العودة إلى الله
زهدية في الأربعين
يا نفسُ هل مِن عودةٍ ومآبِ
من قبل طيِّ صحيفتي و كتابي
مالي أراكِ بظلمةٍ ومتاهةٍ
تستعذبينَ مَشَقَّتِي وعذابي
زَحَفَت جيوشُ الشَّيبِ زَحفاً فَاعتَلَت
عَرشَ الفؤادِ تَدُكُّ صَرحَ شبابي
و الأربعونَ تُذيعُ سِرّاً ، لمْ أَكُن
مِن قَبْلِها أدخلتهُ بحسابي
هذا الشبابُ الغضُّ راحَ زَمَانُهُ
وَ الدَّهرُ كشَّر غاضباً عن نابِ
وانقَضَّت الدُّنيا على طُلاّبِها
بزخارفٍ براقةٍ و ثيابِ
فسقتهمُ لما تَنَاسَوْا غَدرَها
كأساً من الآلامِ و الأوصابِ
كم أنشَبَت أظفارَها بِلحومِهِم
فاستسلموا كفريسةٍ لعُقابِ
وَلَكم هَوَت بالمُولَعينَ بسحرها
مِن سامقاتٍ في السَّما لترابِ
ولكم تمنَّاهَا أخو الدنيا ، فَلَم
يظفر طوالَ حياتِهِ بِطِلابِ
أعيتهُ ركضاً خلفها ورَمَت بِهِ
ظَمِئاً ، كمن أعيتهُ خلف سرابِ
لا تدهشي يا نفسُ لا تتعجبي
لا تنظري لي نظرةَ استغرابِ
هذي هي الدنيا ، ألم تتعلمي ؟
أم أنتِ ممن سفَّهوا أسبابي ؟
فتشدَّقوا بالقولِ أنِّي يائسٌ
أبصرتُها من أضيقِ الأثقابِ
وبأنني لما زهدتُ أطايبي
أوصدتُ في وجه الدُّنا أبوابي
وحبستُ نفسي في قيودِ تَغَرُّبي
و زجرتُها أن بَادَرَت بعتابي
كَلا َّ، فلستُ من الذين توهموا
زوراً ، و لكن من أولي الألبابِ
والمرءُ إن أعطاهُ ربي حكمةً
كانت كبدرٍ ساطعٍ خلاّبِ
يسبي العقولَ بهاؤهُ ، فيزينُها
كالوشيِ يُبدي زينةَ الأثوابِ
هذي هيَ الدنيا كما أبصرتُها
مرَّت أمام العين مرَّ سحابِ
حدَّقتُ فيها ناظريَّ ، فلم أجد
إلا ذئاباً أَوْقَعَت بذئابِ
و الكلُّ فيها شاخِصٌ مُتَرَبِصٌ
بقواطعٍ مسلولةٍ و حِرابِ
و رأيتُ خلقاً يلهثون وراءها
فأنَختُ في وسَطِ الطريقِ رِكابي
وعلمتُ أنَّ العمرَ فيها لحظةٌ
قد تنقضي في جيئَةٍ و ذَهابِ
و الموتُ آتٍ لا يُفَرِّقُ سيفُهُ
بين الصبيِّ و ذلك المُتَصابي
فأخذتُ حِذري بالرجوع إلى الذي
خَلَقَ الدُّنا، أرجو قبولَ متابي
فَوَجَدتُهُ ربّاً غفوراً راحِماً
أنعم بِهِ من غافِرٍ توّابِ
أنَّبتُ نفسي ، لُمتُها ، وبَّختُها
أن لم يكن من قبل ذاكَ إيابي