المرض
: نوعان : مرض القلوب ، ومرض
الأبدان ، وهما مذكوران في القرآن .
ومرض القلوب : نوعان : مرض شبهة وشك ،
ومرض شهوة وغي ، وكلاهما في القرآن . قال تعالى في مرض الشبهة : " في قلوبهم
مرض فزادهم الله مرضا " [ البقرة : 110 ] وقال تعالى : " وليقول الذين
في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا " [ المدثر : 31 ] وقال
تعالى في حق من دعي إلى تحكيم القرآن والسنة ، فأبى وأعرض : " وإذا دعوا إلى
الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه
مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك
هم الظالمون " [ النور : 48 و 49 ] فهذا مرض الشبهات والشكوك .
وأما مرض الشهوات ، فقال تعالى : "
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه
مرض " [ الأحزاب : 32 ] . فهذا مرض شهوة الزنى ، والله أعلم .
فصل
وأما مرض الأبدان ، فقال تعالى : "
ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج " [ النور : 61 ]
، وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسر بديع يبين لك عظمة القرآن ، والإستغناء
به لمن فهمه وعقله عن سواه ، وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة : حفظ الصحة ،
والحمية عن المؤذي ، واستفراغ المواد الفاسدة ، فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في
هذه المواضع الثلاثة .
فقال في آية الصوم : " فمن كان منكم
مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " [ البقرة : 184 ] ، فأباح الفطر للمريض
لعذر المرض ، وللمسافر طلباً لحفظ صحته وقوته لئلا يذهبها الصوم في السفر لاجتماع
شدة الحركة ، وما يوجبه من التحليل ، وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل ، فتخور القوة
، وتضعف ، فأباح للمسافر الفطر حفظاً لصحته وقوته عما يضعفها .
وقال في آية الحج : " فمن كان منكم
مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " [ البقرة : 196 ) ،
فأباح للمريض ، ومن به أذى من رأسه ، من قمل ، أو حكة ، أو غيرهما ، أن يحلق رأسه
في الإحرام استفراغاً لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه
باحتقانها تحت الشعر ، فإذا حلق رأسه ، تفتحت المسام ، فخرجت تلك الأبخرة منها ،
فهذا الإستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه .
والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها
عشرة : الدم إذا هاج ، والمني إذا تبيغ ، والبول ، والغائط ، والريح ، والقئ ،
والعطاس ، والنوم ، والجوع ، والعطش . وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من
الأدواء بحسبه .
وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها ، وهو
البخار المحتقن في الرأس على استفراغ ما هو أصعب منه ، كما هي طريقة القرآن
التنبيه بالأدنى على الأعلى .
وأما الحمية : فقال تعالى في آية الوضوء :
" وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم
تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا " [ النساء : 43 ) ، فأباح للمريض العدول عن
الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما
يؤذيه ، وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج ، فقد أرشد -
سبحانه - عباده إلى أصول الطب ومجامع قواعده ، ونحن نذكر هدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم في ذلك ، ونبين أن هديه فيه أكمل هدي .
فأما طب القلوب ، فمسلم إلى الرسل صلوات
الله وسلامه عليهم ، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم ، فإن صلاح
القلوب أن تكون عارفة بربها ، وفاطرها ، وبأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، وأحكامه ،
وأن تكون مؤثرة لمرضاته ومحابه ، متجنبة لمناهيه ومساخطه ، ولا صحة لها ولا حياة
البتة إلا بذلك ، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل ، وما يظن من حصول صحة
القلب بدون اتباعهم ، فغلط ممن يظن ذلك ،
وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية ، وصحتها وقوتها ، وحياة قلبه وصحته ،
وقوته عن ذلك بمعزل ، ومن لم يميز بين هذا وهذا ، فليبك على حياة قلبه ، فإنه من
الأموات ، وعلى نوره ، فإنه منغمس في بحار الظلمات .
فصل
وأما طب الأبدان : فإنه نوعان :
نوع قد فطر الله عليه الحيوان ناطقه وبهيمه ، فهذا لا يحتاج
فيه إلى معالجة طبيب ، كطب الجوع ، والعطش ، والبرد ، والتعب بأضدادها وما يزيلها
.
والثاني : ما يحتاج إلى فكر وتأمل ، كدفع الأمراض المتشابهة
الحادثة في المزاج ، بحيث يخرج بها عن الإعتدال ، إما إلى حرارة ، أو برودة ، أو
يبوسة ، أو رطوبة ، أو ما يتركب من اثنين منها ، وهي نوعان : إما مادية ، وإما
كيفية ، أعني إما أن يكون بانصباب مادة ، أو بحدوث كيفية ، والفرق بينهما أن أمراض
الكيفية تكون بعد زوال المواد التي أوجبتها ، فتزول موادها ، ويبقى أثرها كيفية في
المزاج .
وأمراض المادة أسبابها معها تمدها ، وإذا كان سبب المرض معه
، فالنظر في السبب ينبغي أن يقع أولاً ، ثم في المرض ثانياً ، ثم في الدواء ثالثاً
. أو الأمراض الآلية وهي التي تخرج العضو عن هيئته ، إما في شكل ، أو تجويف ، أو
مجرى ، أو خشونة ، أو ملاسة ، أو عدد ، أو عظم ، أو وضع ، فإن هذه الأعضاء إذا
تألفت وكان منها البدن سمي تألفها اتصالاً ، والخروج عن الإعتدال فيه يسمى تفرق
الإتصال ، أو الأمراض العامة التي تعم المتشابهة والآلية .
والأمراض المتشابهة : هي التي يخرج بها المزاج عن الإعتدال
، وهذا الخروج يسمى مرضاً بعد أن يضر بالفعل إضراراً محسوساً .
وهي على ثمانية أضرب : أربعة بسيطة ، وأربعة مركبة ،
فالبسيطة : البارد ، والحار ، والرطب ، واليابس ، والمركبة : الحار الرطب ، والحار
اليابس ، والبارد الرطب ، والبارد اليابس ، وهي إما أن تكون بانصباب مادة ، أو
بغير انصباب مادة ، وإن لم يضر المرض بالفعل يسمى خروجاً عن الإعتدال صحة .
وللبدن ثلاثة أحوال : حال طبيعية ، وحال خارجة عن الطبيعية
، وحال متوسطة بين الأمرين . فالأولى : بها يكون البدن صحيحاً ، والثانية : بها
يكون مريضاً . والحال الثالثة : هي متوسطة بين الحالتين ، فإن الضد لا ينتقل إلى
ضده إلا بمتوسط ، وسبب خروج البدن عن طبيعته ، إما من داخله ، لأنه مركب من الحار
والبارد ، والرطب واليابس ، وإما من خارج ، فلأن ما يلقاه قد يكون موافقاً ، وقد يكون غير موافق ، والضرر الذي
يلحق الإنسان قد يكون من سوء المزاج بخروجه عن الإعتدال ، وقد يكون من فساد في
العضو ، وقد يكون من ضعف في القوى ، أو الأرواح الحاملة لها ، ويرجع ذلك إلى زيادة
ما الإعتدال في عدم زيادته ، أو نقصان ما الإعتدال في عدم نقصانه ، أو تفرق ما
الإعتدال في اتصاله ، أو اتصال ما الإعتدال في تفرقه ، أو امتداد ما الإعتدال في
انقباضه ، أو خروج ذي وضع وشكل عن وضعه وشكله بحيث يخرجه عن اعتداله .
فالطبيب : هو الذي يفرق ما يضر بالإنسان جمعه ، أو يجمع فيه
ما يضره تفرقه ، أو ينقص منه ما يضره زيادته ، أو يزيد فيه ما يضره نقصه ، فيجلب
الصحة المفقودة ، أو يحفظها بالشكل والشبه ، ويدفع العلة الموجودة بالضد والنقيض ،
ويخرجها ، أو يدفعها بما يمنع من حصولها بالحمية ، وسترى هذا كله في هدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم شافياً كافياً بحول الله وقوته ، وفضله ومعونته .
فصل
فكان من هديه صلى الله عليه وسلم فعل
التداوي في نفسه ، والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه ، ولكن لم يكن من هديه
ولا هدي أصحابه استعمال هذه الأدوية المركبة التي تسمى أقرباذين ، بل كان غالب
أدويتهم بالمفردات ، وربما أضافوا إلى المفرد ما يعاونه ، أو يكسر سورته ، وهذا
غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها من العرب والترك ، وأهل البوادي قاطبة ، وإنما
عني بالمركبات الروم واليونانيون ، وأكثر طب الهند بالمفردات .
وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن
التداوي بالغذاء لا يعدل عنه إلى الدواء ، ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل عنه إلى
المركب .
قالوا : وكل داء قدر على دفعه بالأغذية
والحمية ، لم يحاول دفعه بالأدوية .
قالوا : ولا ينبغي للطبيب أن يولع بسقي
الأدوية ، فإن الدواء إذا لم يجد في البدن داء يحلله ، أو وجد داء لا يوافقه ، أو
وجد ما يوافقه فزادت كميته عليه ، أو كيفيته ، تشبث بالصحة ، وعبث بها . وأرباب
التجارب من الأطباء طبهم بالمفردات غالباً ، وهم أحد فرق الطب الثلاث .
والتحقيق في ذلك أن الأدوية من جنس
الأغذية ، فالأمة والطائفة التي غالب أغذيتها المفردات ، أمراضها قليلة جداً ،
وطبها بالمفردات ، وأهل المدن الذين غلبت عليهم الأغذية المركبة يحتاجون إلى
الأدوية المركبة ، وسبب ذلك أن أمراضهم في الغالب مركبة ، فالأدوية المركبة أنفع
لها ، وأمراض أهل البوادي والصحاري مفردة ، فيكفي في مداواتها الأدوية المفردة ،
فهذا برهان بحسب الصناعة الطبية .
ونحن نقول : إن ها هنا أمراً آخر ، نسبة
طب الأطباء إليه كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم ، وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم ، فإن ما عندهم من العلم بالطب منهم من
يقول : هو قياس . ومنهم من يقول : هو تجربة . ومنهم من يقول : هو إلهامات ،
ومنامات ، وحدس صائب . ومنهم من يقول : أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية ، كما
نشاهد السنانير إذا أكلت ذوات السموم تعمد إلى السراج ، فتلغ في الزيت تتداوى به ،
وكما رؤيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض ، وقد عشيت أبصارها تأتي إلى ورق
الرازيانج ، فتمر عيونها عليها . وكما عهد من الطير الذي يحتقن بماء البحر عند
انحباس طبعه ، وأمثال ذلك مما ذكر في مبادئ الطب .
وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي الذي يوحيه
الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره ، فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما
عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء ، بل ها هنا من الأدوية التي تشفي من
الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم ،
وأقيستهم من الأدوية القلبية ، والروحانية ، وقوة القلب ، واعتماده على الله ،
والتوكل عليه ، والإلتجاء إليه ، والإنطراح والإنكسار بين يديه ، والتذلل له ،
والصدقة ، والدعاء ، والتوبة ، والإستغفار ، والإحسان إلى الخلق ، وإغاثة الملهوف
، والتفريج عن المكروب ، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها
ومللها ، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ، ولا
تجربته ، ولا قياسه .
وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرة
، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية ، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة
أدوية الطرقية عند الأطباء ، وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ليس خارجاً عنها ،
ولكن الأسباب متنوعة فإن القلب متى اتصل برب العالمين ، وخالق الداء والدواء ،
ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب
البعيد منه المعرض عنه ، وقد علم أن الأرواح متى قويت ، وقويت النفس والطبيعة
تعاونا على دفع الداء وقهره ، فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه ، وفرحت بقربها من
بارئها ، وأنسها به ، وحبها له ، وتنعمها بذكره ، وانصراف قواها كلها إليه ،
وجمعها عليه ، واستعانتها به ، وتوكلها عليه ، أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية ،
وأن توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية ، ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس ،
وأغلظهم حجاباً ، وأكثفهم نفساً ، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية ، وسنذكر
إن شاء الله السبب الذي به أزالت قراءة الفاتحة داء اللدغة عن اللديغ التي رقي بها
، فقام حتى كأن ما به قلبة .
فهذان نوعان من الطب النبوي ، نحن بحول
الله نتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة ، ومبلغ علومنا القاصرة ، ومعارفنا
المتلاشية جداً ، وبضاعتنا المزجاة ، ولكنا نستوهب من بيده الخير كله ، ونستمد من
فضله ، فإنه العزيز الوهاب .
فصل
روى مسلم في صحيحه
: من حديث أبى الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
، أنه قال : " لكل داء دواء ، فإذا أصيب دواء الداء ، برأ بإذن الله عز وجل
" .
وفي
الصحيحين : عن عطاء ، عن أبي هريرة
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له
شفاء " .
وفي
مسند الإمام أحمد : من حديث زياد
بن علاقة ، عن أسامة بن شريك ، قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاءت
الأعراب ، فقالوا : يا رسول الله ! أنتداوى ؟ فقال : " نعم يا عباد الله
تداووا ، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد ، قالوا : ما هو ؟ قال : الهرم " .
وفي لفظ : " إن الله لم ينزل داء إلا
أنزل له شفاء ، علمه من علمه وجهله من جهله " .
وفي
المسند : من حديث ابن مسعود يرفعه
: " إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه ، وجهله من
جهله " وفي المسند و
السنن : عن أبي خزامة ، قال : قلت
: يا رسول الله ! أرأيت رقى نسترقيها ، ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها ، هل ترد
من قدر الله شيئاً ؟ فقال : " هي من قدر الله " .
فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب
والمسببات ، وإبطال قول من أنكرها ، ويجوز أن يكون قوله : " لكل داء دواء
" ، على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة ، والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن
يبرئها ، ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها ، ولكن طوى علمها عن البشر ،
ولم يجعل لهم إليه سبيلاً ، لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله ، ولهذا علق
النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادفة الدواء للداء ، فإنه لا شئ من
المخلوقات إلا له ضد ، وكل داء له ضد من الدواء يعالج بضده ، فعلق النبي صلى الله
عليه وسلم البرء بموافقة الداء للدواء ، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده ، فإن
الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية، أو زاد في الكمية على ما ينبغي ، نقله إلى
داء آخر ، ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته ، وكان العلاج قاصراً ، ومتى لم يقع
المداوي على الدواء ، أو لم يقع الدواء على الداء ، لم يحصل الشفاء ، ومتى لم يكن
الزمان صالحاً لذلك الدواء ، لم ينفع ، ومتى كان البدن غير قابل له ، أو القوة
عاجزة عن حمله ، أو ثم مانع يمنع من تأثيره ، لم يحصل البرء لعدم المصادفة ، ومتى
تمت المصادفة حصل البرء بإذن الله ولا بد ، وهذا أحسن المحملين في الحديث .
والثاني : أن يكون من العام المراد به
الخاص ، لا سيما والداخل في اللفظ أضعاف أضعاف الخارج منه ، وهذا يستعمل في كل
لسان ، ويكون المراد أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء ، فلا يدخل
في هذا الأدواء التي لا تقبل الدواء ، وهذا كقوله تعالى في الريح التي سلطها على
قوم عاد : " تدمر كل شيء بأمر ربها " [ الأحقاف : 25 ] أي كل شئ يقبل
التدمير ، ومن شأن الريح أن تدمره ، ونظائره كثيرة .
ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم ،
ومقاومة بعضها لبعض ، ودفع بعضها ببعض ، وتسليط بعضها على بعض ، تبين له كمال قدرة
الرب تعالى ، وحكمته ، وإتقانه ما صنعه ، وتفرده بالربوبية ، والوحدانية ، والقهر
، وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه ،
كما أنه الغني بذاته ، وكل ما سواه محتاج بذاته .
وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي ،
وأنه لا ينافي التوكل ، كما لا ينافيه دفع داء الجوع ، والعطش ، والحر ، والبرد
بأضدادها ، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات
لمسبباتها قدراً وشرعاً ، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل ، كما يقدح في الأمر
والحكمة ، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل ، فإن تركها عجزاً
ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه
ودنياه ، ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، ولا بد مع هذا الإعتماد من مباشرة الأسباب
، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع ، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ، ولا توكله عجزاً
.
وفيها رد على من أنكر التداوي ، وقال : إن
كان الشفاء قد قدر ، فالتداوي لا يفيد ، وإن لم يكن قد قدر ، فكذلك . وأيضاً ، فإن
المرض حصل بقدر الله ، وقدر الله لا يدفع ولا يرد ، وهذا السؤال هو الذي أورده
الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما أفاضل الصحابة ، فأعلم بالله
وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا ، وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما
شفى وكفى ، فقال : هذه الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله ، فما خرج شئ عن قدره
، بل يرد قدره بقدره ، وهذا الرد من قدره ، فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما ،
وهذا كرد قدر الجوع ، والعطش والحر ، والبرد بأضدادها ، وكرد قدر العدو بالجهاد
وكل من قدر الله : الدافع ، والمدفوع والدفع .
ويقال لمورد هذا السؤال : هذا يوجب عليك
أن لا تباشر سبباً من الأسباب التي تجلب بها منفعة ، أو تدفع بها مضرة ، لأن
المنفعة والمضرة إن قدرتا ، لم يكن بد من وقوعهما ، وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى
وقوعهما ، وفي ذلك خراب الدين والدنيا ، وفساد العالم ، وهذا لا يقوله إلا دافع
للحق ، معاند له ، فيذكر القدر ليدفع حجة المحق عليه ، كالمشركين الذين قالوا :
" لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا " [ الأنعام : 148 ] ، و " لو
شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا " [ النحل : 35 ] ، فهذا
قالوه دفعاً لحجة الله عليهم بالرسل .
وجواب هذا السائل أن يقال : بقي قسم ثالث
لم تذكره ، هو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب ، فإن أتيت بالسبب حصل المسبب ،
وإلا فلا ، فإن قال : إن كان قدر لي السبب ، فعلته ، وإن لم يقدره لي لم أتمكن من
فعله .
قيل : فهل تقبل هذا الإحتجاج من عبدك ،
وولدك ، وأجيرك إذا احتج به عليك فيما أمرته به ، ونهيته عنه فخالفك ؟ فإن قبلته ،
فلا تلم من عصاك ، وأخذ مالك ، وقذف عرضك ، وضيع حقوقك ، وإن لم تقبله ، فكيف يكون
مقبولاً منك في دفع حقوق الله عليك. وقد روي في أثر إسرائيلي : أن إبراهيم الخليل
قال : يا رب ممن الداء ؟ قال : مني . قال : فممن الدواء ؟ قال :
مني. قال : فما بال الطبيب ؟ . قال :
رجل أرسل الدواء على يديه .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " لكل
داء دواء" ، تقوية لنفس المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش
عليه ، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله ، تعلق قلبه بروح الرجاء
، وبردت عنده حرارة اليأس ، وانفتح له باب الرجاء ، ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته
الغريزية ، وكان ذلك سببها لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية ، ومتى
قويت هذه الأرواح ، قويت القوى التي هي حاملة لها ، فقهرت المرض ودفعته .
وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء
أمكنه طلبه والتفتيش عليه . وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب ، وما جعل الله
للقلب مرضاً إلا جعل له شفاء بضده ، فإن علمه صاحب الداء واستعمله ، وصادف داء
قلبه ، أبرأه بإذن الله تعالى .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الإحتماء
من التخم ، والزيادة في الأكل على قدر الحاجة ، والقانون الذي ينبغي مراعاته في
الأكل والشرب
في
المسند وغيره : عنه صلى الله عليه
وسلم أنه قال : " ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطن ، بحسب ابن آدم لقيمات
يقمن صلبه ، فإن كان لا بد فاعلاً ، فثلث
لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه " .
الأمراض نوعان : أمراض مادية تكون عن
زيادة مادة أفرطت في البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية ، وهي الأمراض الأكثرية ،
وسببها إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول ، والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه
البدن ، وتناول الأغذية القليلة النفع ، البطيئة الهضم ، والإكثار من الأغذية
المختلفة التراكيب المتنوعة ، فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية ، واعتاد ذلك ،
أورثته أمراضاً متنوعة ، منها بطيء الزوال وسريعه ، فإذا توسط في الغذاء ، وتناول
منه قدر الحاجة ، وكان معتدلاً في كميته وكيفيته، كان انتفاع البدن به أكثر من
انتفاعه بالغذاء الكثير .
ومراتب الغذاء ثلاثة : أحدها : مرتبة
الحاجة . والثانية : مرتبة الكفاية . والثالثة : مرتبة الفضلة . فأخبر النبي صلى الله
عليه وسلم : أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه ، فلا تسقط قوته ، ولا تضف معها ، فإن
تجاوزها ، فليأكل في ثلث بطنه ، ويدع الثلث الآخر للماء ، والثالث للنفس ، وهذا من
أنفع ما للبدن والقلب ، فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب ، فإذا ورد
عليه الشراب ضاق عن النفس ، وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل
، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب ، وكسل الجوارح عن الطاعات ، وتحركها في
الشهوات التي يستلزمها الشبع . فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن .
هذا إذا كان دائماً أو أكثرياً . وأما إذا
كان في الأحيان ، فلا بأس به ، فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم
من اللبن ، حتى قال : والذي بعثك بالحق ، لا أجد له مسلكاً . وأكل الصحابة بحضرته
مراراً حتى شبعوا .
والشبع المفرط يضعف القوى والبدن ، وإن
أخصبه ، وإنما يقوى البدن بحسب ما يقبل من الغذاء ، لا بحسب كثرته .
ولما كان في الإنسان جزء أرضي ، وجزء
هوائي ، وجزء مائي ، قسم النبي صلى الله عليه وسلم طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء
الثلاثة .
فإن قيل : فأين حظ الجزء الناري ؟
قيل : هذه مسألة تكلم فيها الأطباء ،
وقالوا : إن في البدن جزءاً نارياً بالفعل ، وهو أحد أركانه واسطقساته .
ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء من
الأطباء وغيرهم ، وقالوا : ليس في البدن جزء ناري بالفعل ، واستدلوا بوجوه :
أحدها : أن ذلك الجزء الناري إما أن يدعى
أنه نزل عن الأثير ، واختلط بهذه الأجزاء المائية والأرضية ، أو يقال : إنه تولد فيها
وتكون ، والأول مستبعد لوجهين ، أحدهما : أن النار بالطبع صاعدة ، فلو نزلت ،
لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم . الثاني : أن تلك الأجزاء النارية لا بد في
نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ، ونحن نشاهد في هذا
العالم أن النار العظيمة تنطفئ بالماء القليل ، فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها
بكرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ، ونهاية العظم أولى بالانطفاء .
وأما الثاني : - وهو أن يقال : إنها تكونت
ها هنا - فهو أبعد وأبعد ، لأن الجسم الذي صار ناراً بعد أن لم يكن كذلك ، قد كان
قبل صيرورته إما أرضاً ، وإما ماء ، وإما هواء لانحصار الأركان في هذه الأربعة ،
وهذا الذي قد صار ناراً أولاً ، كان مختلطاً بأحد هذه الأجسام ، ومتصلاً بها ،
والجسم الذي لا يكون ناراً إذا اختلط بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحد منها ، لا
يكون مستعداً لأن ينقلب ناراً لأنه في نفسه ليس بنار ، والأجسام المختلطة باردة ،
فكيف يكون مستعداً لانقلابه ناراً ؟
فإن قلتم : لم لا تكون هناك أجزاء نارية
تقلب هذه الأجسام ، وتجعلها ناراً بسبب مخالطتها إياها ؟
قلنا : الكلام في حصول تلك الأجزاء النارية
كالكلام في الأول ، فإن قلتم : إنا نرى من رش الماء على النورة المطفأة تنفصل منها
نار ، وإذا وقع شعاع الشمس على البلورة ، ظهرت النار منها ، وإذا ضربنا الحجر على
الحديد ، ظهرت النار ، وكل هذه النارية حدثت عند الإختلاط ، وذلك يبطل ما قررتموه
في القسم الأول أيضاً .
قال المنكرون : نحن لا ننكر أن تكون
المصاكة الشديدة محدثة للنار ، كما في ضرب الحجارة على الحديد ، أو تكون قوة تسخين
الشمس محدثة للنار ، كما في البلورة ، لكنا نستبعد ذلك جداً في أجرام النبات
والحيوان ، إذ ليس في أجرامها من الإصطكاك ما يوجب حدوث النار ، ولا فيها من
الصفاء والصقال ما يبلغ إلى حد البلورة ، كيف وشعاع الشمس يقع على ظاهرها ، فلا
تتولد النار
البتة ، فالشعاع الذي يصل إلى باطنها كيف
يولد النار ؟
الوجه الثاني : في أصل المسألة : أن
الأطباء مجمعون على أن الشراب العتيق في غاية السخونة بالطبع ، فلو كانت تلك
السخونة بسبب الأجزاء النارية ، لكانت محالاً إذ تلك الأجزاء النارية مع حقارتها
كيف يعقل بقاؤها في الأجزاء المائية الغالبة دهراً طويلاً ، بحيث لا تنطفئ مع أنا
نرى النار العظيمة تطفأ بالماء القليل .
الوجه الثالث : أنه لو كان في الحيوان
والنبات جزء ناري بالفعل ، لكان مغلوباً بالجزء المائي الذي فيه ، وكان الجزء
الناري مقهوراً به ، وغلبة بعض الطبائع والعناصر على بعض يقتضي انقلاب طبيعة
المغلوب إلى طبيعة الغالب ، فكان يلزم بالضرورة انقلاب تلك الأجزاء النارية
القليلة جداً إلى طبيعة الماء الذي هو ضد النار
الوجه الرابع : أن الله سبحانه وتعالى ذكر
خلق الإنسان في كتابه في مواضع متعددة ، يخبر في بعضها أنه خلقه من ماء ، وفي
بعضها أنه خلقه من تراب ، وفي بعضها أنه خلقه من المركب منهما وهو الطين ، وفي
بعضها أنه خلقه من صلصال كالفخار ، وهو الطين الذي ضربته الشمس والريح حتى صار
صلصالاً كالفخار ، ولم يخبر في موضع واحد أنه خلقه من نار ، بل جعل ذلك خاصية
إبليس . وثبت في صحيح مسلم : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم "
، وهذا صريح في أنه خلق مما وصفه الله في كتابه فقط ، ولم يصف لنا سبحانه أنه خلقه
من نار ، ولا أن في مادته شيئاً من النار .
الوجه الخامس : أن غاية ما يستدلون به ما
يشاهدون من الحرارة في أبدان الحيوان ، وهي دليل على الأجزاء النارية ، وهذا لا
يدل ، فإن أسباب الحرارة أعم من النار ، فإنها تكون عن النار تارة ، وعن الحركة
أخرى ، وعن انعكاس الأشعة ، وعن سخونة الهواء ، وعن مجاورة النار ، وذلك بواسطة
سخونة الهواء أيضاً ، وتكون عن أسباب أخر ، فلا يلزم من الحرارة النار .
قال أصحاب النار : من المعلوم أن التراب
والماء إذا اختلطا فلا بد لهما من حرارة تقتضي طبخهما وامتزاجهما ، وإلا كان كل
منهما غير ممازج للآخر ، ولا متحداً به ، وكذلك إذا ألقينا البذر في الطين بحيث لا
يصل إليه الهواء ولا الشمس فسد ، فلا يخلو ، إما أن يحصل في المركب جسم منضج طابخ
بالطبع أو لا ، فإن حصل ، فهو الجزء الناري ، وإن لم يحصل ، لم يكن المركب
مسخناً بطبعه ، بل إن سخن كان التسخين
عرضياً ، فإذا زال التسخين العرضي ، لم يكن الشيء حاراً في طبعه ، ولا في كيفيته ،
وكان بارداً مطلقاً ، لكن من الأغذية والأدوية ما يكون حاراً بالطبع ، فعلمنا أن
حرارتها إنما كانت ، لأن فيها جوهراً نارياً .