رواية عيون لا ترحم [33] نهاية سامي. -1- [سامي] نظرتُ بدهشة إلى قمر التي نظرتْ إليّ بهلع، وقد كانت مصدومة تمامًا من وجودي. كان على وجهها آثار بكاء والتعب بادٍ على وجهها، نظرتْ إلي باضطراب قائلة: سـ..امي.. لماذا لم تتصل بي قبل قدومك؟ ابتسمتُ بسخرية: آه لكي لا أنتبه إلى اقتحامك للمكان صحيح؟ سكتتْ بتوتر شديد وأطرقت وجهها أرضًا، شعرتُ بالإشفاق عليها وفي نفس الوقت ناقم على فعلها الذي يدل على خيانتنا نوعًا ما، أيكون عمها قد لعب في دماغها وأقنعها بأننا الطرف المجرم في الموضوع!؟ حسنًا، إذا كان أقنعها بذلك فهذا طبيعي، لكنني لم أتوقع أن تصل جرأتها إلى اقتحام مكتب السيد هيثم! تنهدتُ وقلتُ مازحًا: إذن هل وجدتِ شيئًا يستحق اقتحامك؟ قلتُ هذا لأنني كنت شبه واثق من أنها لن تجد شيئًا يدين السيد هيثم، لكنني في أعماق قلبي وضعتُ هذا الاحتمال من ضمن أسوء الاحتمالات. رفعتْ لي رأسها وقالت بإحراج: أنا آسفة على أنني دخلتُ بدون إذن! قلتُ بعطف: لا تقلقي. أعلم كل الأفكار التي وضعها عمك عن مدى كوننا أشرارًا. لم يظهر على وجهها تأثر بقولي ونظرتْ بقلق إلى الخنجر الذي أحمله، انتبهتُ أنني لا زلت أمسكه بتوجس، فتنهدتُ بحرارة وأعدته إلى مكاني في حزام بنطالي، وخطوتُ مقتربًا تجاهها وأنا أقول: والآن ألن تخبريني.. ماذا اكتشفتِ؟! كنتُ أقولها مازحًا، لكن ردة فعلها فاجأتني. فقد نظرت لي بعينين متسعتين فجأة وقالت بصوت منهارٍ: لقد عرفتُ قاتل أبي الحقيقي يا سامي! وانهمكت في بكاء مفاجئ. وظلت تمسح دموعها الغزيرة التي أغرقت وجهها بيدها الاثنتين بيأس. شعرتُ بالقلق، وارتكبتُ وأنا أحاول استنتاج من يكون قاتل السيد آسر الحقيقي؟ وقفتُ بجانبها وقلتُ أحاول تهدئتها: قمر، اهدئي أولًا ثم أخبريني .. ماذا حصل؟ لكنني لمحتُ ذلك الفيديو الذي كان مفتوحًا على شاشة الحاسوب مما أثار استغرابي، فقلتُ بمزح: ماذا؟.. هل رأيت أحد أفلام الجرائم البوليسية؟ وأتبعتُ جملتي بمحاولة تشغيل الفيديو مرة ثانية، لعلني أفهم ما الذي جعلها تنهار هكذا. كان الفيديو تسجيلًا لجريمة قتل السيد آسر! وفتحتُ فمي بذهول دون وعي وأنا أرى عمها يطعن والدها بالخنجر.. شعرتُ بقلبي يضطرب وتسارعتْ أنفاسي، وبدأ الغضب يملأ قلبي، وقلتُ بحقد: أيها الوغد.. "أعد الفيديو واسمع الصوت" سكتت قمر بشرود حزين وقالت تلك الجملة، ابتلعتُ ريقي وأنا أحاول تماسك مشاعري أمامها، وبالفعل، عند التركيز وسماع صوت الفيديو، أدركتُ تلك الحقيقة.. عم قمر، ليس القاتل! نظرتُ لها بضياع، وتساءلتُ بصدمة: إذن.. من القاتل؟ سكتت لبضع ثوان قبل أن تقول بشفتين مرتجفتين: إنه السيد هيثم.. لقد تنكر بهيئة عمي! صُعقت من تلك الإجابة، عقدتُ حاجبيّ بعدم تصديق وقلتُ: كيف عرفتِ ذلك؟ فلا يدل أي شيء عليه! قالتْ بصوت خافت: لقد استجوبتُ العديد من الناس حتى توصلتُ إلى هذا الاستنتاج! إنه الوحيد الذي يستطيع فعلها! وكل الأدلة تدل عليه! لبثتُ بضعة دقائق وأنا أتأمل منظرها، بوجهها المحمر من أثر البكاء السابق، وبتلك العينين الرماديتين الشاردتين، وملامح الإرهاق البادية على وجهها. عرفتُ أنني مُقبل الآن على لحظات فارقة.. ستغير حياتي وحياة قمر بشكل كامل! -2- [قمر] كان يبدو سامي مذهولًا للغاية من الحقيقة التي قلتُها له قبل قليل، دام سكوته طويلًا ثم أخيرًا تنهد بحرارة وقال والهمّ يعلو وجهه : قمر.. هل يمكنك أن تحكي لي ما حدث بالتفصيل؟ كيف توصلتِ إلى هذه الحقيقة؟ نظرتُ له بقليل من الأمل، إنه يصدقني، سامي لا يبدو مخادعًا، سوف يدعمني ضد هيثم الوغد! ثم ابتسم ابتسامة مُجبرة وهو يقول بإشفاق: لكن دعينا نتحدث هذه الأحاديث ونحن في الصالة نشرب أي مشروب دافئ! فوجهك يبدو عليه التعب. ثم تلفت حوله وقال بلهجة محذرة: وعلينا الخروج من مكتب السيد هيثم فورًا، وإعادة كل شيء إلى مكانه! قبل أن يعود. انتابني القلق من تعليقه، فقمتُ من فوري وأغلقتُ الحاسوب وقلم الذاكرة، وأعدتُ كل شيء إلى مكانه. ابتسم سامي وقال يلطف الجو وهو يراني أضع القلم في الخزانة وأعدل الأرقام السرية لتعود كما كانت: لكنني تفاجئت حقا يا قمر، كيف عرفتِ كلمة السر للخزنة؟ ابتسمتُ شبه ابتسامة وقلتُ: لقد فتحها السيد هيثم أمامي فحفظتُ الأرقام السرية بسهولة، عندما كان يريني هذا الفيديو، كان يريد أن يثبت على عمي التهمة. لكن الوضع انقلب عليه الآن! لاحظتُ أن الحزن ارتسم على ملامح سامي، حزن مصدوم، إن سامي حزين مصدوم في السيد هيثم! وهذا طبيعي، فأنا صُدمت أيضًا. لكن لا شك أن صدمة سامي وألمه أكبر مني! فسامي ليس لديه عائلة سوى السيد هيثم! لقد وثق به، واطمأن له، وهاهو الآن يعرف أنه عدوه! إذا قرر مواجهته، فمصيره سيكون واضحًا، إما القتل أو التشريد. شعرتُ بشفقة شديدة عليه، لكنني حاولتُ إخفاءها حتى لا يتضايق مني. خرجنا من غرفة السيد هيثم وحرص سامي أن يكون كل شيء كما كان، راقبتُ سامي الشارد وهو يعد لي المشروب الدافئ، بالفعل كنتُ أحتاج لشيء يعيد طاقتي، فما حدث اليوم أتعبني نفسيا وجسديا حقا. جلستُ في أريكة الصالة ووضع سامي أمامي المشروب وبعض الكعك قائلًا بابتسامة خفيفة: لعل هذا يعطيك بعض الطاقة. شكرتُه بامتنان، ووجدته يتوجه إلى باب الشقة قائلًا: هناك بعض الأغراض نسيتها عند الباب، آمل ألا تكون قد سُرقت. ثم قال: آه هاهي. الحمدلله. وأدخلها للثلاجة وأنا أنتظر بهدوء. لم أستطع أن أتناول الكعك فقد شعرتُ بغصة في حلقي تمنعني من ذلك، فانتظرت سامي حتى أتى وجلس أمامي وقال بابتسامة مهمومة: والآن أخبريني يا قمر.. كل شيء. -3- [نور] "على الأرجح أن هذه آخر لحظات في حياته.. يمكنكم توديعه قبل أن يرحل" كانت هذه الجملة هي التي ألقتْها علينا الممرضة قبل أن تشير إلى الغرفة وتفتح لنا الباب، دخلتُ أنا وأمي إلى غرفة بوارو، كان بوارو قد خسر الكثير من وزنه منذ آخر مرة رأيتُه فيها، وينام على قناع تنفس يغطي أنفه وفمه بالكامل، ووجهه مصفر شاحب يوضح معاناته، مع رأسه الخالي من الشعر الذي غُطي بغطاء رأس أرزق. انهارت أمي وهي تحتضنه وتبكي بصوت مرتفع، وتقول بهلع: بوارو.. أجبني! فتح بوارو عينيه بضعف شديد، ونظر إلي أنا وأمي، وابتسم ابتسامة باهتة، وحرك فمه ليقول شيئًا، لكننا لم نستطع سماع أي شيء.. هتفت أمي بلهفة: بوارو.. ماذا تقول؟ قلتُ بانفعال: يجب أن نزيل قناع الأكسجين لنستطيع سماعه! نظرتْ إلي بوجه مذعور: لكن.. أليس هذا خطرًا على حياته؟ إنها آخر لحظات حياته بالفعل! ذهبتُ للممرضة التي تقف عند الباب سريعًا وقلتُ لها أن تأتي وتزيل القناع ووجهها بارد، لا شك أنها مرت بذلك المشهد مئات المرات وهي في هذه المستشفى. وقفت على جانب سرير بوارو وأمي وقفت بالجانب المقابل، قالت أمي بلهجة باكية: بوارو.. أرجوك لا ترحل عني. قاوم المرض وابذل أقصى ما عندك. نظر لها بوارو بوجه مشفق، وهمس: أنا آسف يا سارة، لكن هذا قدر الله. اتسعت عيناها وهي تسمع كلماته المستسلمة، ووضعت رأسها على صدره تبكي منهارة، وهو وضع يده ببطء على رأسها، ثم التفت لي، كان التأثر الشديد يظهر على وجهي وقد تصاعدت أنفاسي وأنا أنظر إليه بارتباك، هذه أول مرة أشهد موقفًا كهذا، ابتسم بواور لي وقال بإرهاق: نور.. أنت فتى جدير بالثقة، يمكنني الاعتماد عليك في حماية ابنتي وأمك. ثم قال بلهجة مترجية: أرجوك يا نور. أنا أتركهما في رقبتك. الغصة ابتلعت حلقي ولم أعرف بماذا أرد، وقلتُ باضطراب مرتعش: بـوارو.. لا تقل مثل هذا الكلام! سوف تعيش وسترعاهما بنفسك! هز بوارو رأسه نفيًا وظهر على وجهه الألم المرير، فشعرتُ بالذعر، ووجدته يهمس لأمي الباكية على صدره: أ..أعيدي..نور إلى.. والده يا سارة! والدي؟! أيكون بوراو يعرف من هو والدي؟ هممتُ بسؤاله لكن ما حدث بعد ذلك لم يكن وقتًا مناسبًا للسؤال.. تعالى صوت أنفاسه وهو يلهث ألمًا، وبدأ يمسك صدره، ويغمض عينيه باستسلام، وبدأ جهاز القلب يصدر صفيرًا محذرًّا لعدة ثوان ثم استمر الصفير على وتيرة واحدة، صرخت أمي: بوارو.. تماسك! وجدتُ تلك الممرضة تأتي وتدفعني جانبًا هي وممرض آخر، ويأتيان بجهاز غريب ويضعانه على صدر بوارو ويعدان حتى ثلاثة لينتفض جسد بوارو بقوة، وفعلا هذا مرارًا وتكرارًا بيأس، لكن جسد بواور كان يبدو قد خمد تمامًا، وعيناه مغمضتان، وقد سكنت ملامح وجهه، أصابني الرعب الشديد من ذلك المشهد.. فجثت ركبتي على الأرض، حيث استطعتُ رؤية ذلك الممرض وهو يهز رأسه بأسى: لقد توفي. سمعتُ بعدها صراخ أمي، وذلك الممرض يحاول تغطيه وجه بوارو، لكن أمي كشفته باستماتة وهي تبكي بانهيار، نظر إليها الممرض بشفقة ثم وجدني جاثيًا على الأرض فقال لي: أيها الولد، أرجو أن تهدئ أمك قليلًا. أنا أذهب لتهدئتها؟.. لا تمازحني، فأنا أحتاج لمن يهدئني أكثر منها! -4- [قمر] أطرق سامي برأسه في اكتئاب واضح ولم يستطع هذه المرة تزييف ابتسامته المعتادة لي، قلتُ بقلق: سامي.. ماذا سنفعل؟ قصصتُ على سامي كل شيء، كل الكلام الذي قاله عمي لي، في المرة الأولى والثانية أيضًا، وذهابي مع عبيدة للدكتور سالم وللحانة. أخبرته كل شيء. وقد كان وجهه يزداد همًّا واكتئابًا مع كل دقيقة تمضي، لم أر سامي بهذه الحالة من قبل! أغمض سامي عينيه قليلًا ثم نظر إليّ قائلًا بيأس: ماذا سنفعل يا قمر برأيك؟ إذا تأكدنا من كون السيد هيثم هو القاتل، فلا مكان لنا هنا بعد الآن! بل إن منظمته ستطاردنا بالكامل. لكوننا خائنان! جف حلقي وأنا أنظر إليه بصدمة، وأطرقتُ برأسي في همّ شديد، كيف سنواجه هيثم الآن؟! قال لي سامي بصوتٍ منبوح وقد استعاد ابتسامته الباهتة: قمر.. لا تقلقي! لا أحد سيطاردك ولا أحد سيتدخل في حياتك، سأحرص على ذلك.. أنا من أقحمتُك في هذه المنظمة وأنا من سأخرجك منها! قلتُ بتوتر: ماذا تعني يا سامي؟ ستواجه الأمر كله لوحدك؟ وقف متجها إلى المطبخ: نعم. عليك ألا تقلقي بخصوص أي شيء بدءًا من الآن. لذا أرجوك عودي في الوقت الحالي إلى المنزل. شعرتُ بلهجة سامي الذابلة اليائسة، يبدو أنه يحاول أن يخرجني من الموضوع بأكمله ليحميني من أية مخاطر! لكن.. الموضوع ليس بيدك يا سامي! هيثم هو قاتل أبي الحقيقي.. وأريد أن آخذ بثأري منه الآن! وبثأر خداعي، وخداعك، وخداع عمي كذلك! كلنا خُدعنا لفترة طويلة! من الذي سيعاقب السيد هيثم على كل هذا!؟! ملأني الغضب وأنا أتذكر مشهد الجريمة، تلك اليد التي طعنت أبي.. لم تكن يد عمي.. بل كانت يد هيثم الحقير! عضضتُ على شفتيّ وأدميتُها، لكن ماذا يمكنني أن أفعله للسيد هيثم؟ كيف سأنتقم منه؟ صدقًا.. ماذا بيدي؟ هل سأقتله مثلًا؟ من المستحيل أن أنجح في قتله! إنه يملك مسدسا يحمله معه في كل الأوقات! بدأت أشعر بالعجز، وأنا أتذكر جاسم وكريم وكل أولئك الرجال الذين كانوا يعملون في المنظمة، لاشك أنهم يعملون تحت إمرته، لذا لن يسمحوا لي أن أقتله بهذه البساطة! قطع شرودي ذلك الرنين الخافت لهاتف سامي، والذي نظر إليه بسرعة، ليعلو وجهه علامات الصدمة والمفاجأة، نظر إليّ باضطراب ففهمتُ نظرته، السيد هيثم يقف على الباب! كيف جاء بهذه السرعة؟ هل شعر أني اقتحمتُ غرفته!؟ ابتلعتُ ريقي باضطراب، فقال لي سامي بحزم متغلبًا على انفعالاته: قمر، لا تُظهري أي شيء أبدًا! مفهوم؟! كل شيء طبيعي، وبعد دخوله بدقائق استأذني وغادري إلى منزلك على الفور ولا تعودي إلى هنا أبدًا! أتفهمين؟! مع حدة ملامح سامي لم أملك إلا القول باستسلام: حاضر. وهو أخذ نفسًا عميقًا، ثم فتح للسيد هيثم. حبستُ أنفاسي في صدري وأنا أرى القاتل الحقيقي.. السيد هيثم يدخل إلى المكان بهدوء كعادته، كنت أمسك فمي، كي لا يصدر مني أي قول غاضب تجاهه، وأحاول السيطرة على وجهي لكي لا يكشفني. ما فعله السيد هيثم أول شيء هو أنه وقف أمام سامي قائلًا: مرحبا سامي.. أراك تحسنت من مرضك! قال سامي بنبرة أقرب للطبيعية: نعم. وقد ذهبتُ للتسوق! قال السيد هيثم يلاطفه: هذا رائع، تبدو نشيطًا بالفعل يا سامي! قال سامي باسمًا بطريقة أدهشتني: نعم.. شكرًا على عنايتك في اليومين الماضيين يا سيد هيثم! سامي يحافظ على ابتسامته بطريقة مذهلة، أما أنا فأثق تماما أن ملامحي ستكشف كل شيء بمجرد أن يوجه إلي السيد هيثم أول كلمة! نظر إلي السيد هيثم قائلًا بترحيب: ماذا؟ قمر هنا أيضًا؟! أطرقتُ رأسي أرضًا ولم أدر بمَ أجيب! تذكرتُ بدر.. بدر الذي صدمته السيارة أمام عيني! تبا؟ لماذا أتذكر شيئًا كهذا يزيدني غضبًا فوق غضبي؟ هيا يا قمر، حاولي أن تتماسكي.. لا تحرجي سامي الذي يحاول باستماتة أن يحافظ على الوضع بشكل طبيعي! أخذتُ نفسًا عميقًا ولكنني لم أستطع الرد عليه. فقال السيد هيثم ثانية باستغراب: قمر .. أنت بخير؟ قال سامي بسرعة: آه. إنها مرهقة جدا يا سيد هيثم. لنتركها ترتاح قليلًا الآن.. التفت هيثم هذه المرة إلى سامي قائلًا بابتسامة خاصة: متعبة مم؟ تردد سامي وهو يقول: يبدو أنها.. كانت.. في إحدى حصص الفنون القتالية! لكن السيد هيثم قال: ولكن على حد علمي أن تلك الحصص توقفت قمر عن الذهاب إليها منذ سنة كاملة على الأقل! توتر سامي، وتوترتُ أنا أيضًا.. هداك الله يا سامي، ألم تستطع أن تكذب كذبة أفضل! قال سامي مترددًّا وهو يكمل الكذب: يبدو أنها عادت إليها اليوم! سكت السيد هيثم مليا وهو ينظر إلى سامي بعينين ضيقتين، ثم قال بلهجة مخيفة: صحيح يا سامي.. هل يوجد أي شخص.. اقتحم غرفة مكتبي؟ انتفض سامي وحاول السيطرة على لهجته المرتجفة وهو يقول بحذر: لا.. فأنا كنت موجودًا هنا طوال الوقت! قال السيد هيثم بهدوء مستفز: حقا؟ لكن جائني إشعار من خزنتي السرية أن هناك من فتحها.. ثم نظر بحدة إلى مكاني قائلًا: وبنفس رقمها السري الصحيح! رفعتُ وجهي بسرعة والصدمة تطغى عليه، والسيد هيثم ينظر إلي بسخرية قائلًا: فخزنتي السرية من النوع الرقمي، في كل مرة أفتحها يُرسل إشعار إلى هاتفي المحمول، وهذه المرة وصل إشعار إلي مع أنني كنت نائمًا.. فشعرتُ بالغرابة الشديدة! فمن سيفتح الخزنة السرية بالرقم الصحيح من ثاني مرة؟! واقترب خطوة مني وهو يضيق عينيه قائلًا: إلا إذا كان قد رآني مرة وأنا أفتحها وحفظ الرقم الصحيح! تسارعت أنفاسي بعنف وأنا أرى السيد هيثم يقترب مني، ثم جلس القرفصاء أمامي ليصبح وجهه في مستوى وجهي تمامًا، ثم قال بلهجة باردة وهو ينظر إلي بعينين هادئتين: أكنتِ أنت من فتحتِ الخزنة يا قمر؟ تسمرتُ بذهول أمام وجهه وظل صدري يرتفع وينخفض بيأس وأنا أحاول السيطرة على أنفاسي المتسارعة، وجدت يد السيد هيثم ترتفع يريد أن يضعها على كتفي وهو يقول مدعيا اللطف: لا تقلقي، اصدقيني القول ولن أعاقبك! لكن الغضب الذي كان قد ملأ صدري قد زاد عن حده، وخرج عن سيطرتي وأنا أضرب يده بقوة وأقول بغضب: إياك أن تلمسني! اتسعت عينا السيد هيثم هذه المرة بانفعال وذهول، ويده معلقة في الهواء إثر ضربتي، وقال: عجبًا.. أليس من المفترض أن أكون أنا الغاضب إذ أنك فتحتِ خزنتي دون إذني؟ قلتُ أنا بانفعال شديد: لا تتظاهر بالبراءة.. أيها القاتل! فقد عرفنا حقيقتك! تكهرب الجو بعد مقولتي، والسيد هيثم الذي كانت ملامحه ما بين الساخرة والهادئة، تحولت ملامح وجهه إلى غضب شديد، وسامي ظهر على وجهه الفزع وظهر ذلك على ملامحه جليًّا. كانت نظرات سامي تقول: أرجوك يا قمر لا تقولي المزيد. لا تحاولي أن تغضبيه أكثر! لكنني انطلقتُ بكل تلك الصور التي ملأت عقلي حينها: تقتلُ أبي.. وتخدعني بقولك إنك صديق له، وتخدع سامي أيضًا، وتحاول أن تقتل بدر.. أي مجرم سفاح أنت!؟ وسكتتُ وأنا ألهث، فقال السيد هيثم بلهجة عميقة: كيف حكمتِ أنني قتلتُ والدك؟ ألم تري القاتل بنفسك؟! انطلقتُ أقول بثورة: لقد تنكرتَ بهيئة عمي وقتلتَه، وخدعت عمي، وخدعتني.. وقلت لي أن الفيديو ليس فيه صوت، ولكنني اكتشفتُ كل شيء. لا تُحاول أن تخدعني أكثر من هذا.. وقمتُ واقفة لكي أبتعد عنه قائلة: لم أعد أطيق النظر لوجهك أيها القاتل المخادع! لكن السيد هيثم أمسك يدي بقوة، ووقف قائلًا: إذا كنتُ قاتلا مخادعًا.. فكيف تتوقعين مني أن أتركك بعد هذا الكلام يا صغيرتي؟ حاولتُ الفكاك من يده لكني لم أستطع، وقلتُ بغضب: اتركني.. لكنه قال بلهجة باردة تُخفي غضبه: لا يمكن. ستأتين معي إلى منزلي وسنتفاهم. صرختُ: لن أذهب معك إلى أي مكان! تدخل سامي هذه المرة قائلًا بصوت جامد: أرجو أن تتركها يا سيد هيثم! التفت السيد هيثم إليه قائلًا بسخرية حادة: ومن طلب منك التدخل يا سامي؟! عقد سامي حاجبيه بعصبية قائلًا: لا يمكنني أن أراك تعامل قمر بهذه الطريقة وأسكت! نظر السيد هيثم إليه بحدة قائلًا باحتقار: هل نسيتَ نفسك يا سامي؟! هل نسيتَ مقام الشخص الذي انتشلك من الشارع وأنقذك من الموت والجوع والفقر والتشريد؟! هذه المرة فقد سامي أعصابه وهو يقول بانهيار: لقد جئتُ معك لأنك ادعيت أنك صديق للسيد آسر، ولو كنتُ أعلم أنك عدوه لفضلتُ الموت والجوع والتشريد على أن آتي معك! حبستُ أنفاسي وأنا أرى سامي.. يواجه السيد هيثم بهذه القوة! قال سامي بغضب: والآن بعد أن ظهرت حقيقتك، فلا يهمني مصيري أيا كان، ستقتلني أو ترميني في الشارع، لا بأس، لكنني لن أسمح لك بأخذ قمر أبدًا.. فأنا من بدأتُ بإقحامها في منظمتك، وأنا من علي إنقاذها من براثنك! لكن السيد هيثم أمسك يدي الأخرى ولوى يديّ الاثنتين خلف ظهري غير مبالٍ بتألمي وقال لسامي: تتحداني إذن يا سامي؟ يا لوقاحتك أمام الشخص الذي من المفترض أن تظهر له كل احترامك! كنت أريد التملص من بين يديه لكن قبضة يديه كانت أقوى مني بكثير، أكره الاعتراف بهذا، لكن السيد هيثم أقوى مني، وأقوى من جاسم وكريم! قبضته محكمة على يديّ بطريقة مؤلمة! بدأتُ أقول بضيق حاد: اتركني.. شعرتُ بالعجز أمامه وهذا أشعرني بالذعر، لا أريد أن أجعل سامي يتحداه لأجلي! فأنا خائفة على سامي مما قد يصيبه.. إنها معركتي أنا. فهو قتل أبي أنا! وأنا من تبعتُه مثل الحمقاء لمجرد قوله أنه صديق لأبي. أنا المذنبة والمُلامة في المقام الأول لا سامي! قال سامي بهدوء يخفي غضبه: اتركها، فلا دخل لها في منظمتك. قمر يجب أن تعود لعمها ولمنزلها، وتعيش حياتها طبيعية كأي فتاة في سنها. قال السيد هيثم: ولكن حياتها ليست طبيعية منذ بدايتها بالفعل! إنها فتاة استثنائية، وُلدت في ظروف مختلفة، وعاشت أحداثًا مختلفة أيضًا. لا يمكنها العودة لمنزلها بهذه السهولة! ثم قال باستفزاز: للأسف لا يمكنني التخلي عنها. فتاة استثنائية مثلها ستفيدني جدا في المستقبل! ثم قال هازئًا: والآن ماذا ستفعل؟ هل ستقتلني يا سامي؟! سكت سامي مليًّا وأنفاسه تتسارع بعنف، ثم قال بلهجة مرعبة: نعم.. إذا تطلب الأمر! لكن آمل أن آخذ قمر منك بدون أن أضطر إلى قتلك! يبدو أن ذلك القول قد استفز السيد هيثم بشدة، حيث ترك إحدى يديّ وقال بجمود: لنرَ إذن ما الذي يمكنك فعله يا سامي! ولكن بمجرد أن ترك يدي الأولى حتى استخدمتُها في ضرب قدمه بكوعي بأقصى قوة عندي ليتراجع للخلف خطوتين وتخف قبضته على يدي الأخرى فأشدها بقوة وأركض.. لم أصدق نفسي وأنا أركض تجاه سامي بكل سرعتي. خبئني سامي خلفه على الفور وهمس قائلًا: أحسنتِ! ونظر إلى السيد هيثم بتحدّ وهو يهمس لي بصوت منخفض: والآن افتحي الباب فورًا واهربي بأقصى قوة إلى منزلك! هل تفهمين؟ لكنني قلتُ له بقلق: ولكن.. سامي.. ماذا سيحصل لك؟ لنهرب معًا! قال بغيظ: كلا، لن أستطيع. نفذي الأمر يا قمر رجاءً بدون اعتراض! ثم قال بحزم: سأشغله عنك ريثما تهربين. توترتُ كثيرًا وأنا أرى السيد هيثم يستعيد توازنه ثم يقف بثبات وينظر إلينا بوجهه المظلم الغاضب، وقال متهكما: والآن لنرى هل ستنجح خطة هروبك يا قمر الآن؟ عقد سامي حاجبيه بغضب وهو ينظر إلى السيد هيثم الذي وضع يده تحت سترته ليخرج مسدسا صغيرًا مزودًّا بكاتم صوت! اتسعت عيناي عن آخرها برعب وخوف، وأنا أسمع صوته يقول: ستكون الرصاصة الأولى من نصيب من سيخرج أولًا من هنا! -5- [سامي] لم أكن أتوقع أن الأمور قد تطور إلى أن يرفع السيد هيثم علينا سلاحًا! كنت آمل أن يمر الوقت بشكل طبيعي حتى يتسنى لقمر الهرب بدون إثارة أي شكوك، لكن انفعالها وكلماتها الغاضبة جعلت السيد هيثم يغضب غضبًا لا مثيل له، وأنا بدوري أيضًا ألقيتُ بعض الكلمات التي تنفس عن غضبي.. لم يكن غضبي لأجل نفسي بقدر ما هو لأجل قمر. فلم أكن أستطيع أن أتحمل رؤيتها والسيد هيثم يجبرها على الذهاب إلى منزله ويمنعها من الخروج أمامي! شعرتُ بدمي يغلي غضبًا جراء رؤيته وهو يرفع أمامنا مسدسه، وتأكدتُ حينها من حقارته بشكل تام! وإن كنت مصدومًا تمامًا في داخلي منه. الآن الأولوية لجعل قمر تهرب، وأنا أعلم أن التهديد بالمسدس ماهو إلا كلام فارغ، فلن يجرؤ هيثم على إصابة قمر أو إصابتي.. مهلًا.. قد يصيبني أنا لكنني متأكد من عدم قدرته على إصابة قمر. ابتسمتُ بمرارة داخل نفسي، ولم أضيع الوقت في التفكير، وتوجهتُ إلى الباب بدون أن أعطي ظهري للسيد هيثم، وفتحتُه وأنا أقول لقمر بلهجة قوية: اذهبي. قال السيد هيثم ناظرًا إليّ بهزء: هكذا.. تريد الطلقة الأولى من نصيب قمر إذن؟ قلتُ ببرود ثابتًا: لن أسمح لك بإصابتها! فابتسم بخبث وقال: لنرَ إذن! فوجئت به يصوب على قمر التي تقف خلفي، دفعتُها بيدي سريعًا لتخرج حتى أنني قد بالغت في دفعها حيث سقطت أمام الباب الذي أغلقته فورًا وأنا أهتف: ابتعدي. وفي نفس الوقت شعرت بخيط قوي من النار يخترق فخذي اليسرى، التفتُّ إلى السيد هيثم لأجد فوهة مسدسه يخرج منها بعض الدخان، تذكرتُ أنه يضع كاتمًا للصوت.. هكذا إذن، لقد أطلق عليّ أنا لا قمر. تنهدتُ براحة أنه لم يصل لقمر. ووقفت أحجب الباب عنه خوفًا من أن يطلق على الباب فتصل الرصاصة لقمر. "سامي.. أنت بخير؟" صوت قمر يأتي من خلف الباب، شعرتُ بالغضب لأنها لم تتحرك، فصرختُ صرخة هادرة: إياك أن تقتربي! عودي إلى منزلك حالًا! سمعتُ صوتها يقول بهلع: هـ..ل.. أصابك..شيء؟ قلتُ وقد فاض بي الغضب: لم يصبني شيء. أسرعي! فسمعتُ صوت خطواتها الراكضة خلف الباب، ظللتُ واقفًا لعدة ثوان قبل أن أشعر بذلك الألم الذي جعلني أتهاوى أمام الباب جاثيًا، ضغطتُ على أسناني ألمًا من ذلك الوجع المهول الذي انتشر في فخذي اليسرى، وعندما ألقيتُ نظرة للأسفل فوجئت بذلك النزيف الذي أغرق بنطالي. "أتظن نفسك قد ضحيتَ حقا لأجل هروبها؟" كان هذا صوت السيد هيثم حيث اقترب مني وهو يقول هذه الجملة بلهجة ساخرة، اعتدلتُ في جلوسي لأستند بظهري إلى الباب وأفرد قدميّ ببطء وأنا أحاول التركيز في الوضع الحالي متجاهلًا الألم. أصبح وجه السيد هيثم أمامي، قلتُ له بهدوء متماسك: نعم. يمكنك أن تفعل بي ما شئت، لكن إياك أن تلمسها. اتسعت ابتسامة السيد هيثم ثم تحولت لضحكة مجلجلة، أخذتُ أنفاسي بإعياء وأنا أقول له بحدة: هل قلتُ نكتة ما؟! جلس السيد هيثم أمامي وقال مستمتعًا: أنت ساذج حقا يا سامي. أتظنني أعمل لوحدي؟ ألم يخطر في بالك أن جاسم وكريم ينتظران مثلًا أسفل العمارة وسيمسكانها؟ اتسعت عيناي برعب، تبًّا! لماذا لم يخطر في بالي هذا الاحتمال؟! لماذا افترضتُ أن السيد هيثم قد جاء لوحده؟! ضغطتُ على أسناني غيظًا وألما في الوقت ذاته وقلتُ بتهديد: إذا وضعتَ يدك عليها فستندم أشد الندم على ذلك! ابتسم السيد هيثم ساخرًا وقال: حقا؟ أنا الذي سأندم؟ ثم وقف فجأة بجانبي وداس بقدمه على فخذي المصابة هاتفًا بكبرياء: أم أنك أنت الذي ستندم يا سامي على تحديّ شخص لا يمكنك التغلب عليه؟ كان حذاؤه الجلدي السميك يضغط على إصابتي بقوة تجعلني أرغب بالصراخ، لكنني أمسكتُ قدمه محاولًا إبعادها فلم أفلح، وهو يضغط بكل ثقله قائلًا بتهكم: لماذا لا تصرخ ألمًا يا سامي؟ كان عقلي يكاد يُجن من شدة الألم لكنني لن أظهر للسيد هيثم أي شيء، فلا أريد أن أرى وجهه الشامت فيَّ! فأنا أدرك مراده.. إنه يريد أن يذلني وأن يهينني ليشعر بلذة الانتصار عليّ! خطر على بالي أن أخرج الخنجر من حزامي وأطعن بها قدمه، لكن لا أدري لماذا.. لماذا امتنعتُ عن ذلك في اللحظة الأخيرة؟! لماذا هناك جزء في داخل نفسي لا يتقبل أن أؤذيه؟ ألأني لحد الآن أتذكر لحظاته الأولى معي؟ حيث ذهب بي إلى المستشفى ليعالج جراحي، رعايته الطويلة لي بعدها، وكرمه في كل شيء معي، و.. هذا يكفي يا سامي. إنه الرجل الذي خدعك، الرجل الذي استغل طيبتك وجعلك تقاتل في الجانب الخطأ، الرجل الذي قتل السيد آسر، واستغل ابنته قمر لتعمل لصالحه وهي مجرد طفلة صغيرة، ويريد الآن أن يخطفها لتظل طوال عمرها في منظمته! عند وصولي لهذا الحد وقد بلغ مني الألم مبلغًا لا يمكن تحمله، جذبتُ الخنجر من حزا مي وهممتُ بأن أغرسها في رجله بأقوي ما لديّ.. انتبه السيد هيثم لذلك فأبعد رجله بسرعة، لم أصبه لكنني تمكنت من قطع طرف بنطاله وجرحه جرحًا بسيطًا سطحيًّا.. وقف أمامي بنظرات جامدة وأنا جلستُ ألهث ألمًا والدنيا تدور برأسي. أحاول أن أتمالك نفسي لأنظر إليه بتحدّ فقال لي: عجبًا يا سامي. ترفع خنجرك على الرجل الذي علمك كيف تمسكه؟ قلتُ بصوتٍ متعب: ليس أنت من علمني. إنما هو السيد آسر رحمه الله! فقد تعلمتُ الرماية في منشأته! عند ذكر السيد آسر، ظهر الغيظ والغضب مجددا على وجه السيد هيثم، ولكنه هذه المرة لم يقلها بشكل ساخر كعادته، وإنما قال بكراهية شديدة: هكذا؟ لم أعلم أنك ناكر للجميل بهذا الشكل! وفوجئت بقدمه ترتفع في الهواء لتنزل على رأسي بكل ثقلها، سقطتُ أرضًا وشعرتُ بملمس الأرض الباردة تحت وجهي، ورفع قدمه مرة أخرى ليركلني، مرة تصيب أنفي حتى ينزف، ومرة عيني، وفي كل وجهي.. تقبلتُ الضربات باستسلام ولم أدري لماذا؟ لم أكن حتى قادرًا على التأوه، أو تجنب ركلاته، ربما لشعوري السحيق من أعماق قلبي باليأس؟ أو ربما لتلك المرارة التي تغص حلقي؟ شعوري بأن كل شيء لم يعد له قيمة؟ كل شيء قاتلتُ لأجله قد أصبح سرابًا، أنا لم أقاتل لأجل السيد آسر طيلة السنوات التي كنتُ فيها مع هيثم، بل كنت أقاتل ضده، هذه الحقيقة آلمتني جدا. آمل فقط أن تكون قمر قد هربت فعلا وألا تقع في أيديهم ثانية، حينها فقط يمكنني أن أموت بسلام! . . فهرس رواية عيون لا ترحم |