فترة حكم الملك هيرود العظيم (Herod the Great) 37ق.م.-4ق.م.
ولد هيرود عام 73ق.م. والده أنتيبيتر(Antipater)، من منطقة آيدوميا (Idumea) وهي الأراضي الواقعة إلى الجنوب من البحر الميت، وأمه ابنة أحد شيوخ القبائل العربية واسمها سيبرس (Syprus)، وكان أبوه مواليا لهيركانوس الثاني(Hyrcanus II)، بل وكان صاحب فضل عليه في الوصول إلى العرش، وذلك بمساعدته حسم صراعه مع أخيه، إريستابيولاس)Aristobulus (.
تعيين هيرود حاكما لمنطقة الجليل:
أثناء الحرب الأهلية في الإمبراطورية الرومانية في الفترة (51-47)، وقف هيركانوس وانتيبيتر إلى جانب جوليوس قيصر (Julius Caesar) ضد بومبي (Pompey). فحصل انتيبيتر على الجنسية الرومانية. وكان من الواضح أن انتيبيتر يشكل القوة الحقيقية في حكم هيركانوس، فأراد أن يوطد لابنه هيرود حكما، فتم تعيينه حاكما لمنطقة الجليل (Galilee) والتي تقع ضمن سيطرة هيركانوس. بدأ هيرود حكمه بشن حرب عنيفة على قطاع الطرق واللصوص، مما اكسبه شعبية كبيرة.
في عام 44 ق.م. اغتيل القيصر وتولى مكانه اكتافيان (Octavian) وكان قائد جيشه مارك انتوني (Mark Antony)، وقد قررا الانتقام من قتلة القيصر وهم بروتس (Brutus) وكاسيوس (Cassius)، اللذان فرا إلى الشرق واستعانوا بتلك الأقاليم لتزودهم بالمال ومساندتهم في حربهم ضد اكتافيان وانتوني، وفي ظل تلك الفوضى تم اغتيال انتيبيتر والد هيرود.
وفي عام 43 ق.م. حاول انتيجونوس (Antigonus) ابن أخ هيركانوس الاستيلاء على عرش عمه، لكن هيرود استطاع إحباط محاولته وحفظ العرش لهيركانوس، ثم تزوج ابنة هيركانوس، ميريام (Mariamne).
وفي عام 42 ق.م. تمكن اكتافيان وانتوني من القضاء على بروتس وكاسيوس. ثم قام مارك انتوني بجولة على الأقاليم الشرقية التي كانت تساند قتلة القيصر، وفي أثناء جولته التقاه هيرود الذي استطاع إقناعه بمدى الولاء والإخلاص الذي يحمله للإمبراطورية الرومانية، فأراد انتوني مكافأة هيرود فاقتطع له حكما في الجليل، وفي تلك الأثناء كان لهيرود أخا اسمه فاسييل(Phasael) يحكم القدس ولم يكن هيركانوس إلا زعيما بالاسم فقط لليهود.
هذا الإجراء من طرف مارك انتوني أثار سخط اليهود ونقمتهم، لان هيرود في النهاية ليس يهوديا، ووالدة انتيبيتر وإن كان يعبد اله اليهود بإخلاص إلا انه من ايدوميه (Idumea) التي ينظر اليهود إلى سكانها باستعلاء ويعتبرونهم غير أنقياء لأنهم من سلالة عيسو (Esau) الأخ التوأم ليعقوب ابن اسحق والذي كانت زوجاته كنعانييات، وقد اتسمت العلاقة ما بين يعقوب وعيسو بالعداء، وذلك لان يعقوب حصل على مباركة والده بالحيلة، وكان يفترض أن تكون المباركة من نصيب عيسو لأنه خرج إلى الدنيا قبل يعقوب وذلك بحسب التقاليد اليهودية. والأكثر من ذلك أن والدة هيرود كانت عربية وبحسب التقاليد اليهودية لا احد يكون يهوديا إلا إذا كانت أمه يهودية.
عند اندلاع الحرب بين الفرس والروم، وقف عامة اليهود إلى جانب الفرس. وفي العام 40 ق.م. وقع هيركانوس أسيرا في يد الفرس، وتولى انتيجونوس ابن أخيه العرش، أما فاسييل أخ هيرود فقد قتل في المعركة، في حين استطاع هيرود الهرب إلى روما.
تتويج هيرود العظيم ملكا:
في عام 37 ق.م. وبعد أن تمكن الروم من دحر الفرس، أعادوا هيرود ومعه فيلقين من الجيش الروماني، فاستطاع الاستيلاء على القدس بعد أن حاصرها وهزم انتيجونوس. وبدا هيرود عهده كملك اعتمد على العناصر الأجنبية في توطيد حكمه وحماية عرشه. كما أرسل مبعوثا إلى ملك الفرس بهدف استعادة هيركانوس، فنجح في ذلك لان ملك الفرس كان يرى في وجود هيركانوس خطرا قد يثير حفيظة اليهود المقيمين على ارض فارس، كما أن هيركانوس الرجل الهرم لم يعد مؤهلا ليكون زعيما قد يشكل خطرا.
سياسة الملك هيرود العظيم وإنجازاته:
مما لا شك فيه أن الملك هيرود كان ملكا قويا، استطاع أن يحفظ مناطق حكمه من القلاقل الداخلية والاعتداءات الخارجية، قرب إليه الوثنيين من رعيته في حين كان على خلاف مع اليهود، وأبرزهم اليهود الفريسيين( (Pharisees-يعتبرونه ملك غير شرعي لأن أمه ليست يهودية- ، وطبقة الأغنياء –الحلفاء السابقين لأنتيجونوس-، وأسرة الحزمونيين Hasmonean)) –الأسرة الحاكمة السابقة-. أما خارج مملكته فكانت كليوبترا (Cleopatra) الأخطر بالنسبة للملك هيرود. -كان يخشى أن تحقق كليوبترا أطماعها بضم منطقة ايدوميا إلى حكمها بمساعدة حليفها انتوني- ورغم أن هيرود كان ملكا تابعا للإمبراطورية الرومانية إلا انه اتبع نوعا من السياسة الخارجية الخاصة به، فقد تمكن من إلحاق الهزيمة بالعرب في البترا مرتين الأولى كانت عام 31 ق.م. والثانية عام 9 ق.م. ورغم أن الرومان لم يحبذوا أن يكون له سياسة خاصة، إلا أنهم كانوا راضين عنه، خاصة وانه كان يزودهم بالمساندة والدعم العسكري كلما لزم الأمر، كم فعل عام 25 ق.م. في حملتهم على اليمن. وفي العام 23 ق.م. أضيفت مرتفعات الجولان (Golan height) وجبال لبنان (Iturea) إلى أملاك الملك هيرود.
ولكي يحافظ هيرود على استقرار ملكه فقد أكرم مواليه وحلفائه وأغدق عليهم العطايا كما أكثر من الهدايا لحلفائة من القادة الرومان. كما سك هيرود قطع نقد باسمه تحمل مبخرة لها قاعدة ثلاثية، لتدل على اهتمامه بالطقوس الدينية لليهود الأرثودوكس(Orthodox).
بقي هيرود محافظا على علاقته مع الروم ليضمن استمرار دعمهم له، وعندما اندلعت الحرب الأهلية عام 31 ق.م. ما بين الإمبراطور اكتافيان ومجلس الشيوخ (Senate) من جانب، ومارك انتوني وكليوبترا من جانب آخر، وجد هيرود نفسه إلى جانب الخاسر، وهو انتوني الذي هزم وفر إلى الإسكندرية (Alexandria).
عمل هيرود على ترتيب أمور حكمه مرة أخرى، فقتل هيركانوس ليضمن بان لا يطالبه احد بالعرش، وأبحر إلى جزيرة رودس (Rhodes)، وقابل الإمبراطور اكتافيان وتفاخر أمامه بأنه كان مخلصا لأنتوني ووعده بنفس الإخلاص. فأعجب اكتافيان بجرأة هيرود ومغامرته في القدوم إليه، ومن ناحية أخرى لم يكن اكتافيان يملك الكثير من الخيارات، لان خصمه انتوني ما زال على قيد الحياة في الإسكندرية مع كليوبترا، وإذا ما أراد مواصلة الحرب ضدهم فان هيرود سيكون حليفا مفيدا جدا. لذا ثبته على عرشه وأضاف إلى حكمه مناطق في جوديا (Judaea) كما منحه سماريا (Samaria) (سبسطية) ليحكمها. ولم يلبث اكتافيان أن تمكن من القضاء على انتوني وكليوبترا وأصبح تحت اسم أغسطس (Augustus) الحاكم الوحيد للعالم الروماني.
الجانب العمراني:
في الجانب العمراني كان لهيرود انجازات عمرانية كثيرة، منها في القدس قام بإنشاء مباني ضخمة وأسوار جديدة، وقام ببناء قلعة لحماية المعبد أطلق عليها اسم انتونيا (Antonia) تقربا من حليفه انتوني (Antony). وفي عام 31 ق.م. حدث زلزالا مدمرا، أدى إلى قتل الآلاف ودمر الكثير من البيوت، لكن هيرود واصل سياسته في إنشاء المباني ليكسب بذلك تأييد رعيته، ففي القدس قام ببناء سوقا جديدا ومدرج ومسرح وقاعة اجتماعات وقصر ملكي جديد. وفي العام 20ق.م. بدأ بإعادة بناء المعبد. كما أضاف مباني جديدة في أريحا وسبسطية، وقام ببناء قلاع جديدة، منها هيروديون (Herodion) على جبل الفريديس 12كلم جنوب بيت لحم، وقلعة مسعدة (Masada) المشرفة على البحر الميت، وقلعة المشناقة (Machaerus) وهي في الأردن إلى الشرق من البحر الميت، ويعتقد بأنها شهدت قتل يوحنا المعمدان (John the Baptist).
ومن أهم الإنجازات العمرانية للملك هيرود كان إنشاء ميناء ضخم جديد، وهو القيسارية (Caesarea) نسبة إلى الإمبراطور، وذلك كان عام 9 ق.م. وكان اسم المرفأ سيباستوس (Sebastos)، وهي الترجمة اليونانية لكلمة أغسطس(Augustus) اللاتينية وتعني المبجل وهو لقب أطلق على الإمبراطور اكتافيان. وقام بتخطيط المدينة على النمط اليوناني، وتضم: أسواقا، قناة، مكاتب حكومية، حمامات، مباني سكنية فخمة، ميادين، معابد وثنية. وقد قام الإمبراطور بالتعبد في إحدى تلك المعابد.
كان الكثير من المباني التي أنشأها هيرود، سببا في إثارة الضغينة ضده، فاليهود الأرثوذكس كانوا ينقمون عليه لميله للنمط اليوناني ولأنه يخالف الكثير من التعاليم والقوانين الموسوية، كذلك الأمر بالنسبة لليهود الفرسيين (Pharisees) الذين كانوا يزدرون كل من لا يحترم قوانين الديانة اليهودية، أما اليهود الصدوقيين (Sadducees) فقد نقموا عليه لأنه أنهى حكمهم في المملكة القديمة.
يتضح من خلال ما سبق أن الملك هيرود لم يكن يهوديا، ولكن كان ملكا رومانيا توّجوه على اليهود وقدموا له الدعم والمساعدة، وكان يتباهى بصداقته للإمبراطور الروماني. كما انه وضع نسرا ذهبيا على مدخل معبد جديد بناه في المدينة المقدسة (وهو شعار الرومان)، وقام بحرق اثنان من رجال الدين اليهود مع اتباعهم الذين قاموا بتحريض الناس ضده بسبب وجود النسر على مدخل المعبد، والأسوأ من ذلك بالنسبة لليهود أن الإمبراطور أغسطس أمر جميع الكهنة في المعبد بالقيام بطقوس العبادة مرتين يوميا بالنيابة عنه وعن مجلس الشيوخ والشعب الروماني. كما انتشرت إشاعة في ذلك الوقت صدقها اليهود، وهي أن الملك هيرود انتهك حرمة قبور لليهود وقام بسرقة المحتويات الذهبية في قبري داوود (David) وسليمان (Solomon).
تزوج هيرود من عشرة نساء، وكان زواجه من جميعهن لدوافع سياسية. قتل اثنان من ابنائه عام 7ق.م. وهما ايريستابيولاس و اليكزاندر (Alexander & (Aristobulusأمهم ميريام ابنة هيركانوس وذلك بعد اتهامه لهم بالتامر لقتله، ثم قتل بعد ذلك ابنه انتيبيتر (Antipater) عام 4ق.م. بنفس تهمة اخويه السابقين.اصيب الملك هيرود في نهاية عهده بمرض مزمن توفي على أثره في ربيع عام 4ق.م. في اريحا.
مملكة هيرود العظيم بعد وفاته 4ق.م -66م:
بناءا على وصية الملك هيرود، وزعت أراضي مملكته على ثلاثة من أبنائه ليحكموها على النحو التالي: 1- تولى بعده ابنه اركيولاس (Archelaus)، ليحكم الأقاليم الجنوبية من مملكة والده، وهي منطقة السامرة ((Samaria ومنطقة جوديا (Judea) –الأراضي الواقعة غرب البحر الميت- وكان قاسيا في الحكم كوالده، لكنه افتقر للطموح والموهبة التي تمتع بها والده، مما أثار نقمة اليهود والسمره ضده، الأمر الذي دفع الإمبراطور أغسطس لعزله عام 6م وايفاد حاكم روماني مكانه.
2- ابنه هيرود أنتيباس الفترة الهيرودية (Herodian Period) 2.gifHerod Antipas) الأقاليم الشمالية، وهي منطقة الجليل Galilee) ) ومنطقة بيريا (Peraea). –اراضي تقع شرق نهر الاردن ما بين بحيرة طبريا والبحر الميت- واستمر حكمه من 4ق.م. إلى 39م. بنى مدينة تيبيرياس Tiberias)) (طبريا) على الطراز الهيلينستي (Hellenistic). –نتاج امتزاج الحضارة اليونانية بالحضارة الشرقية- وهو من حدثت معه قصة سلوم Salome)) وقتل يوحنا المعمدان (John the Baptist) ، –وهو النبي يحيى بن زكريا-، والتي يربطها البعض خطئا بالملك هيرود الأب. –بعد أن هجر انتيباس زوجته، تزوج من الزوجة السابقة لأخيه غير الشقيق هيرود فيليب Herod Philip)) واسمها هيرودياس (Herodias) (ابنة ايريستابيولاس Aristobulus ابن هيرود الاب) فحضرت إلى قصره ومعها ابنتها سلوم. وكان أن رقصت سلوم امام انتيباس واحد ضيوفه فقال لها أن تطلب ما تشاء، فطلبت رأس يوحنا المعمدان وذلك بتحريض من امها هيرودياس بسبب معارضته زواجها من أنتيباس واعتباره باطل وزنا لأنها ابنة أخيه، فأجاب انتيباس طلبها وقتل يوحنا المعمدان وكان ذلك عام 30م- وفي العام 39م استولى اﭼريبا الأول (Agrippa I) –وهو أخ هيرودياس زوجة انتيباس- على عرش انتيباس الذي نفي خارج مملكته.
3- ابنه فيليب ((Philip: وحكم الأقاليم الشمالية الشرقية، وتضم إيتشوريا (Iturea) –من جبال لبنان-، وتراتشونايتس(Trachonitis) وآورينايتس ((Auranitis وبيتانيا (Batanea) وﭼولينايتيس Gaulanitis)) –الجولان-. واتخذ قيسارية فيليب (Caesarea Philippi) عاصمة له. توفي عام 34م، فتولى الحكم مكانه حاكم روماني لغاية عام 37م، حيث ضم اﭼريبا الأول تلك الأراضي إلى مملكته.
تمكن أﭼريبا الأول من ضم الأراضي التي كانت تحت حكم اركيولاس إلى مملكته عام 41م، وبذلك أصبح يحكم جميع الأراضي التي ضمتها مملكة جده الملك هيرود العظيم، وبقيت تحت حكمه حتى وفاته عام 44م، فتولى الحكم ثلاثة حكام رومان على المناطق الثلاث.
بقي الحكم في الأقاليم الجنوبية بيد حاكم روماني لغاية عام 66م، عندما ثار اليهود ضد الرومان. في حين تولى الحكم في الأقاليم الشمالية أﭼريبا الثاني، -وهو ابن أﭼريبا الأول وآخر حكام الأسرة الهيرودية- عام 53م، وعندما تزوجت أخته دروسيلا (Drusilla)من الحاكم الروماني لمناطق جوديا انتونياس فيليكس(Antonius Felix)، منحه فيليكس مسؤولية معبد القدس وتعيين الكاهن الأكبر للمعبد بالإضافة إلى جزء من الاقاليم الشمالية الشرقية.
قام اليهود بثورة ضد الرومان عام 66م، وطردوا اجريبا الثاني الذي التجأ إلى الرومان وساعدهم في قمع الثورة، التي استمرت 4سنوات، حيث تمكن الرمان من إخماد الثورة عام 70م، لكنهم بعد تلك الثورة أصبحوا يحكمون فلسطين بشكل مباشر كجزء من الامبراطورية الرومانية تحت اسم بيليستينا Palaestina)).
ولد هيرود عام 73ق.م. والده أنتيبيتر(Antipater)، من منطقة آيدوميا (Idumea) وهي الأراضي الواقعة إلى الجنوب من البحر الميت، وأمه ابنة أحد شيوخ القبائل العربية واسمها سيبرس (Syprus)، وكان أبوه مواليا لهيركانوس الثاني(Hyrcanus II)، بل وكان صاحب فضل عليه في الوصول إلى العرش، وذلك بمساعدته حسم صراعه مع أخيه، إريستابيولاس)Aristobulus (.
تعيين هيرود حاكما لمنطقة الجليل:
أثناء الحرب الأهلية في الإمبراطورية الرومانية في الفترة (51-47)، وقف هيركانوس وانتيبيتر إلى جانب جوليوس قيصر (Julius Caesar) ضد بومبي (Pompey). فحصل انتيبيتر على الجنسية الرومانية. وكان من الواضح أن انتيبيتر يشكل القوة الحقيقية في حكم هيركانوس، فأراد أن يوطد لابنه هيرود حكما، فتم تعيينه حاكما لمنطقة الجليل (Galilee) والتي تقع ضمن سيطرة هيركانوس. بدأ هيرود حكمه بشن حرب عنيفة على قطاع الطرق واللصوص، مما اكسبه شعبية كبيرة.
في عام 44 ق.م. اغتيل القيصر وتولى مكانه اكتافيان (Octavian) وكان قائد جيشه مارك انتوني (Mark Antony)، وقد قررا الانتقام من قتلة القيصر وهم بروتس (Brutus) وكاسيوس (Cassius)، اللذان فرا إلى الشرق واستعانوا بتلك الأقاليم لتزودهم بالمال ومساندتهم في حربهم ضد اكتافيان وانتوني، وفي ظل تلك الفوضى تم اغتيال انتيبيتر والد هيرود.
وفي عام 43 ق.م. حاول انتيجونوس (Antigonus) ابن أخ هيركانوس الاستيلاء على عرش عمه، لكن هيرود استطاع إحباط محاولته وحفظ العرش لهيركانوس، ثم تزوج ابنة هيركانوس، ميريام (Mariamne).
وفي عام 42 ق.م. تمكن اكتافيان وانتوني من القضاء على بروتس وكاسيوس. ثم قام مارك انتوني بجولة على الأقاليم الشرقية التي كانت تساند قتلة القيصر، وفي أثناء جولته التقاه هيرود الذي استطاع إقناعه بمدى الولاء والإخلاص الذي يحمله للإمبراطورية الرومانية، فأراد انتوني مكافأة هيرود فاقتطع له حكما في الجليل، وفي تلك الأثناء كان لهيرود أخا اسمه فاسييل(Phasael) يحكم القدس ولم يكن هيركانوس إلا زعيما بالاسم فقط لليهود.
هذا الإجراء من طرف مارك انتوني أثار سخط اليهود ونقمتهم، لان هيرود في النهاية ليس يهوديا، ووالدة انتيبيتر وإن كان يعبد اله اليهود بإخلاص إلا انه من ايدوميه (Idumea) التي ينظر اليهود إلى سكانها باستعلاء ويعتبرونهم غير أنقياء لأنهم من سلالة عيسو (Esau) الأخ التوأم ليعقوب ابن اسحق والذي كانت زوجاته كنعانييات، وقد اتسمت العلاقة ما بين يعقوب وعيسو بالعداء، وذلك لان يعقوب حصل على مباركة والده بالحيلة، وكان يفترض أن تكون المباركة من نصيب عيسو لأنه خرج إلى الدنيا قبل يعقوب وذلك بحسب التقاليد اليهودية. والأكثر من ذلك أن والدة هيرود كانت عربية وبحسب التقاليد اليهودية لا احد يكون يهوديا إلا إذا كانت أمه يهودية.
عند اندلاع الحرب بين الفرس والروم، وقف عامة اليهود إلى جانب الفرس. وفي العام 40 ق.م. وقع هيركانوس أسيرا في يد الفرس، وتولى انتيجونوس ابن أخيه العرش، أما فاسييل أخ هيرود فقد قتل في المعركة، في حين استطاع هيرود الهرب إلى روما.
تتويج هيرود العظيم ملكا:
في عام 37 ق.م. وبعد أن تمكن الروم من دحر الفرس، أعادوا هيرود ومعه فيلقين من الجيش الروماني، فاستطاع الاستيلاء على القدس بعد أن حاصرها وهزم انتيجونوس. وبدا هيرود عهده كملك اعتمد على العناصر الأجنبية في توطيد حكمه وحماية عرشه. كما أرسل مبعوثا إلى ملك الفرس بهدف استعادة هيركانوس، فنجح في ذلك لان ملك الفرس كان يرى في وجود هيركانوس خطرا قد يثير حفيظة اليهود المقيمين على ارض فارس، كما أن هيركانوس الرجل الهرم لم يعد مؤهلا ليكون زعيما قد يشكل خطرا.
سياسة الملك هيرود العظيم وإنجازاته:
مما لا شك فيه أن الملك هيرود كان ملكا قويا، استطاع أن يحفظ مناطق حكمه من القلاقل الداخلية والاعتداءات الخارجية، قرب إليه الوثنيين من رعيته في حين كان على خلاف مع اليهود، وأبرزهم اليهود الفريسيين( (Pharisees-يعتبرونه ملك غير شرعي لأن أمه ليست يهودية- ، وطبقة الأغنياء –الحلفاء السابقين لأنتيجونوس-، وأسرة الحزمونيين Hasmonean)) –الأسرة الحاكمة السابقة-. أما خارج مملكته فكانت كليوبترا (Cleopatra) الأخطر بالنسبة للملك هيرود. -كان يخشى أن تحقق كليوبترا أطماعها بضم منطقة ايدوميا إلى حكمها بمساعدة حليفها انتوني- ورغم أن هيرود كان ملكا تابعا للإمبراطورية الرومانية إلا انه اتبع نوعا من السياسة الخارجية الخاصة به، فقد تمكن من إلحاق الهزيمة بالعرب في البترا مرتين الأولى كانت عام 31 ق.م. والثانية عام 9 ق.م. ورغم أن الرومان لم يحبذوا أن يكون له سياسة خاصة، إلا أنهم كانوا راضين عنه، خاصة وانه كان يزودهم بالمساندة والدعم العسكري كلما لزم الأمر، كم فعل عام 25 ق.م. في حملتهم على اليمن. وفي العام 23 ق.م. أضيفت مرتفعات الجولان (Golan height) وجبال لبنان (Iturea) إلى أملاك الملك هيرود.
ولكي يحافظ هيرود على استقرار ملكه فقد أكرم مواليه وحلفائه وأغدق عليهم العطايا كما أكثر من الهدايا لحلفائة من القادة الرومان. كما سك هيرود قطع نقد باسمه تحمل مبخرة لها قاعدة ثلاثية، لتدل على اهتمامه بالطقوس الدينية لليهود الأرثودوكس(Orthodox).
بقي هيرود محافظا على علاقته مع الروم ليضمن استمرار دعمهم له، وعندما اندلعت الحرب الأهلية عام 31 ق.م. ما بين الإمبراطور اكتافيان ومجلس الشيوخ (Senate) من جانب، ومارك انتوني وكليوبترا من جانب آخر، وجد هيرود نفسه إلى جانب الخاسر، وهو انتوني الذي هزم وفر إلى الإسكندرية (Alexandria).
عمل هيرود على ترتيب أمور حكمه مرة أخرى، فقتل هيركانوس ليضمن بان لا يطالبه احد بالعرش، وأبحر إلى جزيرة رودس (Rhodes)، وقابل الإمبراطور اكتافيان وتفاخر أمامه بأنه كان مخلصا لأنتوني ووعده بنفس الإخلاص. فأعجب اكتافيان بجرأة هيرود ومغامرته في القدوم إليه، ومن ناحية أخرى لم يكن اكتافيان يملك الكثير من الخيارات، لان خصمه انتوني ما زال على قيد الحياة في الإسكندرية مع كليوبترا، وإذا ما أراد مواصلة الحرب ضدهم فان هيرود سيكون حليفا مفيدا جدا. لذا ثبته على عرشه وأضاف إلى حكمه مناطق في جوديا (Judaea) كما منحه سماريا (Samaria) (سبسطية) ليحكمها. ولم يلبث اكتافيان أن تمكن من القضاء على انتوني وكليوبترا وأصبح تحت اسم أغسطس (Augustus) الحاكم الوحيد للعالم الروماني.
الجانب العمراني:
في الجانب العمراني كان لهيرود انجازات عمرانية كثيرة، منها في القدس قام بإنشاء مباني ضخمة وأسوار جديدة، وقام ببناء قلعة لحماية المعبد أطلق عليها اسم انتونيا (Antonia) تقربا من حليفه انتوني (Antony). وفي عام 31 ق.م. حدث زلزالا مدمرا، أدى إلى قتل الآلاف ودمر الكثير من البيوت، لكن هيرود واصل سياسته في إنشاء المباني ليكسب بذلك تأييد رعيته، ففي القدس قام ببناء سوقا جديدا ومدرج ومسرح وقاعة اجتماعات وقصر ملكي جديد. وفي العام 20ق.م. بدأ بإعادة بناء المعبد. كما أضاف مباني جديدة في أريحا وسبسطية، وقام ببناء قلاع جديدة، منها هيروديون (Herodion) على جبل الفريديس 12كلم جنوب بيت لحم، وقلعة مسعدة (Masada) المشرفة على البحر الميت، وقلعة المشناقة (Machaerus) وهي في الأردن إلى الشرق من البحر الميت، ويعتقد بأنها شهدت قتل يوحنا المعمدان (John the Baptist).
ومن أهم الإنجازات العمرانية للملك هيرود كان إنشاء ميناء ضخم جديد، وهو القيسارية (Caesarea) نسبة إلى الإمبراطور، وذلك كان عام 9 ق.م. وكان اسم المرفأ سيباستوس (Sebastos)، وهي الترجمة اليونانية لكلمة أغسطس(Augustus) اللاتينية وتعني المبجل وهو لقب أطلق على الإمبراطور اكتافيان. وقام بتخطيط المدينة على النمط اليوناني، وتضم: أسواقا، قناة، مكاتب حكومية، حمامات، مباني سكنية فخمة، ميادين، معابد وثنية. وقد قام الإمبراطور بالتعبد في إحدى تلك المعابد.
كان الكثير من المباني التي أنشأها هيرود، سببا في إثارة الضغينة ضده، فاليهود الأرثوذكس كانوا ينقمون عليه لميله للنمط اليوناني ولأنه يخالف الكثير من التعاليم والقوانين الموسوية، كذلك الأمر بالنسبة لليهود الفرسيين (Pharisees) الذين كانوا يزدرون كل من لا يحترم قوانين الديانة اليهودية، أما اليهود الصدوقيين (Sadducees) فقد نقموا عليه لأنه أنهى حكمهم في المملكة القديمة.
يتضح من خلال ما سبق أن الملك هيرود لم يكن يهوديا، ولكن كان ملكا رومانيا توّجوه على اليهود وقدموا له الدعم والمساعدة، وكان يتباهى بصداقته للإمبراطور الروماني. كما انه وضع نسرا ذهبيا على مدخل معبد جديد بناه في المدينة المقدسة (وهو شعار الرومان)، وقام بحرق اثنان من رجال الدين اليهود مع اتباعهم الذين قاموا بتحريض الناس ضده بسبب وجود النسر على مدخل المعبد، والأسوأ من ذلك بالنسبة لليهود أن الإمبراطور أغسطس أمر جميع الكهنة في المعبد بالقيام بطقوس العبادة مرتين يوميا بالنيابة عنه وعن مجلس الشيوخ والشعب الروماني. كما انتشرت إشاعة في ذلك الوقت صدقها اليهود، وهي أن الملك هيرود انتهك حرمة قبور لليهود وقام بسرقة المحتويات الذهبية في قبري داوود (David) وسليمان (Solomon).
تزوج هيرود من عشرة نساء، وكان زواجه من جميعهن لدوافع سياسية. قتل اثنان من ابنائه عام 7ق.م. وهما ايريستابيولاس و اليكزاندر (Alexander & (Aristobulusأمهم ميريام ابنة هيركانوس وذلك بعد اتهامه لهم بالتامر لقتله، ثم قتل بعد ذلك ابنه انتيبيتر (Antipater) عام 4ق.م. بنفس تهمة اخويه السابقين.اصيب الملك هيرود في نهاية عهده بمرض مزمن توفي على أثره في ربيع عام 4ق.م. في اريحا.
مملكة هيرود العظيم بعد وفاته 4ق.م -66م:
بناءا على وصية الملك هيرود، وزعت أراضي مملكته على ثلاثة من أبنائه ليحكموها على النحو التالي: 1- تولى بعده ابنه اركيولاس (Archelaus)، ليحكم الأقاليم الجنوبية من مملكة والده، وهي منطقة السامرة ((Samaria ومنطقة جوديا (Judea) –الأراضي الواقعة غرب البحر الميت- وكان قاسيا في الحكم كوالده، لكنه افتقر للطموح والموهبة التي تمتع بها والده، مما أثار نقمة اليهود والسمره ضده، الأمر الذي دفع الإمبراطور أغسطس لعزله عام 6م وايفاد حاكم روماني مكانه.
2- ابنه هيرود أنتيباس الفترة الهيرودية (Herodian Period) 2.gifHerod Antipas) الأقاليم الشمالية، وهي منطقة الجليل Galilee) ) ومنطقة بيريا (Peraea). –اراضي تقع شرق نهر الاردن ما بين بحيرة طبريا والبحر الميت- واستمر حكمه من 4ق.م. إلى 39م. بنى مدينة تيبيرياس Tiberias)) (طبريا) على الطراز الهيلينستي (Hellenistic). –نتاج امتزاج الحضارة اليونانية بالحضارة الشرقية- وهو من حدثت معه قصة سلوم Salome)) وقتل يوحنا المعمدان (John the Baptist) ، –وهو النبي يحيى بن زكريا-، والتي يربطها البعض خطئا بالملك هيرود الأب. –بعد أن هجر انتيباس زوجته، تزوج من الزوجة السابقة لأخيه غير الشقيق هيرود فيليب Herod Philip)) واسمها هيرودياس (Herodias) (ابنة ايريستابيولاس Aristobulus ابن هيرود الاب) فحضرت إلى قصره ومعها ابنتها سلوم. وكان أن رقصت سلوم امام انتيباس واحد ضيوفه فقال لها أن تطلب ما تشاء، فطلبت رأس يوحنا المعمدان وذلك بتحريض من امها هيرودياس بسبب معارضته زواجها من أنتيباس واعتباره باطل وزنا لأنها ابنة أخيه، فأجاب انتيباس طلبها وقتل يوحنا المعمدان وكان ذلك عام 30م- وفي العام 39م استولى اﭼريبا الأول (Agrippa I) –وهو أخ هيرودياس زوجة انتيباس- على عرش انتيباس الذي نفي خارج مملكته.
3- ابنه فيليب ((Philip: وحكم الأقاليم الشمالية الشرقية، وتضم إيتشوريا (Iturea) –من جبال لبنان-، وتراتشونايتس(Trachonitis) وآورينايتس ((Auranitis وبيتانيا (Batanea) وﭼولينايتيس Gaulanitis)) –الجولان-. واتخذ قيسارية فيليب (Caesarea Philippi) عاصمة له. توفي عام 34م، فتولى الحكم مكانه حاكم روماني لغاية عام 37م، حيث ضم اﭼريبا الأول تلك الأراضي إلى مملكته.
تمكن أﭼريبا الأول من ضم الأراضي التي كانت تحت حكم اركيولاس إلى مملكته عام 41م، وبذلك أصبح يحكم جميع الأراضي التي ضمتها مملكة جده الملك هيرود العظيم، وبقيت تحت حكمه حتى وفاته عام 44م، فتولى الحكم ثلاثة حكام رومان على المناطق الثلاث.
بقي الحكم في الأقاليم الجنوبية بيد حاكم روماني لغاية عام 66م، عندما ثار اليهود ضد الرومان. في حين تولى الحكم في الأقاليم الشمالية أﭼريبا الثاني، -وهو ابن أﭼريبا الأول وآخر حكام الأسرة الهيرودية- عام 53م، وعندما تزوجت أخته دروسيلا (Drusilla)من الحاكم الروماني لمناطق جوديا انتونياس فيليكس(Antonius Felix)، منحه فيليكس مسؤولية معبد القدس وتعيين الكاهن الأكبر للمعبد بالإضافة إلى جزء من الاقاليم الشمالية الشرقية.
قام اليهود بثورة ضد الرومان عام 66م، وطردوا اجريبا الثاني الذي التجأ إلى الرومان وساعدهم في قمع الثورة، التي استمرت 4سنوات، حيث تمكن الرمان من إخماد الثورة عام 70م، لكنهم بعد تلك الثورة أصبحوا يحكمون فلسطين بشكل مباشر كجزء من الامبراطورية الرومانية تحت اسم بيليستينا Palaestina)).