مغاور يبرود.. حضارة أزلية أدهشت علماء الآثار في العالم !
امتازت سورية منذ فجر التاريخ بأن جزءاً كبيراً من مساحتها صخري كلسي، وبالتالي فهي زاخرة بالكثير من المغاور والملاجئ التي كانت فيما مضى سكناً للإنسان القديم، ودلت الحفريات الأثرية التي أجريت طوال القرن الماضي أن أقدم سكن في سورية وربما في الشرق عموماً كان في مغاور يبرود إلى الشمال من مدينة دمشق بـ حوالي 80 كم والتي وجدت فيها آثار تعود إلى مليون سنة وقد أضفت هذه المغاور وغيرها من الشواهد الأثرية مسحة تواصلية في الزمان والمكان جعلت من سورية منذ ما قبل التاريخ محور العالم القديم. ودفع بمجموعات من الباحثين والمنقبين على مدى القرن العشرين إلى دراسة المكان والتنقيب فيه بغرض البحث عن دلائل تاريخية عن تاريخ الاستيطان في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص والعالم بشكل عام.
دراجة هوائية قادت عالم الآثار الألماني ألفريد روست عام 1930 إلى اكتشاف حضارة من أقدم حضارات العالم، وهي الحضارة اليبرودية- نسبة إلى بلدة يبرود- والتي أثبت علماء التاريخ أنها أقدم مكان استوطنه إنسان ما قبل التاريخ وأقام فيه أهم حضاراته الحجرية حيث توفرت في المكان أهم شروط الحياة البشرية كالماء والغذاء والملجأ الصخري الذي كان يأوي إليه إنسان المنطقة ويحتمي به من أخطار الحيوانات المفترسة أومن عوامل الطبيعة، ولعل أهم مثال حي على هذه الملاجىء وادي إسكفتا في يبرود الذي ثبت أنه كان موطناً لإنسان العصور الحجرية القديمة منذ ما يزيد عن 300 ألف سنة مضت، كما أثبتت المكتشفات الأثرية في هذا الوادي أن إنسان يبرود أقام أعظم حضارة حجرية صوانية في التاريخ البشري وهذا ما أثبتته كشوف العالم الأثري الألماني الشهير روست عام 1930 والبعثة التابعة لجامعة كولومبيا عام 1964 والبعثة اليابانية عام 1987.
يبرود.. صناعة حجرية كاملة
قام البروفسور ر. سوليكي رئيس البعثة الأثرية في جامعة كولومبيا الأمريكية في إعادة الكشف عن الملجأ الأول في وادي إسكفتا في الأعوام 1987-1988-1989
ويعود الفضل في اكتشاف الأهمية التاريخية والأثرية ليبرود إلى المنقب والعالم الأثري الألماني (الفريد روست) الذي كان يقوم بجولة في الشرق الأوسط على دراجة هوائية بدأها من مدينة هامبورغ عبر البلقان إلى إسطنبول فمناطق الأناضول إلى سورية مروراً بحلب وحماة وحمص، وعندما زار روست وادي إسكفتا في يبرود اكتشف في الطبقة السطحية ثلاثة ملاجىء صخرية تقع في هذا الوادي وتحتوي أدواتٍ صوانية مصنعة تعود إلى العصر الموستيري وهي تتميز بنمط خاص من المقاحف ذات الحواف العاملة المتلاقية والتشذيب العالي المتدرج على شكل حراشف الأسماك وقد تأكد وجود هذه الصناعة الآن في مناطق أخرى من بلاد الشام وأصبح من المعروف أن اليبروديين في عصور ما قبل التاريخ قد عاشوا بين حوالي 150- 100 ألف سنة خلت وانتشروا على منطقة واسعة من الأردن وفلسطين جنوباً حتى البادية السورية شمالاً وقد اكتشف روست وجود خمس وعشرين حضارة حجرية متوضعة فوق بعضها وكان أقدمها الحضارة الحجرية اليبرودية وذلك على عمق أحد عشر متراً ونصف تحت سطح أرض الملاجئ، ويشير ذلك إلى أن المكان قد سُكن من قبل جماعات بشرية مختلفة تتابعت عليه على امتداد العصر الانتقالي والعصر الذي تلاه أي (الباليوليث الأوسط) واكتُشف أيضاً وجود مستوطنات لإنسان ما قبل التاريخ في هذه المواقع كما عثر على أول آثار لإنسان ما قبل التاريخ السوري في مساكنه الأولى (الملاجىء والمغاور الصخرية) التي ثبت فيما بعد أنها كانت مراكز سكن بشري كثيف ومتواصل استمر أكثر من مائتي ألف عام أي منذ العصر الحجري القديم الأدنى (الباليوليت الأدنى) وعبر الأوسط ثم الأعلى وحتى العصر الحجري الوسيط (الميزوليت) وانتهاء بالعصر الحديث (النيوليت ). وقد مارس الإنسان الأول في هذه المنطقة أنشطة متعددة كالنوم والأكل وتصنيع الأسلحة والأدوات الأخرى ودفن الموتى وإيقاد النار التي ثبت بالدليل القاطع أن إنسان يبرود كان من أوائل من استخدمها في حياته اليومية في العالم وغير ذلك، وتعتبر الأدوات الحجرية الصوانية التي وجدها الباحثون في وادي إسكفتا من الآثار المادية المباشرة للعصور الحجرية لأنها قاومت عوامل الاندثار والكثير من المخلفات العديدة الأخرى كالفأس والمقحف والمكشط والمخرز ورأس السنان التي طرقها الإنسان وحوَّلها من نواة صوانية إلى أدوات كاملة عبر آلاف السنين منذ العصر الحجري القديم وحتى العصر الحديث. وتميزت هذه الحضارة الحجرية بصناعتها المتطورة بالمقارنة غيرها في مناطق العالم حيث لم يكن لصناعة يبرود مثيل فأطلق عليها اسم (الصناعة اليبرودية ).
طبعة طينية لأقدم إنسان في العالم
تم العثور في مغاور يبرود على عظام وآثار قوائم حيوانية درسها الدكتور بركنس عام 1964 والدكتور هوير عام1965 وهي تشير إلى وجود حياة بيئية متنوعة، منذ أقدم العصور، إذ عثر على بقايا للحصان، والكركدن، والوعل، والغزال، والأسد، والدب الأسمر، والسلحفاة، وعثر إضافة إلى ذلك على طبعة قدم إنسان على الطين، وهي الأولى والوحيدة في العالم يعود تاريخها إلى 50 ألف سنة مضت، . وكذلك تم العثور في الملجأ الثالث على البقايا الإنسانية الوحيدة في يبرود ومنها قطعتان من هيكل بشري، وحتى الآن لم يتمكن الخبراء من تحديد عمرهما، لكنهما في الغالب تعودان إلى العصر الحجري الحديث
وحتى الآن ما تزال الدراسات حول مسألة تحديد عمر الإنسان الحجري في يبرود بين أخذ ورد، هل هو قبل إنسان النياندرتال أم بعده، أم أن إنسان يبرود عاصر إنسان النياندرتال في حقبة من حقبات العصور الحجرية الوسيطة ولكن الآراء ترجح أن إنسان يبرود قد سبق الإنسان النياندرتالي على الغالب ، والدليل الواضح على ذلك أن سكان مغاور وملاجىء وادي إسكفتا في يبرود، وخاصة الملجأ الأول قد استوطنوا المكان على امتداد زمن يزيد على 150 ألف سنة ، إضافة إلى 25 مجموعة بشرية لكل منها حضارتها الخاصة، وأكثرها أصالة كانت الجماعات اليبرودية التي دلت عليها أدواتها الصوانية.
مقابر صخرية بذوق فني كبير
وأيضاً من الآثار التي عُثر عليها بجانب ملاجىء ومغاور يبرود المقابر الجماعية والفردية المحفورة في أعماق الصخور على شكل هندسي بارع، وهي تشير بوضوح إلى وجود مجتمع راقٍ في تلك العصور الغابرة يتمتع بذوق فني كبير، وخصوبة في الحياة الفكرية، والمعتقدات الدينية، ومنها اهتمامه الكبير بدفن موتاه في هذه المقابر الرائعة في تصميمها، ويتألف كل قبر( ناووس) من غرفة صغيرة لها ثلاثة أقواس أو أكثر، وأسفل كل قوس مدفن أو مدفنان وكلها محفورة في الصخور الصلبة، وقد ضمت هذه المدافن رفات حكام وأفراد أسر أرستقراطية حاكمة استوطنت هذه المنطقة،
ويصف روست في كتابه الشهير( مكتشفات مغاور يبرود) أحد هذه القبور قائلاً : كان القبر منحوتاً في الصخر داخل جوف جدار شديد الانحدار، يُدخل إلى معزبته الأمامية المتطاولة من فتحة طولها متران، وبارتفاع قامة الرجل وعلى جانبيها قاعدة تابوت، ويُدخل من فتحة مماثلة أخرى إلى حجرة رئيسية فيه مساحتها عشرة أمتار مربعة، وهي ذات أرضية مستوية، وفيها ثلاث فجوات جدارية، وتتسع لعشرة توابيت منحوتة في الصخر. وتم العثور في هذه القبور على العديد من الأسلحة وأدوات الطعام والشراب، والسُرج الفخارية، وأدوات الزينة، وفي هذا إشارة إلى أن المجتمع اليبرودي كما المجتمع التدمري تماماً كان يؤمن بالبعث بعد الموت مع الفارق الزمني الكبير بين الحضارتين.