلا أن أغلبية القيادة لم تأخذ برأي السعدي خلال اجتماع القيادة في دار حازم جواد، وقد هدد السعدي بالاستقالة إذا لم تأخذ القيادة برأيه، لكنه عدل عن ذلك بعد قليل، وبعد نهاية الاجتماع ذهب حازم جواد إلى عبد السلام عارف، وأخبره بما دار في الاجتماع، وحذره من أن السعدي ينوي قتله والتخلص منه}.(3)
2 ـ الموقف من قانون الأحوال المدنية:
الخلاف الثاني حدث بين أعضاء القيادة القطرية حينما طُرح موضوع قانون الأحوال المدنية، رقم 188 لسنة 1959 الذي شرعه الزعيم عبد الكريم قاسم، والذي اعتُبر ثورة اجتماعية أنجزتها ثورة 14 تموز فيما يخص حقوق المرأة وحريتها، وإطلاق سراح نصف المجتمع العراقي الذي تمثله المرأة من عبودية الرجل، وكان القانون قد ساوى المرأة بالرجل في الإرث، ومنع تعدد الزوجات إلا في حالات خاصة وضرورية، ومنع ما يعرف بالقتل غسلاً للعار، وغيرها من الأمور الأخرى، وقام عبد السلام عارف بإلغاء القانون في 18 آذار 1963، أثناء وجود علي صالح السعدي في القاهرة، وانقسم مجلس قيادة الثورة ذو الأغلبية البعثية وأعضاء القيادة القطرية حول مسألة الإلغاء، حيث أيده بعض الأعضاء، وعارضه البعض الآخر.
3 ـ الموقف من الحركات السياسية القومية :
كان الخلاف الثالث بين أعضاء قيادة البعث ينصب حول الموقف من الحركات السياسية القومية [القوميون، والناصريون، والحركيون]، وقد أجرت قيادة الحزب نقاشات حادة حول الموقف منهم، وبرز خلال النقاش فكرتان متعارضتان، الأولى تدعو إلى تحجيم القوى القومية، والأخرى تدعو للتعاون معها، لكن القيادة البعثية لم تستطع حسم الأمر، بل على العكس من ذلك أدى الأمر إلى تعيمق الخلافات، والصراعات فيما بين أعضاء القيادة.
4 ـ الموقف من الحرس القومي :
في شهر حزيران 1963 ظهرت أسباب أخرى للخلافات بين أعضاء قيادة الحزب حول الحرس القومي، فقد وجهت القيادة العليا للقوات المسلحة في 4 تموز 1963 برقية إلى قيادة الحرس القومي تحذرها وتهددها بحل الحرس القومي إذا لم تتوقف هذه القوات عن الإجراءات المضرة بالأمن العام وراحة المواطنين. فقد كانت روائح الجرائم التي يقترفها الحرس القومي ضد أبناء الشعب بشكل عام، والشيوعيين منهم بوجه خاص، قد أزكمت الأنوف، وضجت الجماهير الواسعة من الشعب من تصرفاتهم، وإجرامهم.
إلا أن القائد العام لقوات الحرس القومي [منذر الونداوي] لم يكد يتسلم البرقية حتى أسرع إلى الطلب من القيادة العليا للقوات المسلحة سحب وإلغاء البرقية المذكورة في موقف يبدو منه التحدي، مدعياً أن الحرس القومي قوة شعبية ذات قيادة مستقلة، وأن الحق في إصدار أوامر من هذا النوع لا يعود إلى أي شخص كان، بل إلى السلطة المعتمدة شعبياً، والتي هي في ظل ظروف الثورة الراهنة، هي المجلس الوطني لقيادة الثورة ولا أحد غيره.(4)
وهكذا وصل التناقض والخلاف بين البعثيين وضباط الجيش، وعلى رأسهم عبد السلام عارف، إلى مرحلة عالية من التوتر، وبدأ عبد السلام عارف يفكر في قلب سلطة البعثيين بأسرع وقت ممكن.
5 ـ الحرب في كردستان:
وجاءت الحرب في كردستان، التي بدأها البعثيون في 10 أيار 63 لتزيد وضعهم حرجاً، وتعمق من الخلافات فيما بينهم حتى أصبح حزب البعث في وضع لا يحسد عليه، فقد تألبت كل القوى السياسية والعسكرية ضدهم وسئمت أعمالهم وتصرفاتهم.
حاول عبد السلام عارف، وأحمد حسن البكر، بالتعاون مع حازم جواد، وطالب شبيب التخلص من علي صالح السعدي، وإخراجه من الحكومة ومجلس قيادة الثورة، إلا أن الظروف لم تكن مؤاتية لمثل هذا العمل، في ذلك الوقت.
ففي 13 أيلول عُقد المؤتمر القطري للحزب، وجرى فيه انتخاب ثلاث أعضاء جدد من مؤيدي علي صالح السعدي، وهم كل من:
[هاني الفكيكي] و[حمدي عبد المجيد] و[محسن الشيخ راضي]، فيما أُسقط طالب شبيب في الانتخابات، وبقي حازم جواد، كما فاز [أحمد حسن البكر] و[صالح مهدي عماش] و[كريم شنتاف] بتلك الانتخابات.
وهكذا بدا الانقسام ظاهراً أكثر فأكثر، فجماعة السعدي تتهم جماعة حازم جواد باليمينية، بينما تتهم جماعة حازم جواد السعدي وجماعته باليسارية، ووصل الأمر بعلي صالح السعدي إلى الإدعاء بالماركسية، وحاول أن يبرئ نفسه من دماء آلاف الشيوعيين.
وفي الفترة ما بين 5 ـ23 تشرين الأول، عُقد المؤتمر القومي لحزب البعث، في دمشق، وجرى تعاون بين السعدي و[حمود الشوفي] حيث ضمنا لهما أكثرية من أصوات المؤتمرين العراقيين، والسوريين، وسيطرا على المؤتمر وقراراته، وبلغ بهم الحال أن شنوا هجوماً عنيفاً على جناح مؤسس الحزب [ميشيل عفلق]، وطرحوا أفكاراً راديكالية فيما يخص التخطيط الاشتراكي، وحول المزارع التعاونية للفلاحين. (5)
ضاقت الدنيا بميشيل عفلق، حيث لم يتحمل الانقلاب الذي أحدثته كتلة [السعدي و الشوفي] داخل المؤتمر، وجعلته يصرح علناً [ هذا لم يعد حزبي].
ثانياً:الخلافات بين الجناحين المدني والعسكري في الحزب:
بعد أن قوي مركز علي صالح مركزه داخل القيادتين القطرية والقومية، و بدأ هو وكتلته يطرحون أفكاراً راديكالية، وتحولا نحو اليسار، بدأ الضباط البعثيون يشعرون بعدم الرضا من اتجاهات السعدي وكتلته، و أخذت مواقفهم تتباعد شيئاً فشيئاً عن مواقف السعدي، وانقسم تبعاً لذلك الجناح المدني للحزب، فقد وقف الونداوي وحمدي عبد المجيد ومحسن الشيخ راضي، بالإضافة إلى الحرس القومي، واتحاد العمال، واتحاد الطلاب، إلى جانب السعدي، فيما وقف حازم جواد وطالب شبيب، وطاهر يحيى ـ رئيس أركان الجيش ـ وحردان عبد الغفار التكريتي ـ قائد القوة الجوية، وعبد الستار عبد اللطيف ـ وزير المواصلات، ومحمد المهداوي ـ قائد كتيبة الدبابات الثالثة، إلى الجانب المعارض لجناح السعدي، بينما وقف أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش على الحياد، لكن السعدي أتهمهما بأنهما يدفعان الحزب نحو اليمين، وأنهما يؤيدان معارضيه في الخفاء.
ثالثاً:الصراع بين البعث والضباط القوميين والناصريين والحركيين:
كان أحد العوامل الرئيسية للصراع داخل قيادة حزب البعث هو الموقف من القوى القومية، والناصرية، والحركية، فقد انقسمت القيادة القطرية في مواقفها إلى كتلتين فكتلة حازم جواد وطالب شبيب كانت تطالب بقيام جبهة واسعة تضم حزب البعث وكل الفئات القومية والناصرية، والحركية، فيما كانت كتلة السعدي تعارض هذا التوجه، وقد أدى ذلك إلى تأزم الموقف، واشتداد الصراع بين الجناحين وتصاعده حتى وصل الأمر إلى الموقف من السعدي نفسه عندما حاول جناح [ جواد و شبيب] إزاحة السعدي متهمين إياه بالتهور والتطرف.
1 - إعفاء السعدي من منصب وزير الداخلية
وتعاون احمد حسن البكر مع عبد السلام عارف على إزاحته، فكانت البداية قد تمثلت بإجراء تعديل وزاري في 11 أيار 1963، جرى بموجبه إعفاء السعدي من منصب وزير الداخلية، وتعيينه وزيراً للإرشاد، فيما عيين غريمه حازم جواد مكانه وزيراً للداخلية.
وكان ذلك الإجراء أول ضربة توجه إلى قيادة السعدي. ثم تطور الأمر إلى محاولة إخراجه من الوزارة، ومجلس قيادة الثورة، والسيطرة على الحرس القومي الذي يقوده منذر الونداوي، والذي يعتمد عليه السعدي اعتماداً كلياً.
2 - عارف يعفي الونداوي من قيادة الحرس والونداوي يرفض الأمر:
وفي 1 تشرين الثاني63 صدر مرسوم جمهوري يقضي بإعفاء منذر الونداوي من قيادة الحرس القومي، وتعيين عبد الستار عبد اللطيف بدلاً عنه، غير أن الونداوي تحدى المرسوم، وأصرّ على البقاء في منصبه، في قيادة الحرس القومي، وقد أدى ذلك إلى تعقد الموقف، وتصاعد حمى الصراع الذي تفجر بعد عشرة أيام.
يتبع...