السؤال : كيف أحافظ على صيامي في ظل هذه المعاصي ؟
الجواب : الحمد لله
أولاً :
قد أحسنت – أخي – غاية الإحسان في سؤالك هذا ، فهو يدل على حرص منك على طاعتك أن تضيع أو أن تنقص بسبب هذه المعاصي المنتشرة .
وعلينا أن نعلم جميعاً أن حقيقة الصوم ليس مجرد ترك الطعام والشراب ، بل شرع الله تعالى الصيام لأجل أن نحصِّل التقوى ، ولذا كان الصيام الحقيقي هو الصيام عن المعاصي بتركها وهجرها والكف عنها ، وهو صوم القلب ، لا فقط صوم الجوارح ، وقد دلَْت عموم السنَّة وخصوصها على ما قلناه ، وكذا جاء في كلام أهل العلم ما يبينه ويوضحه .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ) رواه البخاري ( 1804 ).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ) رواه أحمد (8693).
وصححه ابن حبان ( 8 / 257 ) والألباني في " صحيح الترغيب " ( 1 / 262 ) .
وقد كان الصحابة وسلف الأمة يحرصون على أن يكون صيامهم طُهْرة للأنفس والجوارح ، وتَنزُّهًا عن المعاصي والآثام .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ليس الصيام من الشراب والطعام وحده ، ولكنه من الكذب والباطل واللغو .
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري : إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب ، والمأثم ، ودع أذى الخادم ، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء .
وعن حفصة بنت سيرين – وكانت عالمة من التابعين - قالت : الصيام جُنَّة ، ما لم يخرقها صاحبها ، وخرقها الغيبة .
وعن ميمون بن مهران : إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب .
ذكر هذه الآثار : ابن حزم في " المحلى " ( 4 / 308 ) .
ولا نعجب بعدها إذا علمنا أن بعض أهل العلم قال ببطلان صوم من وقع في المعصية أثناء صيامه ، وإن كان الصحيح أنه لا يبطل الصوم ، لكن لا شك في نقصانه ، ومخالفته لحقيقة الصوم .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"الغيبة تضر بالصيام ، وقد حكي عن عائشة ، وبه قال الأوزاعي : إن الغيبة تفطِّر الصائم ، وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم ، وأفرط ابن حزم فقال : يبطله كل معصية من متعمِّد لها ذاكر لصومه ، سواء كانت فعلاً ، أو قولاً ؛ لعموم قوله ( فلا يرفث ولا يجهل ) ؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) " انتهى .
" فتح الباري " ( 4 / 104 ) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله :
"أما الذي يجب عنه الصوم : فلعلكم تستغربون إذا قلت : إن الذي يجب عنه الصوم هو: المعاصي , يجب أن يصوم الإنسان عن المعاصي ؛ لأن هذا هو المقصود الأول في الصوم ؛ لقول الله تبارك وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) البقرة/183 ، لم يقل : لعلكم تجوعون ! أو لعلكم تعطشون ! أو لعلكم تمسكون عن الأهل ! لا ، قال : ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) , هذا هو المقصود الأول من الصوم , وحقَّق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأكده بقوله : (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) إذاً أن يصوم الإنسان عن معاصي الله عز وجل , هذا هو الصوم الحقيقي ، أما الصوم الظاهري : فهو الصيام عن المفطرات , الإمساك عن المفطرات تعبداً لله عز وجل من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ؛ لقوله تعالى : ( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) البقرة/187 ، هذا صوم نسميه الصوم الظاهري، صوم البدن فقط , أما صوم القلب الذي هو المقصود الأول : فهو الصوم عن معاصي الله عز وجل .
وعلى هذا : فمن صام صوماً ظاهريّاً جسديّاً ، ولكنه لم يصم صوماً قلبيّاً : فإنَّ صومه ناقص جدّاً جدّاً , لا نقول : إنه باطل ، لكن نقول : إنه ناقص , كما نقول في الصلاة , المقصود من الصلاة الخشوع والتذلل لله عز وجل , وصلاة القلب قبل صلاة الجوارح , لكن لو أن الإنسان صلّى بجوارحه ولم يصلِ بقلبه ، كأن يكون قلبه في كل وادٍ : فصلاته ناقصة جدّاً , لكنها مجزئة حسب الظاهر ، مجزئة لكنها ناقصة جدّاً , كذلك الصوم ناقص جدّاً إذا لم يصم الإنسان عن معصية الله , لكنه مجزئ ؛ لأن العبادات في الدنيا إنما تكون على الظاهر" انتهى.
" لقاءات الباب المفتوح " ( 116 / ص 1 ) .
ثانياً :
وقد قسَّم العلماء الصبر إلى ثلاثة أقسام : الصبر على الطاعة ، والصبر عن المعصية ، والصبر على القدَر ، وقد جمع الصيام جميع أنواع الصبر .
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله :
"وأفضل أنواع الصبر : الصيام ؛ فإنه يجمع الصبر على الأنواع الثلاثة ؛ لأنه صبر على طاعة الله عز وجل ، وصبر عن معاصي الله ؛ لأن العبد يترك شهواته لله ونفسه قد تنازعه إليها ، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن الله عز وجل يقول : ( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ؛ لأنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي ) ، وفيه أيضاً : صبر على الأقدار المؤلمة بما قد يحصل للصائم من الجوع والعطش " انتهى .
" جامع العلوم والحِكَم " ( ص 219 ) .
فمن حقَّق صيامه كما شرعه الله تعالى فإنه يحصِّل ثواباً عظيماً ، وأجراً جزيلاً من ربه تبارك وتعالى ، ويكفيه قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُوفَّى الصَّابِرونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الزمر/10 .
ثالثاً :
ولكي يحافظ المسلم على صيامه من نقصانه بسبب فعل المعاصي : فإنه يجب عليه تحقيق الصبر عن المعصية ، وقد قال بعض العلماء إن الصبر عن المعصية أعظم من نوعي الصبر الآخرين ؛ وما ذلك إلا لاجتماع دواعي الشر عليه أن يقع في المعصية .
قال ابن القيم رحمه الله :
"وههنا مسألة تكلم فيها الناس وهي : أي الصبرين أفضل : صبر العبد عن المعصية ، أم صبره على الطاعة ؟ فطائفة : رجحت الأول ، وقالت : الصبر عن المعصية من وظائف الصدِّيقين ، كما قال بعض السلف : أعمال البر يفعلها البر والفاجر ، ولا يقوى على ترك المعاصي إلا صدِّيق ، قالوا : ولأن داعي المعصية أشد من داعي ترك الطاعة ؛ فإن داعي المعصية إلى أمر وجودي تشتهيه النفس ، وتلتذ به ، والداعي إلى ترك الطاعة : الكسل ، والبطالة ، والمهانة ، ولا ريب أن داعي المعصية أقوى ، قالوا : ولأن العصيان قد اجتمع عليه داعي النفس ، والهوى ، والشيطان ، وأسباب الدنيا ، وقرناء الرجل ، وطلب التشبه والمحاكاة ، وميل الطبع ، وكلُّ واحدٍ من هذه الدواعي يجذب العبد إلى المعصية ، ويطلب أثره ، فكيف إذا اجتمعت ، وتظاهرت على القلب ، فأي صبر أقوى من صبر عن إجابتها ، ولولا أن الله يصبره لما تأتَّى منه الصبر .
وهذا القول كما ترى حجته في غاية الظهور " انتهى .
" طريق الهجرتين " ( ص 414 ) .
والصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة ، فنرجو التأمل فيها ، ففيها وصف دقيق للمرض ، ووصف للعلاج .
قال ابن القيم رحمه الله :
"قاعدة الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة :
أحدها : عِلْم العبدِ بقبحها ، ورذالتها ، ودناءتها ، وأن الله إنما حرَّمها ، ونهى عنها صيانة ، وحماية عن الدنايا ، والرذائل ، كما يحمي الوالدُ الشفيقُ ولدَه عما يضرُّه ، وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ، ولو لم يعلق عليها وعيد بالعذاب .
السبب الثاني : الحياء من الله سبحانه ؛ فإن العبد متى علم بنظره إليه ، ومقامه عليه ، وأنه بمرأى منه ومسمع وكان حيِّيّاً : استحيى من ربه أن يتعرض لمساخطه .
السبب الثالث : مراعاة نعَمه عليك ، وإحسانه إليك ؛ فإن الذنوب تزيل النعَم ، ولا بد ، فما أذنب عبدٌ ذنباً إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب ، فإن تاب ، وراجع : رجعت إليه أو مثلها ، وإن أصرَّ : لم ترجع إليه ، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تُسلب النعمُ كلها ، قال الله تعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ، وأعظم النعَم : الإيمان ، وذنب الزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وانتهاب النهبة : يزيلها ، ويسلبها ، وقال بعض السلف : أذنبتُ ذنباً فحرِمت قيام الليل سنَة ، وقال آخر : أذنبتُ ذنباُ فحرمتُ فهم القرآن ، وفي مثل هذا قيل :
إذا كنتَ في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعَم
وبالجملة : فإنَّ المعاصي نارُ النعم تأكلها ، كما تأكل النار الحطب ، عياذاً بالله من زوال نعمته ، وتحويل عافيته .
السبب الرابع : خوف الله ، وخشية عقابه ، وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ، ووعيده ، والإيمان به ، وبكتابه ، وبرسوله ، وهذا السبب يَقوى بالعلم واليقين ، ويضعف بضعفهما ، قال الله تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) ، وقال بعض السلف : كفى بخشية الله علماً ، والاغترار بالله جهلاً .
السبب الخامس : محبة الله ، وهي أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ، ومعاصيه ؛ فإن المحب لمن يحب مطيع ، وكلما قوي سلطان المحبة في القلب : كان اقتضاؤه للطاعة ، وترك المخالفة أقوى ، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها ، وفرقٌ بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفه من سوطه وعقوبته ، وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده ... .
السبب السادس : شرف النفس ، وزكاؤها ، وفضلها ، وأنفتُها ، وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها ، وتضع من قدرها ، وتخفض منزلتها ، وتحقرها ، وتسوِّي بينها وبين السفلة .
السبب السابع : قوة العلم بسوء عاقبة المعصية ، وقبح أثرها ، والضرر الناشيء منها من : سواد الوجه ، وظلمة القلب ، وضيقه ، وغمِّه ، وحزنه ، وألمه ، وانحصاره ، وشدة قلقه واضطرابه ، وتمزق شمله ، وضعفه عن مقاومة عدوه ، وتعريه من زينته ، والحيرة في أمره ، وتخلي وليه وناصره عنه ، وتولي عدوه المبين له ، وتواري العلم الذي كان مستعدّاً له عنه ، ونسيان ما كان حاصلاً له أو ضعفه ولا بد ، ومرضه الذي إذا استحكم به فهو الموت ولا بد ؛ فإن الذنوب تميت القلوب ... .
وبالجملة : فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علماً ، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً ، فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله ، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته ، وفي بعض الآثار يقول الله سبحانه وتعالى : ( من ذا الذي أطاعني فشقي بطاعتي ، ومن ذا الذي عصاني فسعد بمعصيتي ) .
السبب الثامن : قصر الأمل ، وعلمه بسرعة انتقاله ، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها ، أو كراكب قالَ في ظل شجرة ثم سار وتركها ، فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله حمله ويضره ولا ينفعه ، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته ، فليس للعبد أنفع من قصر الأمل ، ولا أضر من التسويف وطول الأمل .
السبب التاسع : مجانبة الفضول في مطعمه ، ومشربه ، وملبسه ، ومنامه ، واجتماعه بالناس ؛ فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات ، فإنها تطلب لها مصرفاً فيضيق عليها المباح فتتعداه إلى الحرام ، ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد : بطالته ، وفراغه ؛ فإن النفس لا تقعد فارغة ، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ، ولا بد .
السبب العاشر : وهو الجامع لهذه الأسباب كلها : ثبات شجرة الإيمان في القلب ، فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه ، فكلما كان إيمانه أقوى : كان صبره أتم ، وإذا ضعف الإيمان : ضعف الصبر ، فإن من باشر قلبَه الإيمانُ بقيام الله عليه ، ورؤيته له ، وتحريمه لما حرم عليه وبغضه له ومقته لفاعله ، وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب والجنة والنار : امتنع من أن لا يعمل بموجب هذا العلم ، ومن ظن أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت : فقد غلط ، فإذا قوي سراج الإيمان في القلب وأضاءت جهاته كلها به وأشرق نوره في أرجائه : سرى ذلك النور إلى الأعضاء ، وانبعث إليها ، فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان ، وانقادت له طائعة مذللة غير متثاقلة ولا كارهة ، بل تفرح بدعوته حين يدعوها ، كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته ، فهو كلَّ وقتٍ يترقب داعيه ، ويتأهب لموافاته ، والله يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم " انتهى .
" طريق الهجرتين " ( ص 408 – 414 ) باختصار .
والمطلوب من المسلم أن يعرف حقيقة ما أراده الله من الصوم ، ويعرف الدافع له لفعل المعصية ، فيبتعد عنه ، ويهجره ، ويبغضه ، وما نقلناه من كلام ابن القيم يوضح هذا ويبينه أحسن بيان .
والله أعلم
الجواب : الحمد لله
أولاً :
قد أحسنت – أخي – غاية الإحسان في سؤالك هذا ، فهو يدل على حرص منك على طاعتك أن تضيع أو أن تنقص بسبب هذه المعاصي المنتشرة .
وعلينا أن نعلم جميعاً أن حقيقة الصوم ليس مجرد ترك الطعام والشراب ، بل شرع الله تعالى الصيام لأجل أن نحصِّل التقوى ، ولذا كان الصيام الحقيقي هو الصيام عن المعاصي بتركها وهجرها والكف عنها ، وهو صوم القلب ، لا فقط صوم الجوارح ، وقد دلَْت عموم السنَّة وخصوصها على ما قلناه ، وكذا جاء في كلام أهل العلم ما يبينه ويوضحه .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ) رواه البخاري ( 1804 ).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ) رواه أحمد (8693).
وصححه ابن حبان ( 8 / 257 ) والألباني في " صحيح الترغيب " ( 1 / 262 ) .
وقد كان الصحابة وسلف الأمة يحرصون على أن يكون صيامهم طُهْرة للأنفس والجوارح ، وتَنزُّهًا عن المعاصي والآثام .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ليس الصيام من الشراب والطعام وحده ، ولكنه من الكذب والباطل واللغو .
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري : إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب ، والمأثم ، ودع أذى الخادم ، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء .
وعن حفصة بنت سيرين – وكانت عالمة من التابعين - قالت : الصيام جُنَّة ، ما لم يخرقها صاحبها ، وخرقها الغيبة .
وعن ميمون بن مهران : إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب .
ذكر هذه الآثار : ابن حزم في " المحلى " ( 4 / 308 ) .
ولا نعجب بعدها إذا علمنا أن بعض أهل العلم قال ببطلان صوم من وقع في المعصية أثناء صيامه ، وإن كان الصحيح أنه لا يبطل الصوم ، لكن لا شك في نقصانه ، ومخالفته لحقيقة الصوم .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"الغيبة تضر بالصيام ، وقد حكي عن عائشة ، وبه قال الأوزاعي : إن الغيبة تفطِّر الصائم ، وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم ، وأفرط ابن حزم فقال : يبطله كل معصية من متعمِّد لها ذاكر لصومه ، سواء كانت فعلاً ، أو قولاً ؛ لعموم قوله ( فلا يرفث ولا يجهل ) ؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) " انتهى .
" فتح الباري " ( 4 / 104 ) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله :
"أما الذي يجب عنه الصوم : فلعلكم تستغربون إذا قلت : إن الذي يجب عنه الصوم هو: المعاصي , يجب أن يصوم الإنسان عن المعاصي ؛ لأن هذا هو المقصود الأول في الصوم ؛ لقول الله تبارك وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) البقرة/183 ، لم يقل : لعلكم تجوعون ! أو لعلكم تعطشون ! أو لعلكم تمسكون عن الأهل ! لا ، قال : ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) , هذا هو المقصود الأول من الصوم , وحقَّق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأكده بقوله : (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) إذاً أن يصوم الإنسان عن معاصي الله عز وجل , هذا هو الصوم الحقيقي ، أما الصوم الظاهري : فهو الصيام عن المفطرات , الإمساك عن المفطرات تعبداً لله عز وجل من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ؛ لقوله تعالى : ( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) البقرة/187 ، هذا صوم نسميه الصوم الظاهري، صوم البدن فقط , أما صوم القلب الذي هو المقصود الأول : فهو الصوم عن معاصي الله عز وجل .
وعلى هذا : فمن صام صوماً ظاهريّاً جسديّاً ، ولكنه لم يصم صوماً قلبيّاً : فإنَّ صومه ناقص جدّاً جدّاً , لا نقول : إنه باطل ، لكن نقول : إنه ناقص , كما نقول في الصلاة , المقصود من الصلاة الخشوع والتذلل لله عز وجل , وصلاة القلب قبل صلاة الجوارح , لكن لو أن الإنسان صلّى بجوارحه ولم يصلِ بقلبه ، كأن يكون قلبه في كل وادٍ : فصلاته ناقصة جدّاً , لكنها مجزئة حسب الظاهر ، مجزئة لكنها ناقصة جدّاً , كذلك الصوم ناقص جدّاً إذا لم يصم الإنسان عن معصية الله , لكنه مجزئ ؛ لأن العبادات في الدنيا إنما تكون على الظاهر" انتهى.
" لقاءات الباب المفتوح " ( 116 / ص 1 ) .
ثانياً :
وقد قسَّم العلماء الصبر إلى ثلاثة أقسام : الصبر على الطاعة ، والصبر عن المعصية ، والصبر على القدَر ، وقد جمع الصيام جميع أنواع الصبر .
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله :
"وأفضل أنواع الصبر : الصيام ؛ فإنه يجمع الصبر على الأنواع الثلاثة ؛ لأنه صبر على طاعة الله عز وجل ، وصبر عن معاصي الله ؛ لأن العبد يترك شهواته لله ونفسه قد تنازعه إليها ، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن الله عز وجل يقول : ( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ؛ لأنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي ) ، وفيه أيضاً : صبر على الأقدار المؤلمة بما قد يحصل للصائم من الجوع والعطش " انتهى .
" جامع العلوم والحِكَم " ( ص 219 ) .
فمن حقَّق صيامه كما شرعه الله تعالى فإنه يحصِّل ثواباً عظيماً ، وأجراً جزيلاً من ربه تبارك وتعالى ، ويكفيه قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُوفَّى الصَّابِرونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الزمر/10 .
ثالثاً :
ولكي يحافظ المسلم على صيامه من نقصانه بسبب فعل المعاصي : فإنه يجب عليه تحقيق الصبر عن المعصية ، وقد قال بعض العلماء إن الصبر عن المعصية أعظم من نوعي الصبر الآخرين ؛ وما ذلك إلا لاجتماع دواعي الشر عليه أن يقع في المعصية .
قال ابن القيم رحمه الله :
"وههنا مسألة تكلم فيها الناس وهي : أي الصبرين أفضل : صبر العبد عن المعصية ، أم صبره على الطاعة ؟ فطائفة : رجحت الأول ، وقالت : الصبر عن المعصية من وظائف الصدِّيقين ، كما قال بعض السلف : أعمال البر يفعلها البر والفاجر ، ولا يقوى على ترك المعاصي إلا صدِّيق ، قالوا : ولأن داعي المعصية أشد من داعي ترك الطاعة ؛ فإن داعي المعصية إلى أمر وجودي تشتهيه النفس ، وتلتذ به ، والداعي إلى ترك الطاعة : الكسل ، والبطالة ، والمهانة ، ولا ريب أن داعي المعصية أقوى ، قالوا : ولأن العصيان قد اجتمع عليه داعي النفس ، والهوى ، والشيطان ، وأسباب الدنيا ، وقرناء الرجل ، وطلب التشبه والمحاكاة ، وميل الطبع ، وكلُّ واحدٍ من هذه الدواعي يجذب العبد إلى المعصية ، ويطلب أثره ، فكيف إذا اجتمعت ، وتظاهرت على القلب ، فأي صبر أقوى من صبر عن إجابتها ، ولولا أن الله يصبره لما تأتَّى منه الصبر .
وهذا القول كما ترى حجته في غاية الظهور " انتهى .
" طريق الهجرتين " ( ص 414 ) .
والصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة ، فنرجو التأمل فيها ، ففيها وصف دقيق للمرض ، ووصف للعلاج .
قال ابن القيم رحمه الله :
"قاعدة الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة :
أحدها : عِلْم العبدِ بقبحها ، ورذالتها ، ودناءتها ، وأن الله إنما حرَّمها ، ونهى عنها صيانة ، وحماية عن الدنايا ، والرذائل ، كما يحمي الوالدُ الشفيقُ ولدَه عما يضرُّه ، وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ، ولو لم يعلق عليها وعيد بالعذاب .
السبب الثاني : الحياء من الله سبحانه ؛ فإن العبد متى علم بنظره إليه ، ومقامه عليه ، وأنه بمرأى منه ومسمع وكان حيِّيّاً : استحيى من ربه أن يتعرض لمساخطه .
السبب الثالث : مراعاة نعَمه عليك ، وإحسانه إليك ؛ فإن الذنوب تزيل النعَم ، ولا بد ، فما أذنب عبدٌ ذنباً إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب ، فإن تاب ، وراجع : رجعت إليه أو مثلها ، وإن أصرَّ : لم ترجع إليه ، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تُسلب النعمُ كلها ، قال الله تعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ، وأعظم النعَم : الإيمان ، وذنب الزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وانتهاب النهبة : يزيلها ، ويسلبها ، وقال بعض السلف : أذنبتُ ذنباً فحرِمت قيام الليل سنَة ، وقال آخر : أذنبتُ ذنباُ فحرمتُ فهم القرآن ، وفي مثل هذا قيل :
إذا كنتَ في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعَم
وبالجملة : فإنَّ المعاصي نارُ النعم تأكلها ، كما تأكل النار الحطب ، عياذاً بالله من زوال نعمته ، وتحويل عافيته .
السبب الرابع : خوف الله ، وخشية عقابه ، وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ، ووعيده ، والإيمان به ، وبكتابه ، وبرسوله ، وهذا السبب يَقوى بالعلم واليقين ، ويضعف بضعفهما ، قال الله تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) ، وقال بعض السلف : كفى بخشية الله علماً ، والاغترار بالله جهلاً .
السبب الخامس : محبة الله ، وهي أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ، ومعاصيه ؛ فإن المحب لمن يحب مطيع ، وكلما قوي سلطان المحبة في القلب : كان اقتضاؤه للطاعة ، وترك المخالفة أقوى ، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها ، وفرقٌ بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفه من سوطه وعقوبته ، وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده ... .
السبب السادس : شرف النفس ، وزكاؤها ، وفضلها ، وأنفتُها ، وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها ، وتضع من قدرها ، وتخفض منزلتها ، وتحقرها ، وتسوِّي بينها وبين السفلة .
السبب السابع : قوة العلم بسوء عاقبة المعصية ، وقبح أثرها ، والضرر الناشيء منها من : سواد الوجه ، وظلمة القلب ، وضيقه ، وغمِّه ، وحزنه ، وألمه ، وانحصاره ، وشدة قلقه واضطرابه ، وتمزق شمله ، وضعفه عن مقاومة عدوه ، وتعريه من زينته ، والحيرة في أمره ، وتخلي وليه وناصره عنه ، وتولي عدوه المبين له ، وتواري العلم الذي كان مستعدّاً له عنه ، ونسيان ما كان حاصلاً له أو ضعفه ولا بد ، ومرضه الذي إذا استحكم به فهو الموت ولا بد ؛ فإن الذنوب تميت القلوب ... .
وبالجملة : فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علماً ، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً ، فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله ، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته ، وفي بعض الآثار يقول الله سبحانه وتعالى : ( من ذا الذي أطاعني فشقي بطاعتي ، ومن ذا الذي عصاني فسعد بمعصيتي ) .
السبب الثامن : قصر الأمل ، وعلمه بسرعة انتقاله ، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها ، أو كراكب قالَ في ظل شجرة ثم سار وتركها ، فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله حمله ويضره ولا ينفعه ، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته ، فليس للعبد أنفع من قصر الأمل ، ولا أضر من التسويف وطول الأمل .
السبب التاسع : مجانبة الفضول في مطعمه ، ومشربه ، وملبسه ، ومنامه ، واجتماعه بالناس ؛ فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات ، فإنها تطلب لها مصرفاً فيضيق عليها المباح فتتعداه إلى الحرام ، ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد : بطالته ، وفراغه ؛ فإن النفس لا تقعد فارغة ، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ، ولا بد .
السبب العاشر : وهو الجامع لهذه الأسباب كلها : ثبات شجرة الإيمان في القلب ، فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه ، فكلما كان إيمانه أقوى : كان صبره أتم ، وإذا ضعف الإيمان : ضعف الصبر ، فإن من باشر قلبَه الإيمانُ بقيام الله عليه ، ورؤيته له ، وتحريمه لما حرم عليه وبغضه له ومقته لفاعله ، وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب والجنة والنار : امتنع من أن لا يعمل بموجب هذا العلم ، ومن ظن أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت : فقد غلط ، فإذا قوي سراج الإيمان في القلب وأضاءت جهاته كلها به وأشرق نوره في أرجائه : سرى ذلك النور إلى الأعضاء ، وانبعث إليها ، فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان ، وانقادت له طائعة مذللة غير متثاقلة ولا كارهة ، بل تفرح بدعوته حين يدعوها ، كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته ، فهو كلَّ وقتٍ يترقب داعيه ، ويتأهب لموافاته ، والله يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم " انتهى .
" طريق الهجرتين " ( ص 408 – 414 ) باختصار .
والمطلوب من المسلم أن يعرف حقيقة ما أراده الله من الصوم ، ويعرف الدافع له لفعل المعصية ، فيبتعد عنه ، ويهجره ، ويبغضه ، وما نقلناه من كلام ابن القيم يوضح هذا ويبينه أحسن بيان .
والله أعلم