( 1 ) وَجْهانِ
|
لَمْ تَرَ الغربةَ في وجهي
|
ولي رسمٌ بِعَينَيْها
|
طريٌّ ما تغَيَّرْ
|
آمِنٌ في مَطْرحٍ لا يعْتريهْ
|
ما اعترى وجهي
|
الذي جارَتْ عليهِ
|
دمغَةُ العُمرِ السفيهْ
|
كيْفَ - ربي - لا تَرَى
|
ما زَوَّرَ العُمرُ وحفَّر,
|
كيفَ مرَّ العُمرُ من بعْدي,
|
وما مرَّ,
|
فظلَّتْ طفلةُ الأمسِ وأَصغَرْ
|
تغْزل الرسمَ على وجهي,
|
وتحكي ما حكته لي مِرَارْ
|
عن صبيٍّ غصَّ بالدمعَةِ
|
في مقهى المطَار
|
"غِبْتَ عنِّي,
|
والثواني مَرِضَتْ,
|
ماتَتْ على قلبي,
|
فما دَارَ النَّهارْ,
|
... ليلُنَا في الأرْزِ من دهرٍ تُراهُ
|
أم تُراهُ البارحهْ?
|
... صدرُكَ الطَّيِّبُ
|
نفسُ الدفءِ والعُنْفِ,
|
ونفسُ الرائحَهْ,
|
وجهك الأسمرُ..."
|
- أدري أنَّ لي وجهًا طريًّا
|
أسمرًا لا يعْتريهْ
|
ما اعترى وجهي
|
الذي جارَتْ عليهِ
|
دمغَةُ العُمر السفيهْ
|
وجهيَ المنْسوجَ من شتَّى الوجوهْ
|
وجهَ مَنْ راح يتيهْ:
|
**************
|
( 2 ) سجينٌ في قطارْ
|
مُرَّةٌ ليلتهُ الأولى
|
ومُرٌّ يومُهُ الأولُ
|
في أرضٍ غريبَهْ,
|
مُرَّةً كانتْ ليَاليهِ الرتيبَهْ,
|
طالما عضَّ على الجوعِ
|
على الشهوةِ حرَّى
|
وانطَوى يعْلِكُ ذكْرَى
|
يمسحُ الغَبرةَ عن أمتعة ملءَ الحقيبَهْ.
|
حَجَرٌ تحملُهُ الدوَّامةُ الحرَّى,
|
سجينٌ في قطَارْ
|
ما دَرَى ما نكهةُ الشمسِ,
|
وما طِيبُ الغُبارْ
|
ورشاشُ الملحِ في ريج البحارْ.
|
***
|
مِن أَسابيعَ وفي غرفتِهِ
|
تلك الكئيبهْ.
|
تأكلُ الغبرةُ أشيَاءَ الحقيبَهْ
|
تأكلُ الوجهَ الذي خلَّفَهُ
|
لمـَّا تعرَّى
|
ومضى وجهًا طريًّا
|
ما له أَمسٌ وذِكْرى.
|
**************
|
( 3 ) مع الغَجَر
|
مَنْ تُرَى يحْتلُّ ذاكَ الفنْدقَ الريفيَّ,
|
عُرسُ الجنِّ فيه... مُحْرَقَهْ!
|
لَهَبُ الرقصِ,
|
ورقصٌ في اللهَبْ,
|
والتعَبْ?
|
مَنْ تُرَى يتعبُ مِنْ
|
لينِ الزنودِ المحرقَهْ
|
مَنْ تُرَى يرتاحُ في حُمَّى السريرْ!
|
صاحَ: "هذا الكأسُ لي
|
من أَهرقَهْ?"
|
ضَحِكَتْ:
|
"ثوبي الدِّمَشْقِي الحرير ْ
|
لستُ أَدري, لَم أَسَلْ مَنْ مَزَّقَهْ"
|
***
|
أَتْقَنَ الدوخةَ من خَصْرٍ لخَصْرٍ,
|
عادَ من عُرسِ الغَجَرْ
|
دمغَةٌ في وجههِ,
|
في دمهِ شلاَّلُ نارٍ
|
وعلى قُمْصانِهِ ألفُ أثَرْ.
|
موجةٌ واحدةٌ في دمهِ,
|
في زوغةِ الشمسِ,
|
وحمَّى المعْدنِ المصْهورِ,
|
في البركانِ, في وَهْجِ الثمارْ,
|
موجةٌ تغزلُ في المرجِ فراشاتٍ,
|
وتغْفو في خوابي الخمرِ
|
تغْفو في قوارير البَهارْ,
|
موجةٌ فوَّرها في دمهِ
|
عرسُ الغَجَرْ
|
عاد منْه ما له ذاكرةٌ
|
تُحصي الصُوَرْ
|
عمرُهُ ثانيةٌ عَبْرَ الثواني
|
يتلقَّاها, وينْسى ما عَبَرْ,
|
عمرهُ عمرُ الغَجَرْ
|
وله وجهُ الغَجَرْ
|
وجهُ من تبصُقُهُ الدوامةُ الحرَّى
|
فيرسو في المواني
|
ومحطاتِ القطَارْ
|
لِبَنَاتِ "البارِ" ما في جيْبهِ,
|
ضحكةٌ
|
حشرجةٌ خلفَ الستارْ,
|
وجهُ من يتعَبُ من نارٍ
|
فيرتاحُ لنارْ.
|
**************
|
( 4 ) بعْد الحمَّى
|
وجهُ مَنْ يصْحو من الحمَّى:
|
فراغٌ, شاشةٌ ترتجُّ
|
عينٌ مطْفأَه,
|
وصريرُ المدفأَهْ.
|
**************
|
( 5 ) جنَّةُ الضجَر
|
وجهُ ذاك الطَّالبِ القاسي
|
على أعصَابِ عينٍ متعَبَهْ
|
في زوايا متحَفٍ, في مكتَبَهْ
|
وجهُهُ يعْرقُ مصْلوبًا
|
على سِفْرٍ عتيقْ
|
وعلى صمتِ الصُورْ,
|
ووجوهٍ من حَجَرْ,
|
ثم يرتاحُ إلى الصَّمتِ العَريقْ
|
حيث لا عمرٌ
|
يبوخُ اللونُ فيه والبريقْ,
|
ضَجَرٌ في دمهِ
|
في عينهِ الصَّمتُ الذي
|
حجَّرَهُ طولُ الضجَرْ
|
وجهُهُ مِن حجَرٍ
|
بينَ وجوهٍ من حَجَرْ
|
**************
|
( 6 ) اَلأَقنعَهْ, اَلقرينهْ, جسْرُ واترلو
|
لو دعاهُ عابرٌ للبيْتِ,
|
للدفءِ, لكأسٍ مترعَهْ,
|
سوفَ يحكي ما حكى المذياعُ,
|
يحكي: "سرعةُ الصَّاروخِ,
|
تسعيرُ الريالْ,
|
جوُّنا المشحونُ بالإِشعاعِ
|
والموتى بحمَّى الخوفِ,
|
لا, شؤْمٌ, محالْ,
|
طَيِّبٌ جوُّ العِيال,
|
اِبتذالْ".
|
لو دعاهُ عابِرٌ للبيْتِ
|
لن يمضى معَهْ,
|
لو دعتْهُ اِمرأَهْ,
|
ربَّما طابَتْ لها الخمرُ
|
وطاب الشعْرُ.. نِعْمَ التوطئهْ..
|
"ما بِنا لا ما بِنا من حاجةٍ
|
للضوءِ.. أَو للمدفأَهْ.."
|
***
|
ما لها فرَّتْ وغابتْ
|
حلوةً كانت, وكانت طيِّعَهْ!
|
***
|
عَتْمةُ الشارعِ,
|
والضوءُ الذي يجلو فراغ الأقنعَهْ
|
وقنَاعٌ مسَّهُ, حدَّقَ فيهِ,
|
لو دعاهُ? آه لن يمضى معَهْ
|
"أَنْتَ! هلْ أَنتَ? بَلَى,
|
لا, لستَ, لا, عفوًا,
|
ضبابٌ موحل يُعْمي مصَابيحَ الطَّريقْ,
|
إنَّ في وجهكَ بعْضَ الشبْهِ
|
من وجه صديقْ".
|
- فلأَكُنْ ذاكَ الصَّديقْ
|
كُنْتُ أَمشي معهُ في دربِ "سوهو"
|
وهو يمشي وحدَهُ في لا مكانْ
|
وجههُ أَعتقُ من وجهي ولكنْ
|
ليس فيه أَثرُ الحمَّى
|
وتحفيرُ الزمانْ,
|
وجههُ يَحْكي بأَنَّا توءَمانْ.
|
ولماذا ساقني للجسرِ
|
حيْثُ الموجُ إِثْرَ الموجِ
|
يدوي يتدَاعى
|
مُدْخنَاتُ الفحْمِ تعْوي
|
من محطَّاتِ القطَارْ
|
والبخَار ْ
|
وضبابٌ كالحٌ ينبعُ
|
من صوب البحارْ,
|
كلُّها تغزلُ حول الجسرِ
|
حولي أُفعُوانًا, أُخْطُبوطًا
|
وَسِخَ الأظفارِ, أَشداقًا رهيبَهْ,
|
"مُتعَبٌ أَنتَ وحضنُ الماءِ
|
مرجٌ دائمُ الخضرةِ, نيسانٌ,
|
أَراجيحٌ تغَنِّي, وسريرْ
|
مخمليُّ اللينِ شفَّافٌ حرير,
|
وبناتُ الماء ما زِلْنَ
|
على الدهرِ صبايا
|
ربَّما كانَ لديهنَّ
|
قواريرٌ من البلسمِ,
|
أَعشابٌ, تعَازيمٌ عجيبَهْ
|
تمسحُ التحفيرَ عن وجهكَ
|
تسقيهِ غِوَى سُمْرتهِ الأولى المَهيبَهْ
|
لونَ لبنانٍ وطِيبَهُ".
|
مُتعَب, دوَّامةٌ عمياءُ,
|
هذا اللولبُ الملتفُّ حولي,
|
ذلك التيارُ دوني والدُّوارْ,
|
متعبٌ.. ماءٌ.. سريرْ..
|
متعَبٌ.. ماءٌ.. أَراجيحُ الحريرْ..
|
متعبٌ.. ماءٌ.. دُوَارْ..
|
وتلمَّستُ حديدَ الجسرِ
|
كانَ الجسرُ ينحلُّ ويهوي,
|
صورٌ تهوي, وأَهوي مَعَها,
|
أَهوي لِقَاعٍ لا قَرَارْ
|
وتلمَّستُ صديقي, أينَ أنتَ,
|
كيفَ غابْ?
|
اَلضبابُ الرطبُ في كفِّي
|
وفي حَلْقي وأعصابي ضَبابْ
|
ربَّما عادتْ إلى عنصُرِها الأَشياءُ
|
وانحلَّتْ ضبابْ.
|
**************
|
( 7 ) في عَتمَة الرَّحِم
|
خفِّفُوا الوطءَ
|
على أعصَابِنا يا عابرينْ
|
نحنُ ما مُتْنَا, تعِبنَا
|
من ضبابٍ وَسِخٍ,
|
مهتريءِ الوجهِ, مُدَاجي
|
يتمطَّى أُفْعُوانًا, أُخطُبوطًا,
|
وَأَحاجي,
|
رَحِمُ الأرضِ ولا الجوُّ اللعِينْ
|
خفِّفُوا الوِطءَ
|
على أعصَابِنَا يا عابرينْ,
|
نحنُ في عَتْمَةِ قبوٍ مُطْمئنِّ
|
نمسحُ الحمَّى, ونصْحو, ونغنِّي
|
نتخفَّى,
|
ونخفِّي العُمرَ من دربِ السنِينْ
|
خفِّفُوا الوطءَ
|
على أعصَابِنا يا عابرينْ.
|
**************
|
( 8 ) الوجهانِ
|
بيْنَمَا أمسحُ عن وجهي
|
تُرابَ القبوِ, ذكراهُ,
|
تلفَّتُّ, انحنَيتْ
|
فوقَ عَينَيْها, رأيتْ
|
وجهَ طفلٍ
|
غصَّ بالدمعَةِ في مقهى المطَارْ,
|
وهي تحكي ما حَكَتْهُ لي مِرارْ,
|
وكأَنَّ العُمْرَ ما فاتَ على زهوِ
|
الصَبايا وحكاياتِ الصِغَارْ
|
**************
|
( 9 ) الوجه السرمدي
|
عشتِ في حنوةِ بيتٍ, ما وقاكِ
|
أَنه بيت على الصَّخْرِ تعَمَّرْ,
|
إنَّ خلف البابِ,
|
في صمت الزوايا
|
يحفرُ الموْجُ, وتدوي الْهمْهَمَهْ
|
إنَّ في وجهكِ آثارًا
|
من الموجِ, وما محَّى, وحفَّرْ,
|
وأنا عُدتُ من التيَّارِ وجهًا
|
ضاعَ في الحمَّى,
|
وفي الموج تكسَّرْ,
|
بعْضنا ماتَ, ادفنِيهِ, ولماذا
|
نعْجِن الوهمَ ونطْلي الجُمْجُمَهْ
|
***
|
أسندِي الأَنقاضَ بالأَنقاضِ
|
شُدِّيها.. على صدري اطمئنِّي,
|
سوف تخضرُّ,
|
غدًا تخضرُّ في أعضاء طفلٍ
|
عمرُهُ منْكِ ومنِّي
|
دَمُنَا في دمِهِ يسترجعُ
|
الخصْبَ المغَنِّي,
|
حُلْمُهُ ذِكرى لنَا,
|
رجع لِما كنَّا وَكانْ,
|
ويمر العُمرُ مهزومًا
|
ويَعْوي عنْد رِجلَيهِ
|
ورِجْلَيْنا الزمانْ
|