الإسلام ذلك الدين العظيم الذي ارتضاه الله للبشرية جمعاء دينا قيما خالدا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ,حيث قال فيه :" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .."(3) المائدة
هذا الدين العظيم كان له الأثر الواضح في تغيير النفوس والأفكار نحو الأفضل و الأصلح بالنسبة لمعتنقيه " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم .... " الإسراء
و ليس هذا في الأجيال المتلاحقة إنما في نفس الجيل و حتى في نفس الشخصية , وإن المتتبع لمن أسلم وحسن إسلامهم في مختلف الأزمان يلاحظ مستغربا كيف انقلبت حال هؤلاء الأشخاص من حال إلى حال , وكيف نبذوا ما حملوه من أفكار وقيم بمجرد الدخول في هذا الدين, وفور تسلل شعاع النور إلى قلوبهم
وما الصحابة رضوان الله عليهم في مجملهم إلا مثالا واضحا لما نقول, فقد كان الواحد منهم في الجاهلية جلفا , قاسيا , شحيحا , لكنه ينقلب رأسا على عقب بمجرد أن يصدع بالحق , ويعلن الدخول في الإسلام .
ومن أمثلة هذا الذي نذكره , تلك المرأة العربية التي سميت بالخنساء و اسمها ( تماضر بنت عمرو ونسبها ينتهي إلى مضر ) فقد مرت بحالتين متشابهتين لكن تصرفها تجاه كل حالة كان مختلفا مع سابقتها أشد الاختلاف , متنافرا أكبر التنافر , أولاهما في الجاهلية , وثانيهما في الإسلام وإن الذي لا يعرف السبب يستغرب من تصرف هذه المرأة .
- أما الحالة الأولى فقد كانت في الجاهلية يوم سمعت نبأ مقتل أخيها صخر , فوقع الخبر على قلبها كالصاعقة في الهشيم , فلبت النار به , وتوقدت جمرات قلبها حزنا عليه , ونطق لسانها بمرثيات له بلغت عشرات القصائد, وكان مما قالته :
قذى بعينك أم بالعين عوار أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار
كأن عيني لذكراه إذا خطرت فيض يسيل على الخدين مدرار
وإن صخرا لوالينا وسيدنا وإن صخرا إذا نشتو لنحار
وإن صخرا لمقدام إذا ركبوا وإن صخرا إذا جاعوا لعقار
وإن صخرا لتأتم الهداة به كــأنـه عـلـم في رأســه نار
حـمـال ألويـة هبـاط أوديــة شهــاد أنديــة للجيــش جرار
ومما قالته أيضا :
أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجرئ الجميل ألا تبكيان الفتى السيدا
طويل النجاد رفيع العماد ساد عشيرته أمردا
وكان مما قالته أيضا :
ياعين جودي بالدموع السجول وابكي على صخر بدمع همول
لا تخذلـيـني عـنـد جــد البكـا فليس ذا يا عين وقت الخذول
ومما فعلته حزنا على أخويها صخر ومعاوية ما روي عن عمر أنه شاهدها تطوف حول البيت وهي محلوقة الرأس , تلطم خديها , وقد علقت نعل صخر في خمارها ( ديوان الخنساء طبعة بيروت قافية القاف ) .
- أما الحالة الثانية التي مرت بها هذه المرأة والتي هي بعيدة كل البعد عن الحالة الأولى فيوم نادى المنادي أن هبي جيوش الإسلام للدفاع عن الدين والعقيدة ونشر الإسلام
فجمعت أولادها الأربعة وحثتهم على القتال والجهاد في سبيل الله
لكن الغريب في الأمر يوم بلغها نبأ استشهادهم , فما نطق لسانها برثائهم وهم فلذات أكبادها , ولا لطمت الخدود ولا شقت الجيوب , وإنما قالت برباطة جأش وعزيمة وثقة :
" الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم , وإني أسأل الله أن يجمعني معهم في مستقر رحمته "
ومن لا يعرف السبب الذي حول هذه المرأة من حال إلى حال يظل مستغربا , ويبقى في حيرة من أمره
فهذه المرأة تسلل إلى قلبها أمر غــير حياتها , وقلب أفكارها , ورأب صدع قلبها , إنها باختصار دخلت في الإسلام , نعم دخلت في الإسلام الذي أعطى مفاهيم جديدة لكل شيء , مفاهيم جديدة عن الموت والحياة والصبر والخلود .
فانتقلت من حال الـيـأس والقــنـوط إلى حـال الـتـفـاؤل والأمـل
وانتقلت من حال القـلـق والاضـطـراب إلى حال الطـمأنـيـنة والاســتقرار
وانتقلت من حالة الشرود والضياع إلى حالة الوضوح في الأهداف , وتوجيه الجهود إلى مرضاة رب العالمين
نعم هذا هو الإسلام الذي ينقل الإنسان من حال إلى حال , ويرقى به إلى مصاف الكمال , فيتخلى عن كل الرذائل , ويتحلى بكل الشمائل , ليقف ثابتا في وجه الزمن , ويتخطى آلام المحن ,و ليحقق الخلافة الحقيقية التي أرادها الله للإنسان خليفة على وجه الأرض .
وما حال الخنساء حال فريد على مر الأزمان و العصور , بل هو حال كل إنسان اعتنق الإسلام وأيقن بالجنة والنار والحساب والجزاء
وما جرجة الروماني الذي كان أحد قادة جيوش الروم في معركة اليرموك إلا امتدادا للتحول الكبير الذي يحدثه الإسلام , فقد دعاه خالد بن الوليد قبل بدء المعركة إلى الإسلام فأعجب به وصدح لسانه بالشهادتين , وخر قلبه ساجدا لخالق السماء والأرض فتحول ليقاتل مع جيوش المسلمين واستشهد في تلك الغزوة فكان من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين وكان من القلائل الذي استشهدوا ولم يسجدوا لله سجدة واحدة .
وفي العصر الحديث كثير ممن أسلموا وحسن إسلامهم فنبذ كل الأفكار والقيم والمعتقدات البالية وما قصة جيفري لانك ومحمد أسد والمغني البريطاني الشهير كات ستيفنز والذي صار اسمه فيما بعد يوسف إسلام وغيرهم إلا شاهد لما يحدثه الإسلام من تغيرات في النفس الإنسانية نحو الأحسن والأفضل .
نعم إنه الإسلام , هذا الدواء الناجع الذي أرسله الله لنا شفاء لما في النفوس , وتصحيحا لما في العقول من مفاهيم , وانقلابا جذريا على واقع ملؤه العادات البالية والمعتقدات الفاسدة .
هذا هو الإسلام الذي يذلل الصعاب , ويوحد الجهود , ويرقى بالإمكانيات , ويقول للإنسان غير نفسك تغير العالم .
نعم لقد تسلل الإسلام إلى قلوب الكثيرين في الماضي والحاضر , فجعل منهم أنموذجا حيا وواضحا لأثره وتأثيره في التغيير , فنقلهم من ذل المعصية إلى عز الطاعة , ومن حدود الدنيا إلى حدود الخلود , ومن قسوة القلب إلى حشا سويداؤه الحب والرحمة وشغافه الخشية والخضوع فكانوا بذلك خير مثال لخير دين .
نعم إنه الإسلام الذي أعرض العالم عنه وقصر المسلمون في تبليغه بصورته البيضاء الناصعة فضاع العالم كله وماج بالفتن والمحن وظهرت دعوات الباطل بدلا من دعوة الحق وما ذلك إلا لأننا نسينا وصية رسول الله " وليبلغ الشاهد منكم الغائب "
والحمد لله رب العالمين .