كان زمان ، لم يكن كائنا | و حالة ، ما برحت باقية
|
ملّ بنو الإنسان أطوارهم | و برموا بالسقم و العافية
|
فاستصرخوا خالقهم و اشتهوا | لو أنّه كوّنهم ثانية
|
و بلغت أصواتهم عرشه | في ليلة مقمرة صافية
|
فقال ، إنّي فاعل ما اشتهوا | لعلّ فيه حكمة خافية
|
و شاهدوه هابطا من عل | فاحتشدوا في السّهل و الرّابيه
|
من القرى القانعة الطاوية | و المدن الجامحة الغادية
|
تألّبوا من كلّ صوب كما | تجتمع الأمطار في الساقيه
|
يسابق الصّعلوك ربّ الغنى | و الأبله الباقعة الداهية
|
و يدفع الشّيخ التوى عوده | وصار مثل الرمّة البالية
|
فتى مضى الفجر و لمّا نزل | روعته في وجهه باقية
|
و تزحم الحسناء ممكورة | خلابة كالروضة الحالية
|
دميمة تشبه في قبحها | مدينة مهجورة عافية
|
فقال ربّ العرش : ما خطبكم : | مابالكم صرخاتكم عالية ؟
|
هل أصبحت أرضكم عاقرا ، | أم غارت الأنجك في هاوية ؟
|
أم أقلع الماء فلا جدول ، | و ماتت الطير فلا شادية ؟
|
أم فقدت أعينكم نورها ، | أم غشيت أرواحكم غاشية ؟
|
أين الهوى ، إن لم يكن قد قضى | فكل جرح واجد آسية
|
الفتى :
|
قال الفتى : يا ربّ إنّ الصّبا | مصدر أحزاني و آلامي
|
ألبستنيه مونقا بعدما | أبلاه أخوالي و أعمامي
|
و صار في مذهبهم عصره | فترة زلاّت و آثام
|
فاختلفت حالي و حالاتهم | كأنّني في غير أقوامي
|
وصرت كالجدول في فدفد | أو شاعر ما بين أصنام
|
و الأخضر المورق في يابس | أو مثل صاح بين نوّام
|
دنياهم دنياي ، لكنّما | أعلامهم ليست كأعلامي
|
عندهم الروضة أشجارها | و الروض عندي الزهر النامي
|
و الطير لحم ودم عندهم | و ليس عندي غير أنغام
|
سكري بها أو بالندى و الشذى | و سكرهم بالخمر في الجام
|
يسخر قلبي بلياليهم | و يسخر الدهر بأيّامي
|
كأنّني جئت لتبكيتهم | كأنّما جاؤوا لإيلامي
|
عبء على نفسي هذا الصّبا | ألجائش المستوفز الطامي
|
يزرع حولي زهرات المنى | و شوكها في قلبي الدامي
|
فان ؛ له كلّ فان هوى | فان ، و لا ينجو من الذام
|
خذه ، و خذ قلبي و أحلامي | فإنّني أشقى بأحلامي
|
ومر يمرّ الدهر في لحظة | كالطيف أو كالبرق قدّمي
|
وازرع نجوم في لمّتي | فينجلي حندس أوهامي
|
فأبصرُ الحكمة في ضوئه | إني إليها جائعٌ ظامي
|
الشبح :
|
وجاء شيخ حائر واجف | مشتعل اللّمّة بالي الإهاب
|
كأنّما زلزلة تحته | لما به رعشة واضطراب
|
فصاح : يا ربّاه خذ حكمتي | واردد على عبدك عصر الشباب
|
إنّ أماني الروح أزهارها | و إنّ روحي اليوم قفر يباب
|
لا جدولٌ، لا بلبلٌ منشدٌ، | بلى، بها الوحشة والإكتئابْ
|
تلك الأماني ، على كذبها ، | لم تكن اللّذّة فيها كذّاب
|
زالت و ما زالت ؛ و إنّ الشّقا | أن تطمس الآي و يبقى الكتاب
|
و تسلب السرحة أرواقها | و لم تزل أعراقها في التراب
|
كنت غنيّا في زمان الصّبا | و كنت صفر الكفّ ، صفر الوطاب
|
صحوت من جهلي فأبصرتني | كأنّني سفينة في العباب
|
قيل لها ، في البحر كلّ المنى | فلم تجد فب البحر إلاّ الضّباب
|
نأت عن الشّطّ و لم تقترب | شبرا من السرّ الذي في الحجاب
|
و لو ترجّى أو به لاشتفت | لكنّما عزّ عليها الإياب
|
مر تقف الأيّام عن سيرها | فإنّها تركض مثل السّحاب
|
وضع أمامي ، لا ورائي ، المنى | وطوّل الدرب ، وزد في الصّعاب
|
ما لذّتي بالماء أروى به | بل لذّتي بالعدو خلف السّراب
|
الحسناء :
|
و قالت الحسناء : يا خالقي | و هبتني الحسن فأشقيتني
|
وجهي سنّي مشرق ، و إنّما | مرعى عيون الخلق وجهي السني
|
حظّي منه حظّ ورد الربى | من عطره الفوّاح و السوسن
|
و مثل حظّ السرو من فيئه | و الطير من تغريدها المتقن
|
و مثل حظّ النجم من نوره | في الحندس المعتكر الأدجن
|
للقائل الفيء ، و السامع | التغريد ، و الزهرة للمجتني
|
و النور للمدلج و المجتلي ، | و الدرّ للغائص و المقتني
|
كم ريبة دبّت إلى مضجعي | مع الجمال الرائع الممكن
|
إن عشقت نفسي فويل لها | و الويل لي إن رجل حبّني
|
السمّ و الشوك و جمر الغضا | أهون من كاشحة الألسن
|
كم تقتفيني نظرات الخنا | ويلي من خائنة الأعين
|
لم يبق في روحي من موضع | يا ربّ لم يخدش و لم يطعن
|
إنّ الغنى في الوجه لي آفة | فليت أنّي دمية ليتني ...
|
الجارية :
|
و سكتت ؛ فصاحت الجارية | باكية من بؤسها شاكية :
|
ذنبي إلى هذا الورى خلقتي | فهل أنا المجرمة الجانية ؟
|
إن أخطأ الخزّاف في جبله ال | طين فأيّ ذنب للآنية ؟
|
أليس من يسخر بي يزذري | بالقوّة الموجدة البارية ؟
|
لو كنت حسناء بلغت العلى | فللجمال الرتبة العالية
|
فبات من أسجد قدّامه | صاغرة يسجد قدّمية
|
فإنّني في ملإ ظالم | أحكامه جائرة قاسية
|
ليس لذّات القبح من غافر | وفيه من يغفر للزّانية
|
نفسي جزء منك ، يا خالقي | و إنّها عاقلة راقية
|
أليس ظلما ، و هي بنت العلى ، | إن تك بالقبح إذن كاسية ؟
|
فليكن الحسن رداء لها | ترفل به ، أو فلتكن عارية
|
الفقير
|
و أقبل الصّعلوك مسترحما | في مقلتيه شبح اليأس
|
يصرخ يا ربّاه حتّى متى | تحكّم الموسر في نفسي ؟
|
و تضع التاج على رأسه | و تضع الشوك على رأسي ؟
|
و يشرب اللّذّات من كأسه | و أشرب الفصّات من كأسي
|
و تنجلي الأنجم في ليله | ضاحكة كالغيد في عرس
|
و يتوارى في نهري السنا | أو يتبدّى حانق الشّمس
|
يا ربّ لا تنقله عن أنسه | و إنّما انقلني إلى الأنس
|
فإن تشأ أن لا يذوق الهنا | قلبي فجرّدني من الحسّ
|
لو لم يكن غيري في غبطة | ما شعرت روحي بالبؤس
|
الغني :
|
و قال ذو الثّروة : ما أشتهي | لا أشتهي أنّي ذو ثروة
|
أنفقت أيّامي على جمعها | و خلتني أدركت أمنيتي
|
فاستعبدتني في زمان الصبا | و أوقرت بالهمّ شيخوختي
|
قد ملكتني قبلما حزتها | و ملكتني و هي في حوزتي
|
كنحلة أمسكها شهدها | من الجناحين فلم تفلت
|
حسبتها تكسبني قوّة | فافترست قوّتها قوّتي
|
جنت على نفسي و أحلامها | جناية الشوك على الوردة
|
ينمو فتذوي فهي علّيقه | يحذرها الطائف بالروضة
|
من قائل عنّي لمن خالني | أمرح من دنياي في جنّة :
|
لا تنظر الأضواء في حجرتي | وانظر إلى الظلماء في مهجتي
|
و لا يغرّنّك قصري فما | قصري سوى سجن لحرّيّتي
|
أنّي في الصرح الرفيع الذرى | كطائر ، في قفص ، ميّت
|
كم في عباب البحر من سابح | قد مات ظمآنا إلى قطرة
|
موت الطوى شرّ و لكنّما | أفظع منه الموت بالتّخمة
|
إن سهر العاشق من لوعة | أو سهر المحزون من كربه
|
فالشوق كالحزن له آخر | و ينقضي في آخر المدّة
|
أمّا أنا فقلقي دائم | ما دمت في مالي و في فضّتي
|
و الخوف من كارثة لم تقع | أمصّ من كارثة حلّت
|
كم من فقير مرّ بي ضاحكا | كأنّما يسخر من غصّتي
|
رأيته بالأمس من كوّتي | فخلتني أنظر من هوّة
|
و كنت كالحوت رأى موجة | ضاحكة ترقص كالطفله
|
أو حيّة تدبّ في منجم | ترنو إلى فراشة حرّه
|
قد اختفت ذاتي في بردتي | فما يرى الخلق سوى بردتي
|
فهم إذا ما سلّموا سلّموا | على خيوط البرد و الحلّة
|
ربّاه أطلق من عقال الغنى | روحي ، فإنّي منه في محنه
|
وانزع من الدينار من قبضتي | صلابة الدينار من سحنتي
|
و حوّل المال إلى راحة | و حوّل القصر إلى خيمة
|
للأبله
|
و صرخ الأبله مستفسرا | ما القصد من خلقي كذا و المراد ؟
|
ألم يكن يكمل هذا الورى | إلاّ أوجدتني في فساد
|
لي صورة النّاس و حاجاتهم | من مطعم أو مشرب أو رقاد
|
لكنّ لبّي غير ألبابهم | فإنّه مكتنف بالسواد
|
يعجزني إدراك ما أدركوا | كأنّ عقلي فحمة أو رماد
|
إن كنت إنسانا فلم يا ترى | لست بادراكي كباقي العباد ؟
|
أولم أكن منهم فمرني أكن | جرادة أو أرنبا أو جواد
|
فالندّ لا يعدم مع ندّه | ذريعة للسلم أو للجهاد
|
لا تسخر النّملة من نملة | و ليس يزري بالقراد القراد
|
أم أنت كالحقل على رغمه | ينمو مع الحنطة فيه القتاد
|
للأديب :
|
وجاء بعد المستريب | الألمعي العبقريّ اللّبيب
|
فقال : إنّي تائه حائر | أنا غريب في مكان غريب
|
أبحث عن نفسي فلا أهتدي | و ليس يهديني إليها أريب
|
أنا عليم حيث لا عالم | أنا لبيب عند غير اللّبيب
|
لو أنّني كنت بلا فطنه | سرت و لم تكثر أمامي الدروب
|
و كان عقلي كعقول الورى | و كان قلبي مثل باقي القلوب
|
و صار عندي كالنجوم الورى | فلا عدوّ فيهم أو حبيب
|
ولم أر في ضحكهم و البكا | شيئا سوى الضّحك و غير النّحيب
|
و لم أسائل كوكبا طالعا | ما لك تبدو ، و لماذا تغيب
|
و لم أقف في الروض عند الضحى | يذهلني لون و شكل و طيب
|
و لم أقل ما كنت من قبلما | كنت ، و لا ما في سجلّ الغيوب
|
ما العقل ، يا ربّ ، سوى محنة | لولاه لم تكتب عليّ الذنوب
|
الخاتمة :
|
لمّا وعى الله شكايا الورى | قال لهم : كونوا كما تشتهون
|
فاستبشر الشيخ و سرّ الفتى | و الكاعب الحسناء و الحيزبون
|
...
|
لكنّهم لمّا اضمحلّ الدجى | لم يجدوا غير الذي كانا
|
...
|
هم حدّدوا القبح فكان الجمال | و عرّفوا الخير فكان الطلاح
|
و ليس من نقص و لا من كمال | فالشوك في التحقيق مثل الأقاح
|
...
|
و ذرّة الرمل ككلّ الجبال | و كالذي عزّ الذي هانا |