الإشكالية: هل إدراك المكان نشاط عقلي خالص؟
التوسيع:
المقدمة والإشكالية:
إن الإنسان من حيث هو مخلوق مجهز بإستعدادات عقلية لا يقف كما هو الحال بالنسبة للحيوانات الأخرى، عند مستوى النشاط الحسي الذي يحقق بواسطته التكيف مع موضوعات العالم الخارجي أو عناصر المكان، بل يسعى للقيام بنشاط عقلي يمكنه من تحقيق "التعرف" على هذه الموضوعات أو العناصر، وهذا التعرف يرادف معنى الإدراك. فهل الإدراك عملية عقلية محضة؟
عرض القضية:
يرى أنصار المدرسة العقلية عموما أن العقل ليس مجرد مرآة عاكسة لعالم مستقل بذاته، بل هو المكون الأصلي لهذا العالم وهذا لكونه الأداة الوحيدة التي نتعرف بواسكتها على الوجود، أي هو آله الإدراك للمكان، بل الإداك في حد ذاته تأويل للإحساسات التي نتقلها إلنا حزواسنا عندما تقع على شيء من أشياء المكان، ثم إن الطفل قد يرى ما يرى الرجل البالغ ومع ذلك لا يدرك الأول ما يدركه الثاني. فالعقل أداة التمييز والتعرف على الأشياء، بل وإعطاءها صورا إدراكية محددة.
الحجة:
ولقد ساق العقليون أدلة كثيرة لتأكيد مزاعمهم أهمها "الكوجيتو الديكارتي"، حيث يعمد ديكارت إلى وضع العقل كمبدأ للحكم على الوجود من خلال البديهة القائلة: "أنا أفكر إذن أنا موجو"، أي أن إدراك الوجود الذاتي والموضوعي لازم عن الفكر، ومن ثم فإن العقل هو الذي يضفي على الأشياء صفاتها وكيفياتها، أما الوجود ككيفية حسية خاصة فلا معنى له، "فالإحساس خال من المعنى" كما يقول ديكارت، فالمسافة مثلا ليست كيفية حسية بل "صورة ذهنية"، ولذلك نجد أن الطفل الصغير عندما يرى القمر يمد يده إليه قاصدا الإمساك به، الأمر الذي يدل على ارتباط فكرة المسافة بالنضج العقلي لا بالقدرة الحسية. ولقد حاول كانط ( فيلسوف ألماني مثالي 1724-1804) من بعد ديكارت أن يقدم براهين تثبت تبعية الإدراك لملكة العقل عندما صرح بأن "المكان صورة قبلية للحساسية"، حيث أورد دليلا مفاده أن إدراك المكان بدون أشياء ممكن، بينما يستحيل إدراك الأشياء بدون مكان، إذ من الضروري افتراض وجود المكان أولا ليتم إمكان تصور وجود الأشياء. وعلى هذا يكون الإدراك كما يقول آلان: "هو خاصية لنشاط العقل أو حكم عقلي خاص" بذكره لمثال المكعب.
النقد:
غير أن اعتبار إدراك المكان نشاط عقلي محض يقودنا إلى افتراض ضمني مفاده أن للعقل قدرة على إبداع صور من العدم، وهذا أمر لا تدمع التجارب العلمية التي تؤكد على القدرة التفسيرية للعقل وليس القدرة على الخلق. فالعقل يركب الصور انطلاقا من العناصر المتضمنة مسبقا في الخبرة الحسية، فالمعاني التي نكونها عن الأشياء هي حصيلة سلسلة من التجريدات والتعميمات وليست مقولات فطرية في العقل.
عرض النقيض:
وبخلاف العقليين اتجه انصار المدرة الغشتالتية أمثال كوفكا وكوهلر وهي مدرسة ألمانية في علم النفس إلى إعتبار الإدراك عملية تابعة لبنية الموضوع، أي أن للأشياء صورة موضوعية مستقلة عن الوعي، تفرض ذاتها في شكل إدراكي مميز، وأن المكان ما هو إلا بنية ما أو صيغة ما تنظم وفقها الأشياء، فكلمة "غشتالت Gestalt" ذاتها تعني الكل او الصورة.
الحجة:
لكي تتم عملية الإدراك يجب توفر مجموعة من الشروط الموضوعية على رأسها عامل الشكل والأرضية، وهو عامل يمكٌن العقل من التمييز بين الأشياء على بروزها ضمن شكل معين دون التركيز على الخلفية التي تحملها، فالإدراك يكون أقوى بقدر ما يكون الشكل بارزا مثل إدراك السفينة في عرض البحر أو الطائة في السماء......، ثم يأتي بعد ذلك عامل الإنتظام والتقارب والتماثل وغيرها من العوامل التي تشكل الصورة الإدراكية للأشياء كما هي في بنيتها الموضوعية لا كما لو كانت خاصية ذاتية للحكم العقلي.
النقد:
لكن بالرغم مما حققته هذه المردسة من نجاح في مجال أبحاث علم النفس، إلا أنها تهمل أثر العوامل الذاتية في إدراك المكان، إذ تدل التجارب العلمية على ان للإهتمام والميل والرغبة والعادة وغيرها من العناصر الذاتية كالخبرة الماضية كلها لها دور كبير في تشكيل الصور الإدراكية للمكان أو للأشياء في العلم الخارجي.
التركيب:
لقد حاولت النظرية الظواهرية بزعامة مؤسسها " ادموند هوسرل" أن تقدم تصورا جامعا مانعا لماهية الإدراك وذلك عن طريق ربطها بين الذات (نشاط العقل) وبين الوجود الموضوعي للأشياء، فردت الإدراك إلى أفعال الوعي من حيث أن هذا الأخير ليس وعيا خالصا بل وعي بشيء ما، وعليه يكون الإدراك ذاتيا من حيث ارتباطه بالوعي او الشعور من جهة، ويكون موضوعيا من حيث أن هذا الوعي ذاته لا معنى له خارج علاقته بالأشياء "إذ كل وعي هو وعي بشيء ما".
الاستنتاج:
إن تضارب النظريات حول فعل الإدراك يدل على مدى تعقيد هذا الفعل خاصة إذا ما حاولنا تلمسه في ما هيته وحقيقته وليس في آثاره وقيمته و لكن مع ذلك يمكن القول أن إدراك المكان نتيجة تداخل شروط كثيرة منها سلامة الوظائف الحسية ونضج القدرات عقلية وتميز الموضوعات في بنيتها الخارجية.
التوسيع:
المقدمة والإشكالية:
إن الإنسان من حيث هو مخلوق مجهز بإستعدادات عقلية لا يقف كما هو الحال بالنسبة للحيوانات الأخرى، عند مستوى النشاط الحسي الذي يحقق بواسطته التكيف مع موضوعات العالم الخارجي أو عناصر المكان، بل يسعى للقيام بنشاط عقلي يمكنه من تحقيق "التعرف" على هذه الموضوعات أو العناصر، وهذا التعرف يرادف معنى الإدراك. فهل الإدراك عملية عقلية محضة؟
عرض القضية:
يرى أنصار المدرسة العقلية عموما أن العقل ليس مجرد مرآة عاكسة لعالم مستقل بذاته، بل هو المكون الأصلي لهذا العالم وهذا لكونه الأداة الوحيدة التي نتعرف بواسكتها على الوجود، أي هو آله الإدراك للمكان، بل الإداك في حد ذاته تأويل للإحساسات التي نتقلها إلنا حزواسنا عندما تقع على شيء من أشياء المكان، ثم إن الطفل قد يرى ما يرى الرجل البالغ ومع ذلك لا يدرك الأول ما يدركه الثاني. فالعقل أداة التمييز والتعرف على الأشياء، بل وإعطاءها صورا إدراكية محددة.
الحجة:
ولقد ساق العقليون أدلة كثيرة لتأكيد مزاعمهم أهمها "الكوجيتو الديكارتي"، حيث يعمد ديكارت إلى وضع العقل كمبدأ للحكم على الوجود من خلال البديهة القائلة: "أنا أفكر إذن أنا موجو"، أي أن إدراك الوجود الذاتي والموضوعي لازم عن الفكر، ومن ثم فإن العقل هو الذي يضفي على الأشياء صفاتها وكيفياتها، أما الوجود ككيفية حسية خاصة فلا معنى له، "فالإحساس خال من المعنى" كما يقول ديكارت، فالمسافة مثلا ليست كيفية حسية بل "صورة ذهنية"، ولذلك نجد أن الطفل الصغير عندما يرى القمر يمد يده إليه قاصدا الإمساك به، الأمر الذي يدل على ارتباط فكرة المسافة بالنضج العقلي لا بالقدرة الحسية. ولقد حاول كانط ( فيلسوف ألماني مثالي 1724-1804) من بعد ديكارت أن يقدم براهين تثبت تبعية الإدراك لملكة العقل عندما صرح بأن "المكان صورة قبلية للحساسية"، حيث أورد دليلا مفاده أن إدراك المكان بدون أشياء ممكن، بينما يستحيل إدراك الأشياء بدون مكان، إذ من الضروري افتراض وجود المكان أولا ليتم إمكان تصور وجود الأشياء. وعلى هذا يكون الإدراك كما يقول آلان: "هو خاصية لنشاط العقل أو حكم عقلي خاص" بذكره لمثال المكعب.
النقد:
غير أن اعتبار إدراك المكان نشاط عقلي محض يقودنا إلى افتراض ضمني مفاده أن للعقل قدرة على إبداع صور من العدم، وهذا أمر لا تدمع التجارب العلمية التي تؤكد على القدرة التفسيرية للعقل وليس القدرة على الخلق. فالعقل يركب الصور انطلاقا من العناصر المتضمنة مسبقا في الخبرة الحسية، فالمعاني التي نكونها عن الأشياء هي حصيلة سلسلة من التجريدات والتعميمات وليست مقولات فطرية في العقل.
عرض النقيض:
وبخلاف العقليين اتجه انصار المدرة الغشتالتية أمثال كوفكا وكوهلر وهي مدرسة ألمانية في علم النفس إلى إعتبار الإدراك عملية تابعة لبنية الموضوع، أي أن للأشياء صورة موضوعية مستقلة عن الوعي، تفرض ذاتها في شكل إدراكي مميز، وأن المكان ما هو إلا بنية ما أو صيغة ما تنظم وفقها الأشياء، فكلمة "غشتالت Gestalt" ذاتها تعني الكل او الصورة.
الحجة:
لكي تتم عملية الإدراك يجب توفر مجموعة من الشروط الموضوعية على رأسها عامل الشكل والأرضية، وهو عامل يمكٌن العقل من التمييز بين الأشياء على بروزها ضمن شكل معين دون التركيز على الخلفية التي تحملها، فالإدراك يكون أقوى بقدر ما يكون الشكل بارزا مثل إدراك السفينة في عرض البحر أو الطائة في السماء......، ثم يأتي بعد ذلك عامل الإنتظام والتقارب والتماثل وغيرها من العوامل التي تشكل الصورة الإدراكية للأشياء كما هي في بنيتها الموضوعية لا كما لو كانت خاصية ذاتية للحكم العقلي.
النقد:
لكن بالرغم مما حققته هذه المردسة من نجاح في مجال أبحاث علم النفس، إلا أنها تهمل أثر العوامل الذاتية في إدراك المكان، إذ تدل التجارب العلمية على ان للإهتمام والميل والرغبة والعادة وغيرها من العناصر الذاتية كالخبرة الماضية كلها لها دور كبير في تشكيل الصور الإدراكية للمكان أو للأشياء في العلم الخارجي.
التركيب:
لقد حاولت النظرية الظواهرية بزعامة مؤسسها " ادموند هوسرل" أن تقدم تصورا جامعا مانعا لماهية الإدراك وذلك عن طريق ربطها بين الذات (نشاط العقل) وبين الوجود الموضوعي للأشياء، فردت الإدراك إلى أفعال الوعي من حيث أن هذا الأخير ليس وعيا خالصا بل وعي بشيء ما، وعليه يكون الإدراك ذاتيا من حيث ارتباطه بالوعي او الشعور من جهة، ويكون موضوعيا من حيث أن هذا الوعي ذاته لا معنى له خارج علاقته بالأشياء "إذ كل وعي هو وعي بشيء ما".
الاستنتاج:
إن تضارب النظريات حول فعل الإدراك يدل على مدى تعقيد هذا الفعل خاصة إذا ما حاولنا تلمسه في ما هيته وحقيقته وليس في آثاره وقيمته و لكن مع ذلك يمكن القول أن إدراك المكان نتيجة تداخل شروط كثيرة منها سلامة الوظائف الحسية ونضج القدرات عقلية وتميز الموضوعات في بنيتها الخارجية.