ها أنتم مع طقم تسليكي بامتياز آخر .. اعذروني فأنا حقا لا أملك وقتًا كافيًا للكتابة فما بالكم بتصميم الأطقم وموعدنا سيكون الثلاثاء من كل أسبوع إن شاء الله رواية عيون لا ترحم [28] مصير بدر. -1- [قمر] عندما وصلتُ إلى باب الشقة، اتصلت على سامي، فتح لي لأفاجئ بوجهه المحمّر من أثر الزكام والحمى تقريبًا، يرتدي كمامة طبية، وتبتسم عيناه المرهقتان لي بصوته المبحوح: كيف حالك قمر؟ ابتسمتُ بشفقة على ما به وقلتُ بصوت حانٍ: بخير يا سامي، المهم كيف حالك أنت؟ سعل سامي لمرتين قبل أن يقول: بخير.. لا تقلقي، مجرد نزلة برد بسبب تغير الجو وتنتهي! لوهلة نسيت كل الشكوك الدائرة في صدري نحو سامي، وشعرتُ بعطف في قلبي تجاهه، جلستُ معه بعض الوقت لكنه كان يبدو مرهقًا حقا، فقمتٌ أسأله عن مكان السيد هيثم، قال باستغراب: إنه في مكتبه، لماذا؟ قلتُ بهدوء مبتسمة: أريد أن أسأله عن شيءٍ ما، وأنت يا سامي عد إلى سريرك فالراحة مهمّة لتتعافى من البرد. قال سامي بهمّة وهو يقوم: يمكنني الدخول معك إن أردت. سامي يتوقع مني أنني لا زلتُ أخاف أن أجلس مع السيد هيثم لوحدنا وأن في قلبي هيبة تجاهه، هذا صحيح! ولكن للأسف هذا الأمر بالذات لا يمكنني إشراك سامي فيه خاصة بمرضه الحالي، أريد مواجهة السيد هيثم لوحدي! ابتسمتُ مدّعية الشجاعة وأنا أدفع سامي إلى غرفته بمرح: لا تقلق عليّ، لست خوّافة لهذه الدرجة! نظر إليّ سامي بدهشة وتبدت في عينه ملامح القلق، فضحكتُ قائلة: لا تقلق! إنني أحاول التغلب على خوفي من الحديث مع السيد هيثم لوحدي. فهو قائد المنظمة على أية حال! ولا يمكنني الاستسلام لهذه المشاعر الطفولية بالخوف منه! ثم قلتُ له راجية: لذا يا سامي أرجوك تفهّم رغبتي.. وشجّعني! تنهد سامي بعمق بعد أن فهم وجهة نظري قليلًا، ثم قال: فهمتُ، إذن.. سوف أدع الله لكِ! وقال بلهجة تشجيعية: أثق أنك قادرة على فعلها! ابتسمتُ ممتنة لسامي، واتجهت إلى غرفة السيد هيثم وعيوني تتابع سامي الذي يغلق غرفته، ولوّح لي بيده في لطف قبل إغلاق الباب مباشرة فابتسمتُ بتوتر. أخذتُ نفسًا عميقًا قبل طرق باب مكتب السيد هيثم، حتى سمعتُ صوته يأذن لي بالدخول، ففتحتُ الباب لأجده جالسًا خلف مكتبه بهدوئه المثير المعتاد وابتسامته الوقورة، ارتعد قلبي عندما تأملتُ وجهه وتذكرتُ كلام عمّي عنه، عقدتُ حاجبيّ بهمّ أحاول التغلب على خوفي وفزعي. قال بصوته العميق: هل قررتِ الدخول أخيرًا؟.. كنت أسمع صوتكما أنت وسامي في الخارج وأود الانضمام إليكما لولا المشاغل التي عندي. ابتسمتُ مجاملة وأنا أغمغم: معذرة، فقد كنت أحاول التخفيف عن سامي بما أنه مريض. ابتسم بامتنان: لا تعتذري فأنا ممتن لذلك، صداقتك مع سامي خففت جزءًا كبيرًا من وحدته! أومأت برأسي شاكرة وسكتت بتوتر أفكر في كيفية بدء الحديث مع السيد هيثم. قال هو بتساؤل: أهناك شيء تريدين قوله يا قمر؟ هززتُ رأسي إيجابًا، فارتخى في مقعده بثبات قائلًا: تفضلي. كلي آذان صاغية! تنهدت بحرارة ثم قلتُ بانخفاض: الحقيقة أنه بشأن.. بشأن الجريمة التي حدثت.. وبدأ جسدي يرتعش وصوتي يخرج مهزوزًا، ظهر على وجه السيد هيثم الجدّية وملامحه تصغي بانتباه شديد، أخذتُ أنفاسًا مسموعة وقلتُ باضطراب: لديّ سؤال لك يا سيدي! ضيّق عينيه بحزم وقال: ما الأمر؟ نظرتُ إليه محاولة منع مشاعري المرتجفة من الوصول إليه: عندما جئت.. أقصد عندما خطفتموني إلى هنا، ذكّرتني بالجريمة، وقد كنت من صدمتي بمعرفتك بهذا الأمر، ناسية سؤالاً مهما يفرض نفسه. ثم التقطتُ أنفاسي ثانية والسيد هيثم يراقبني ببرود، وكأنه بدأ يتوقع سؤالي، فقلتُ بقوة: كيف عرفتَ أنني.. شهدتُ الجريمة؟! اتسعت عينا السيد هيثم مدركًا معنى سؤالي، فالسيد هيثم من البداية أخبرني، أنه يعلم أن عمّي هو من قتل أبي، ولكن اللغز بدأ يتشكل في عقلي عندما سمعتُ القصة كاملة من عمّي. السيد هيثم لم ير عمّي وهو يَقتل، صحيح أن الشرطة اكتشفتني فاقدة الوعي على صدر أبي. لكن لم يستطع أحد منهم أن يجزم أنني رأيت القاتل! حتى عمّي بنفسه في البداية لم يكن يعرف هذا حتى أدرك_بطريقة ما من تصرفاتي معه_ أنني حضرتُ الجريمة وعرفت أنه القاتل. ظل السيد هيثم هادئًا وهو ينظر إليّ، وتّرتني نظرته فقلت بحدّة: سيد هيثم.. أنت قلتَ لي في البداية أنني رأيتُ القاتل! وكنت متأكدًّا من ذلك وإلا لما استدعيتني وبدأت حديثك بناءً على هذه المقدمة، فكيف عرفتَ هذا؟ كيف عرفتَ أنني شاهدتُ القاتل؟ أنت لم تكن حاضرًا وقت الجريمة صحيح؟! طال صمت السيد هيثم ثم قال بصوت عميق: لقد خمنتُ ذلك، وصادف أن تخميني كان صحيحًا ولم تنكري ذلك! بدأ الغضب يتسلل إلي وأنا أقول: كلّا. لم يكن تخمينًا. لقد كنت تتكلم بكامل الثقة، لو كان تخمينًا كنت لأعلم ذلك! لكن كان الأمر يبدو كما لو أنك تعرف كل شيء مسبقًا! قال بإصرار: لقد ظهر الأمر لك كما لو أنني كنت أعلم! لكنني كنت أخمّن، وعادتي عندما أخمّن شيئًا أنني أكون واثقًا بنسبة 90% أنه صحيح! وغالبًا ما تصدق تخميناتي. قلتُ وأنا أعقد حاجبيّ: وعلى أي شيء تستدل تخميناتك تلك؟ قال ببطء: بالطبع على دلائل حقيقيّة. فسألته بدوري: إذن.. وعلى أي شيء استندت أنني رأيتُ القاتل؟! قال بابتسامة مستفزة: عندما رآك الشرطة فاقدة الوعي على صدر أبيك، قلتُ أنك لن تفقدي وعيك إلا من صدمة كبيرة، فمبجرد رؤية والدك مستلقٍ على الأرض ينزف يجعلك تشعرين بالرعب طبعًا وبالخوف، لكن لن يصيبك بصدمة.. إلا إذا رأيتِ القاتل وهو يقتل، وهو منظر صعب أمام أي طفل أن يرى والده يُقتل أمامه! خاصة لو كان القاتل هذا هو عمّه! بصراحة.. بدى الأمر مقنعًا لي، لكنني رغبة في جداله، قلتُ معترضة: ولماذا لم تخمن أنني أصبت بصدمة طبيعية لأنني كأي طفلة في العالم تصدم عندما ترى والدها ينزف ولا يرد عليها، وفوق ذلك تلك الطفلة فقدت والدتها منذ سنتين! لماذا تستبعد أن تصاب بصدمة وتفقد وعيها على صدر أبيها بسبب ذلك! لا أرى علاقة ملزمة بين كونها تصاب بصدمة وبين كونها شاهدت القاتل وفوق ذلك تستنج أنه كان عمّها أيضًا! تنهد السيد هيثم بحرارة وكأنه لا يدري كيف يرد، فاحتبستُ أنفاسي وأنا أحاول توقع ردّه القادم، حتى قال ببطء: لقد أخبرتك يا عزيزتي، لقد كان تخمينًا بالفعل وقد صادف أنني أصبتُه. شعرتُ أنه لا مزيد من الحديث لديه خاصة عندما قام واقفًا وأعطى ظهره لي يتأمل النافذة، شعرتُ ببعض الضيق من انتهاء اللقاء بهذه الطريقة، وشعرتُ بإحساس سييء نحو السيد هيثم. هذه أول مرة أشعر بعدم الراحة هكذا هنا. قمتُ من مكاني واقفة بدوري وقلتُ: إذن سوف أستأذن أنا يا سيد هيثم. قال بدون أن يلتفت: تفضلي. فمشيتُ حتى باب المكتب بوهن، حماستي في إكمال المنظمة مع السيد هيثم بدأت بالتلاشي لسبب ما! " قمر.. أتريدين أن تعرفي كيف تأكدت من أنك رأيتِ القاتل!؟" كان هذا صوت السيد هيثم، كان جادًّا وقويًّا هذه المرة! التفتُّ إليه باهتمام وترقب، وأومأت برأسي قائلة على الفور: نعم! ابتسم نصف ابتسامة، واتجه إلى خزانة حديديّة إلى جانب مكتبه، فتحها برقم سرّي، ثم مدّ يده إلى داخل درج صغير أعلاها، أخرج منه قلم ذاكرة بحجم حبّة الفول، ثم أغلق الخزانة وتوجه إلى حاسبه المحمول، ووضع قلم الذاكرة وانتظر أمام الجهاز بضع ثوانٍ.. ثم قلب الشاشة لكي يُريني، وقال بثبات: هذا الفيديو.. أنت أول شخص أريه إياه، فهو سر من أسراري الخاصة جدَّا، حتى سامي لا يعرف شيئًا عنه. اتسعت حدقتا عينيّ على آخرها، وأنا أبحلق في الشاشة بتركيز بعد أن شغّل السيد هيثم الفيديو. كان ينقل منظر صالة فخمة جدّا، لا يوجد فيها أحد.. هذا المنظر مألوف لدي ولكنني لا أستطيع التذكر! غمغمتُ بتلقائية: أين هذا المكان؟ ابتسم السيد هيثم بهدوء مثير قائلًا: لا تتعجلي، ستعرفين كل شيء الآن! أثار هدوئه قلقي المفاجئ، وضعتُ يدي على قلبي خاصة عندما حاولت استدعاء صورة هذا المكان إلى ذاكرتي، لأتذكر أنه.. كان قصر والدي! بدأت ضربات قلبي بالتزايد مع ظهور.. أبي.. وعمّي يدخلان إلى الصالة بهدوء، ويبدو أن أبي يرحّب بعمي داعيًا إياه إلى الجلوس بتودد. بدأت عيناي تدمعان.. هذه أول مرة أرى فيديو مصوّر لأبي! شعرتُ برغبة عارمة في الدخول إلى الشاشة واحتضان أبي، لكنني تماسكت أمام السيد هيثم الذي كان يراقب ملامحي بتمعن. بدأت شفاههما بالتحرك، من الواضح أنهما يتكلمان، لكن لا صوت في الفيديو، فالتفتتُ إلى السيد هيثم متساءلة بلهفة: أين الصوت؟ هز رأسه نفيًا: لا يوجد صوت، هذا فيديو مأخوذ بواسطة كاميرا مراقبة. ابتلعتُ ريقي باضطراب وأنا أعود بنظري إلى عمّي وأبي وهما يتكلمان، كانا يتكلمان لعدة دقائق سرّعها السيد هيثم، ثم أوقف تسريع الفيديو لتأتي لقطة قيام أبي واقفًا وعلى وجهه الغضب، قام عمّي بدوره ولوّح بيده بعصبية، فأمسك أبي كتفه ليوجه له كلمة ما بتهديد، لكن عمّي ضرب يده ليبعدها عنه ثم أخرج من معطفه شيئًا ما.. لقد كان خنجرًا.. سدده بسرعة خاطفة ليستقر في قلبي.. أقصد في قلب أبي! عند تلك اللحظة وضعت يدي على فمي أكتم أي صرخة لا إرادية قد تخرج مني، وانهارت عيناي بالدموع الصامتة وأنا أنظر إلى أبي يسقط جثة على الأرض، وعمّي ينتزع الخنجر ثانية ويتلفتت حوله بتوتر ثم يبتعد عن الشاشة.. بعدها بثوانٍ ظهرت طفلة صغيرة طولها لا يتعدى النصف متر! لقد كانت أنا! كانت ملامح وجهها تحكي الرعب الذي تعيشه وهي تحاول احتضان أبيها وتضع رأسها على صدره المضرج بالدماء، وهو حاول وضع يده في شعرها ليهمس ببضع كلمات بشفتين منهكتين، ثم يسكت للأبد.. وتظل تلك الطفلة تبكي على صدره حتى تهدأ حركتها تمامًا، ويبدو أنها فقدت وعيها. انتهى الفيديو لتظهر شاشة الحاسب سوداءً، فانعكست صورة وجهي المحمّر ودموعي التي تغرق عيني عليه، توقفت فورًا عن البكاء وسحبتُ منديلًا لأجفف وجهي وقد تضايقتُ لأنني أول أبكي أمام السيد هيثم، ولا أحب عادة أن أبكي أمام شخص بيني وبينه كلفة وهيبة. قام السيد هيثم واقترب مني وربت على كتفي بحنان قائلًا: آسف إن كان هذا الفيديو قد أعاد عليك الذكرى الأليمة! حاولت أن أقول بصوت متماسك: لا تتأسف يا سيد هيثم، بل شكرًا لك لأنك أريتني الفيديو! ثم تنفستُ بعمق وحاولت تهدئة نفسي، شدّ السيد هيثم ضغطة يده على كتفي، فقلتُ بحرج ممتنة: شكرًا لك! عاد السيد هيثم إلى كرسيّه الجلدّي الفخم وراء المكتب، وسألني بحزم: والآن. هل فهمتِ كيف عرفتُ أنك كنت موجودة هناك وشاهدت القاتل؟ أومأت برأسي بتفهم، ثم قلتُ بتساؤل: ولكن كيف حصلت على هذا الفيديو يا سيدي؟ تراجع السيد هيثم بظهره إلى الكرسيّ وقال بهدوء: لقد تسللتُ إلى القصر، بعد معرفتي بما فعله عمّك، ووجدتُ كاميرا المراقبة قد سجّلت هذا الفيديو الخطير، فأخذت شريط الفيديو حتى لا يستطيع عمّك الحصول عليه! شعرتُ بالغباء فجأة، وقلتُ بعدم فهم وحيرة: ولكن لماذا لم تترك الفيديو حتى تأتي الشرطة وتكتشف الفاعل؟ أو حتى إن كنت خائفًا من أن يقع الفيديو في يد عمي، تأخذه ثم تقدمه للشرطة فيما بعد، فلماذا لم تفعل ذلك؟ رغم أن سؤالي كان منطقيًّا جدًّا، لكن وجه السيد هيثم تحولّت ملامحه إلى ملامح سخرية، وابتسم قائلًا: حقًّا.. كم أنت طيبة يا قمر! سكتتُ بدون فهم، ماذا يعنيه؟ فقال عندما رأى علامات الحيرة والاستنكار مستمرة على وجهي: عمّك يا عزيزتي.. شخص محتال ومخادع، له نفوذ وطرق خفية يستطيع بها رشوة الشرطة، وإقناعهم أن هذا الفيديو مفتعل إن وقع في أيديهم، أو حتى جلب محامي ليدافع عنه ويثبت تهمة غيابه وبالتالي إثبات أن هذا الفيديو فعلًا فيه خدعة ما. نظرتُ له بحيرة أكبر، أحقّا عمّي كان يعرف بوجود فيديو كهذا يا ترى؟ أيكون الحرب ما بين منظمة عمي ومنظمة السيد هيثم على هذا الفيديو؟ أم أنني فهمتُ خطأ؟ أم أنني لم أفهم شيئًا! قام السيد هيثم واقفًا ونظر إلى النافذة بتمعن هذه المرة، وضيق عينيه، قلتُ باهتمام: أهناك شيء ما في الخارج؟ تغيرت ملامح وجهه، والتفت لي بملامح جامدة، قائلًا: قمر.. وسكت.. فقلتُ باستغراب: نعم؟! قال بوجه مخيف: هل يعرف أحد أنك هنا؟ أو أنك منضمة إلى منظمتي.. غير عمك؟! عقدتُ حاجبيّ بتوتر وقلتُ: كلّا. لا أحد يعرف طبعًا. أنا أراعي أن هذا شيء سرّي جدا. هدأت ملامحه شيئًا ما، لكنه ظلّ على نفس الوجه البارد، فقلتُ باضطراب: أهناك شيء؟ شعرتُ بنظراته تحاول اختراق عيني، وهو يقول ببطء: لا شيء. ثم قال بثبات: لكن ليكن في علمك يا قمر، أن أي شخص سيعلم بسر انضمامك لنا أو يعرف أي شيء يخصنا، أننا سنتخلص منه في أسرع وقت للحفاظ على سرية منظمتنا حتى بدون إعلامك بذلك. كانت عينا السيد هيثم حادتين جدا حينها، وشعرتُ بخوف شديد منهما، ابتلعتُ ريقي ببطء، ما سبب هذا التهديد؟ هل يشك أني قد أخبر شخًصا من أصدقائي مثلّا؟ ربما السيد هيثم لا يعرف أنني الآن بلا أصدقاء، بلا مدرسة تقريبًا، بلا أهل كذلك! شعرتُ بالمرارة تعتصر حلقي. وتضايقت من ملامحه الجامدة ولهجته التهديدية التي وجهها إليّ، لكن لعله قال ذلك حتى يخوّفني من أن أفصح سرّي لأي مخلوق كان! خرجت من عنده وأنا متضايقة، ألقيتُ نظرة على غرفة سامي المغلقة، وشعرتُ بالرغبة في أن أقابله الآن، لكن لابد أنه قد نام من تعبه! نزلتُ من العمارة، ومشيتُ أولى خطواتي وبدأ الفيديو يترائى إلي خيالي وأنا أسير، بدأت عيناي تدمعان، وشعرتُ بفرحة خفية في قلبي أنني استطعت رؤية أبي وهو يتحرك ويتكلم ثانية، ثم شعرتُ بوجع رهيب يقطع قلبي لأنني رأيت أبي يموت للمرة الثانية! بدأت الرؤية تصبح مشوشة في عيني، ابتلعت المرارة في حلقي ومسحت عيني بيدي، ونظرت جيّدا للمارّة من حولي والشوارع، كنت شاردة جدًّا، الناس تروح وتغدو بكل سلام نفسي، لا أحد يمرّ بما أمرّ به الآن. هل يا ترى من بين هؤلاء الناس واحد فقد أباه أو أمه؟ وهل يمكن أن يكون فيهم من فقد الاثنين مثلي؟ وحتى لو كان منهم من فقد الاثنين، فهل رأى جريمة قتل والده بأم عينيه وهو طفل! لا أظن هذا..! وحتى إن كان أحدهم قد اجتمع عليه هذه المصائب الثلاثة، هل يا ترى يعيش مع عمّه وامرأة عمه التي تذلّه بين الحين والآخر؟ أم هل يا ترى يعاني في مدرسته من اضطهاد أصدقائه وبعدهم عنه؟! صعبت علي نفسي كثيرًا وشعرتُ بكسر في قلبي، وحيرة بالغة لما ينبغي فعله الآن، لقد رأيت عمّي يقتل أبي بأم عيني وأنا صغيرة، وها أنا ذا قد تأكدت من الجريمة فعلًا! لكن عمي يقول أنه كان سكرانًا عندما فعل ذلك، وهو الآن نادم على هذا، وقد سلمني حياته بالأمس واستسلم لي تمامًا عندما حاولت وضع السكين على رقبته! أي جانب من المفترض أن أنضم إليه الآن؟ لا يوجد شيء واضح، كل شيء ضبابي وباهت، الحقائق أصبحت متداخلة، كلٌّ يدّعي نزاهته وشرفه، حتى السيد هيثم يتكلم بثقة مبهرة، لكن ما سرّ ذلك التهديد المخيف الذي وجهه لي في نهاية اللقاء؟ "قمر.. انتبهي!" أفقتُ من أفكاري الشاردة على صوت مألوف ويد تمتد فجأة لتمسك كتفي، انتفض جسدي وأنا ألتفت إلى ذلك الفتى الذي يقف خلفي وقد وضع يده على كتفي بانفعال، نظرتُ له بدهشة وذهول، لقد كان بدر! ابتسم ابتسامة مُحرجة وهو ينظر إلى الشارع، ويشير إلى السيارة المارقة من أمام وجهي قبل ثوان قائلًا: يبدو أنك لم تنتبهي أن الإشارة قد أصبحت حمراء بالنسبة للمشاة، لقد كنتِ تسيرين في الطريق شاردة للغاية! لا يزال الذهول يتملكني، منذ متى وبدر ورائي وأنا لم أشعر به؟! سألني بقلق عندما أطلتُ النظر إليه دون أن أتكلم: قمر.. هل أنت بخير؟ هل كنتِ تبكين؟! تداركتُ نفسي على الفور، واعتدلتُ قائلة بهدوء: بخير.. شكرًا يا بدر على اهتمامك. وابتعدتُ عنه قليلًا فأزاح يده عن كتفي بخجل، وغمغم: آسف لأنني فاجئتك من الخلف. في الحقيقة كنت أسير ورائك لعدة دقائق أحاول اقتناص فرصة مناسبة لمناداتك والحديث إليك لولا ملاحظتي أنك كنت شاردة الذهن بشكل مُلفت. يسير ورائي لعدة دقائق؟ أنا كنت خارجة لتوّي من عمارة شقة سامي! عقدتُ حاجبي فجأة وقلتُ بعدوانية: منذ متى وأنت تتبعني يا بدر؟ هرش في شعره بسذاجة وقال ضاحكًا: كلا لا أتتبع الفتيات صدقيني وليست هذه أخلاقي طبعًا، كل ما في الأمر أنه.. قلتُ وقد بدأ الغضب يسيطر عليّ عندما تذكرتُ تهديد السيد هيثم الأخير: كيف تتبعتني وكيف عرفت مكاني يا بدر؟ أخبرني! هل كنت تراقبني أم ماذا؟ استغرب بدر لجدّيتي المفاجئة وصوتي العصبيّ، فقال بوجه بريء متوتر: والله ليس قصدي مراقبتك يا قمر، لقد أخبرتك أنني.. في الحقيقة... كنت أشعر أنني أقف على الجمر وهو يتكلم، حتى قال بملامح ندم: لقد رأيتُك تخرجين من إحدى العمارات فاستغربتُ كثيرًا، والأهم أنك كنتِ تبكين وكنت شاردة الذهن.. فقلقتُ جدا وتتبعتُك. ولم أكن أقصد مراقبتك أقسم لك! وقع قلبي تحت قدمي! لقد رآني بدر.. رآني وأنا أخرج من عمارة سامي! يا إلهي ماذا أفعل الآن! شُلّ جسدي ونظرتُ بذهول إليه، وقلتُ بصوت متقطع أخفي هلعي: وكيف وصلتَ أصلًا إلى هذه العمارة؟ أكنت تتمشى في المنطقة أم ماذا؟ أطرق برأسه بملامح خجل وقال بأسف: بصراحة لا أريد إخبارك الحقيقة فسوف تغضبين منّي. في تلك اللحظة اشتطتُ غضبًا، هل يُعقل أنه كان يراقبني مذ خرجتُ من منزل عمّي مثلًا؟! هتفتُ بانفعال: بدر.. قل الحقيقة وقل كل شيء! ولن أغضب! كان وعدي الأخير بالتأكيد وعدًا مشكوكًا في قدرتي على تنفيذه، فمن قبل أن يقول بدر أي شيء وجهي منتفخ ومحمّر من الانفعال، ظهر على وجه بدر التردد وهو يقول: صدقيني لم أفعل هذا إلا خوفًا عليك ياقمر. حاولت أن أقول بلهجة متماسكة: ماذا فعلتَ يا بدر؟ قال بلهجة مستكينة: في الحقيقة لقد.. تكلمتُ مع سمير، وتجادلتُ معه بخصوصك، لقد كنت أعلم أنه لا يمكن أن تهاجميه بدون سبب هكذا، ولقد قال لي أنه رآك تخرجين من إحدى العمارات وعندما حاول سؤالك عنها غضبتِ ولم تجاوبيه، فأمسك يدك كيلا تهربي وحينها انفجرت فيه وكسرتِ يده. نظرتُ إلى بدر بغيظ شديد، لما استشعرتُ من لهجته مشاعر اللوم لي، لكن لحظة.. سمير أخبر بدر أنه رآني أخرج من إحدى العمارات!! هل يُعقل أن سمير دلّه على عمارة سامي؟! هل تتبعني بدر منذ وجودي هناك؟ صدق ظني إذ قال بدر بعدها ببراءة: وقد أتيتُ إلى مكان العمارة فعلًا لأجدك تخرجين منها! كان يبدو على وجهه آثار صدمة ما وهو يسأل: هل صحيح أن هذه.. عمارة ص.. صديقتك؟ نظرتُ له بحدة قائلة: وهل تشك في كوني أكذب؟ قال بسرعة: كلّا بالطبع، لقد كنت أطمئن عليكِ وحسب. فأنا.. أعرف تقريبًا الأمكنة التي يعيش فيها صديقاتك، وهذه العمارة ليست منها في الغالب.. فاعتقدت أنها صديقة من خارج المدرسة لا أعرفها! قلتُ بلهجة شديدة فيها قليل من السخرية: وماذا تريد إذن؟ أن أعرفك على هذه الصديقة؟ هل تظن أنك وصيّ علي مثلًا؟ نفى ذلك ببراءة قائلًا بإحراج: كلّا طبعًا. لك الحق في مصادقة من تشائين، بل وإخفاء ذلك عني إن أردتِ. كنت أشعر بضغطي يكاد ينفجر من شدة ارتفاعه لما أسمع، استفزني بدر جدَّا، لذا أعطيته ظهري وتركته عابرة الطريق عندما تحولت إشارة المرور للأحمر وتوقفت السيارات، كنت أمشي بعصبية شديدة وأفكر، سمير عرف مكان العمارة منذ زمن، والآن بدر عرفه كذلك بل ورآني وأنا أخرج منها! لحظة.. هل يمكن أن. السيد هيثم عندما نظر من النافذة رأى بدر؟!! ولهذا وجّه إليّ هذا التحذير؟ بدأ الأمر يصبح منطقيًّا، شعرتُ بعظم المصيبة التي أنا فيها، بالطبع لن أخبر أحدًا، لا سامي ولا غيره أن هناك اثنان أصبحا يعرفان مكان شقة سامي الآن.. ولكن يجب علي التفكير في حل لهذه المصيبة! يا لهذه الورطة!.. "قمر.. انتظري. أرجوك لا تغضبي منّي" كان بدر يسير ورائي بخطى حثيثة، أسرعتُ من خطواتي أكثر بغضب، وقلتُ بغيظ هاتفة: لا تلاحقني! وأكملتُ طريقي على عجل! "انتظـ.." وفجأة انقطعت جملته.. وسمعت صوت سيارة خلفي تنطلق بشكل مفاجئ مع صراخ! تسمرّت مكاني خاصة عندما فوجئت بالناس تموج من حولي وتنطلق بعشوائية في كل اتجاه، التفتت سريعًا بذعر لأرى هذا المنظر.. بدر يطير في الهواء بعد أن صدمته تلك السيارة العابرة بسرعة جنونية على الرغم من أن الإشارة حمراء، ثم يهبط على الأرض خامدًا وقد غرق وجهه بالدماء! -2- [ياسر] دخلت المستشفى منذ تلك اللحظة، لحظة دخول جوهرة علي وقمر تحاول قتلي. لم أدخل المستشفى بسبب قمر على أية حال بل بسبب جروح ظهري التي التهبت وأخرجت الصديد مما سبب لي حمى شديدة لم أشعر بنفسي إلا وقد فقدت وعيي حينها. ونُقلت إلى المستشفى إثر ذلك، وبالطبع أعطاني الطبيب حقن لتخفيض الحرارة ومنع الالتهاب ونظفوا جروح ظهري ونبه علي الطبيب أنه لا يمكنني الخروج أبدًا إلا بعد يومين على الأقل من الاطمئنان على الجرح! لكنني حقيقة ليس لدي وقت لهذا! بعد دخولي المستشفى بعدة دقائق اتصلت أماني على زوجتي جوهرة لتطمئن عليّ، سمعتها تتكلم معها فطلبت من جوهرة أن تعطيني الهاتف لأتكلم مع أماني. استغربت جوهرة طلبي ولكنها أعطتني الهاتف. كانت أماني قلقة جدا علي وتريد المجيء إلى المستشفى لتزورني هي وزوجها، لكنني طلبتُ منها طلبًا آخر، وقلتُ لها إذا فعلتيه فكأنك زورتني بالفعل! طلبتُ منها أن تذهب لقمر على وجه السرعة. فقمر تحتاجها كثيرًا لأن نفسيتها متعبة جدا. تقبلت أماني على الفور طلبي ونفذته، هذا ما طمأنني كثيرًا على قمر أنها لن تكون وحدها. فأنا واثق أن نفسيتها غير مستقرة تماما بسبب ما حصل بيني وبينها. اليوم هو الأحد، أي أنه مضى يومان على دخولي المستشفى، وقد تحسنت حالتي جدا وانخفضت الحرارة وعادت إلى طبيعتها، حتى جروحي تماثلت للشفاء بفضل الله. لذا طلبت من الطبيب إذن خروج وها أنا في انتظاره. باسل ودانة زاراني عدة مرات في اليومين السابقين، المهم أن باسل أصبح ينقل لي الأخبار عن قمر. وهذا ما جعلني أتلقى العلاج في هدوء في هذه المستشفى! آه بالمناسبة يبدو أن باسل رأى مشهد قمر وهي تضع الخنجر على رقبتي، لذا شرحتُ له باختصار أن قمر كانت تمثل كيف يتم الهجوم على الخصم وتفعل ذلك عمليا، لأنني طلبتُ منها ذلك، ولم تكن تنوي قتلي وإنما كانت تريد أن تُريني نتائج تدريبها في مدرسة الفنون القتالية ولكن جوهرة فهمت الموقف خطأ. (وقد اقتنع باسل وأوصل الكلام لأمه التي لم تقتنع بالكلام بالطبع). على أية حال، بمجرد عودتي سأمسك أنا زمام الأمور ولن أسمح لجوهرة بالتدخل في أمور قمر ثانية. في الساعة السادسة مساءً، فوجئت باتصال من باسل على هاتفي. فأجبت بسرعة: باسل؟ أهناك جديد؟ قال باسل بقلق: أبي لا أريد إزعاجك يا أبي وأنت لم تتحسن بعد. لكن قمر مختفية من غرفة أماني، إنها غير موجوة في البيت! قلتُ باهتمام: هل بحثتَ جيدا؟ منذ متى وهي مختفية؟ قال بتوتر: لا أدري على وجه التحديد، لكن ريهام تقول أنها لم تجدها عندما أحضرت الغداء في الساعة الثانية ظهرًا. قلتُ ببطء: أي أنها على الأغلب قد خرجت من البيت منذ الصباح، ألم تكن غرفة أماني مغلقة بالمفتاح؟ قال بخجل: بصراحة أنا طلبت من ريهام ألا تغلق بالمفتاح اليوم! فقد كانت أماني لتوها قد تركت قمر بالأمس، وقالت لنا أن نعامل قمر جيدا لأن نفسيتها متعبة. فقلت لريهام ألا تغلق على قمر بالمفتاح فقد كنت واثقًا فيها. أنها لن تخرج من غرفة أماني. تنهدتُ بخفة: آهٍ منك يا باسل، ثم ابتسمتُ: لا بأس. لا تقلق على قمر. سأعود أنا للبيت بعد قليل وسنبحث عنها معًا. قال: حقا؟ هل أنت بخير الآن يا أبي؟ ألا بأس بخروجك ؟ قلت أطمئنه: لا تقلق يا باسل، كل شيء على ما يرام وأنا أنتظر إذن الطبيب بالخروج الآن. هل يمكنك أن تطلب من السائق أن يأتي إلى المستشفى ليأخذني؟ أشرق صوته بفرحة: بالطبع يا أبي سأفعل! ابتسمتُ بحنان وأنا أغلق المكالمة، ابني باسل أصبح شخصا يُعتمد عليه فعلًا! لكنني قلق على قمر جدا! أنا واثق أنها ذهبت لمقابلة هيثم وسامي، لكن لا أدري هل تغير فكرها وقناعتها بعد محادثتنا الأخيرة أم لا؟! وهل يمكن أن تواجه قمر هيثم بكلامي؟! لا أظن أنها غبية لهذه الدرجة، ولا أدري إلى أي مدى يمكن لهيثم أن يفعل؟ هل من الممكن أن يخطف قمر وألا يسمح لها بالعودة إذا شعر أنها قد عرفت حقيقته؟! لا أدري.. لكنني قلق حقا، إذا عادت قمر سأشرف على حبسها بنفسي هذه المرة! -3- [نور] انطلق الرصاص ليمطر أفراد المافيا _ومن ضمنهم أمي_. فلم أملك نفسي أن خرجتُ من السيارة على الفور وحاولتُ أن أسقطها أرضًا. دفعتها بذراعي لنسقط معًا على الأرض، صرخت أمي عندما فوجئت بي ولكنها بمجرد أن استوعبت وجودي هتفت بذهول: نور، ما الذي جاء بك إلى هنا؟!! كان أفراد المافيا المتبقيين قد انخفضوا أرضًا وزحفوا خلف سياراتهم، فأمسكتني أمي من يدي بسرعة وزحفت بي خلفهم كي لا يصيبنا رصاص الشرطة، وخلف السيارة حل الذهول على بقية أفراد المافيا حيث نظروا إليّ هاتفين: من هذا؟ فيجو فقط هو من عرفني، ولمعت عيناه بسخرية قائلًا: أيها الطفل.. لا أدري كيف جئت إلى هنا ولكنك جئت في الوقت المناسب! حيث أمسك يديّ الاثنتين وكبلها خلف ظهري بيد فولاذية ورفعني فوق السيارة وهو يصرخ في أفراد الشرطة: توقفوا! معنا رهينة هنا! توقف الرصاص على الفور، وكانت مفاجأة فيجو لي تمنعني من اتخاذ القرار أو التصرف المناسب..! ماذا أقول؟ هل أمثل أنني رهينة بالفعل؟ وأطلب من الشرطة إنقاذي؟ وأكون قد ساعدت المافيا؟ تسمرت مكاني كالصنم وأنا أرى رجل الشرطة يهتف مصدومًا: من أين جاء هذا الطفل؟ ضحك فيجو باستفزاز: لا أدري حقا، لعله كان يمر من هنا وخاف من صوت إطلاق الرصاص، لقد وجدناه مختبئًا خلف السيارة. ضغط الشرطي على أسنانه غضبًا، وأمر رجاله بالتوقف عن إطلاق الرصاص، مما جعل فيجو ينتشي مسرورًا. وهو يقول: والآن يا ماتيو، أطلق سراح بلانكا حتى تأتي إلى هنا. وإلا سأفجر رأس هذا الصغير. وضع المسدس على صدغي فارتجفتُ خوفًا. المسدس ثقيل، وفوهته باردة، ورائحته بارود! ابتلعتُ ريقي برعب وأنا أنظر نظرات متوسلة لرجل الشرطة، لم أكن أقصدها حقا، لكن فيجو شخص مجنون، ولا أظن أنه يمكنني تحديه هنا، إذا أفسدتُ خطته وقلتُ بأنني لستُ رهينة، فلا أضمن ما سيفعل بي أو ما سيفعله بأمي. قال رجل الشرطة بانفعال: فيجو، إنه مجرد طفل بريء لا دخل له بصراعاتنا، اتركه وشأنه. ضحك فيجو قائلًا بتلذذ: ولهذا السبب بالتحديد، أخذته رهينة! وأنت تعلم أنه يمكنني تفجير رأسه الآن إذا لم تفعل ما قلت لك. ونظر نظرة مرعبة وهو يهمّ بضغط الزناد، فقال رجل الشرطة على آخر لحظة مغلوبًا على أمره: أيها الوغد! سوف أطلق سراح بلانكا، ولكن أبعد هذا المسدس عن رأسه، إنه يبدو مرعوبًا. قال فيجو بهدوء: لن أبعد المسدس عن رأسه حتى أرى بلانكا أمامي. ثم قال مهددًا: ولن أعطيك كل الوقت! أمامك حتى رقم عشرة، إذا لم أجد بلانكا أمامي فسوف أفجر رأسه! أفهمت؟ ثم بدأ العدّ بصوت جهوري قائلًا: واحد. كان الشرطي يكاد يتفجر غيظَا، ورغم ذلك أمر رجاله بإخراج تلك المرأة، كانت داخل سيارة الشرطة، وظهرتْ امرأة شرقاء زرقاء العينين جميلة الملامح مقيدة بأصفاد الشرطة، كانت هي نفس المرأة التي دخلت عليّ وأنا مقيد عند فيجو ونصحته ألا يضع وشمًا علي. هل تذكرون؟ عندما رأت بلانكا فيجو قالت بلهفة وفرح: فيجو.. ها قد جئت لإنقاذي. أخفى فيجو ابتسامته وهو يقول بهدوء للشرطة: والآن..فكوا القيد عن يديها. استسلم الشرطة وهم يفكون قيدها، وبمجرد انتهائهم حتى ركضت بلانكا نحونا. وبسرعة وصلتْ إلى جانبنا وهي تضحك. تلفقها فيجو وأمسك يدها باليد اليسرى التي لا تمسك المسدس. صرخ رجل الشرطة: والآن اترك هذا الطفل! ابتسم فيجو بخبث: بالتأكيد! سأجعله يتوجه نحوكم الآن! ثم أوقفني على الأرض ودفعني دفعة بسيطة باتجاه الشرطة، وقفت في مكاني، لا أدري هل أتقدم نحوهم فعلا لتتم العميلة بسلام؟ أم أعود إلى أمي؟!! ولكن لم يكن هناك وقت كافٍ للتفكير، حيث سمعتُ همس فيجو يقول للرجال الأربعة خلفه: والآن.. علّموهم الدرس! وفي ثوان كانت المسدسات تطلق الرصاص الكثيف على أفراد الشرطة الذين لم يتوقعوا هذا الهجوم المفاجئ، ولم يأخذوا حذرهم منه، وتفجرت الدماء من أجسادهم بعد أن تمددوا على الأرض في مظهر أرعبني. اتسعتْ عيناي وأنا أرى رجال الشرطة الذين كانوا أحياءً قبل قليل، أمواتًا وجرحى مضرجين بالدماء، وعدد منهم يأن من الألم أو يصرخ، كنت لا أصدق ما أراه، هل يمكن لأي إنسان ما، أن يقتل مجموعة من البشر بهذه الطريقة دون أن يرمش له جفن؟ التفتًّ إلى فيجو الواقف خلفي بانهيار: ماذا فعلتَ؟ أيها المجرم!؟ كيف قتلتهم كلهم هكذا!!؟ قال فيجو بلهجة ساخرة: قتلناهم بالمسدس كما رأيتَ يا صغير. قلتُ بغضب: لا تهزء بي، هم لم يفعلوا شيئًا لبلانكا وسلموها لك، كان من المفترض أن تسلمني لهم وانتهى الأمر، لماذا هذه الخيانة أيها الغدار؟ ضحك فيجو باستمتاع قائلًا: هذا فقط لأنك غير معتاد على المنظر. اطمئن. هذا هو الطبيعي لدينا. ثم دفع بلانكا برفق وتقدم حتى وصل إلى ماتيو الذي كان مصابًا برصاصة في صدره، وأخرى في ذراعه وقدمه، قال فيجو بشماتة وهو ينظر إليه: هذا درس لك لتتعلم كيف تتحدى المافيا أيها الشرطي! كان الشرطي يبصق دمًا، ومن الواضح أنه ينازع بين الحياة والموت، لكنه قال ببغض شديد: أيها الوغد! ثم قال بصوت منبوح غاضب: أكان هذا الطفل.. منكم؟ أيها الخائن.. الغدار. قال فيجو ببراءة مصطنعة: كلا إنه ليس منا، تفاجئنا بوجوده في المكان بالفعل! لكن لا تقلق لن أقتله، فأنا لستُ مجرمًا لأقتل طفلًا صغيرًا. ثم ضحك ضحكة عالية وهو يعود أدراجه إلينا، كنت أنظر إلى فيجو بحقد وكره شديدين، لم أتصور أن المافيا بهذه البشاعة، إنهم سفاحون، لا يتورعون عن إزهاق أنفس الناس بلا حاجة. وقف فيجو أمامي ثم قال بعينين باردتين: لا تنظر إلي بهذه النظرة أيها الطفل. فقد رأيتَهم بنفسك وهم يطلقون علينا النيران، صح؟ قلتُ بانفعال: لكنهم لم يقتلونا! كانوا يطلقون الرصاص لتهديدنا وإخافتنا وحسب! قال ببساطة: لا يهم. المهم أن هدفهم كان إمساكنا وإذلالنا. ثم قال بشراسة: وهذا جزاءهم العادل لخطفهم بلانكا وتحديهم أحد زعماء المافيا. ثم مضى وتركني واقفًا. صُعقت من منطقه الظالم، وأغمضتُ عيني بألم لأنني لا أريد رؤية الجثث المضرجة بالدماء والجرحى الذين لا يزالون يتألمون، فكرتُ أن أستدعي الإسعاف، لعلها تنقذ أي نفس منهم، لكنني ليس معي هاتف! "نور.. كيف جئت معي إلى هنا؟" كانت هذه أمي تقف خلفي وتقول جملتها بصرامة، التفتتُ إليها في يأس وقلت: لا يهم يا أمي كيف جئتَ، المهم أن تستدعي الإسعاف حالًا لتنقذهم. نظرتْ بضيق إليّ قائلة: نور.. أجب عن سؤالي ولا تتهرب! لكنني اقتربت منها وأمسكتُ يديها برجاء: أرجوك يا أمي.. استدعي الإسعاف الآن! نظرتْ إلي بتوتر ثم نظرت حولها، ومن ثم انحنت على رأسي هامسة: نور.. لا يمكنني فعل هذا الآن، أرجوك لا تُحرجني أكثر من ذلك! رغمًا عني قلتُ بانهيار: أية إحراج، إنها أرواح ناس.. أغمضتْ أمي عينها بأسف لتخبرني أنها بالتأكيد لا يمكنها فعل ذلك، وهذا مفهوم، إن استدعت الإسعاف الآن فهذا يعتبر تحدٍ آخر للمافيا ولن يرحموها حينئذ. قلتُ بعزم: فهمتُ. إذن سأستدعيهم أنا. ثم خطفتُ هاتفها الذي كان موضوعًا في جيب بنطالها الخلفي بسرعة وتجاهلتُ شهقتها، وضربتً بسرعة رقم الإسعاف الذي أحفظه، ظهر على وجه أمي الارتياع، لكنها رغم ذلك لم تأخذ مني الهاتف، ونظرت حولنا مجددا باضطراب كأنها تطمئن ألا أحد من المافيا سيعرف ما نفعله. يبدو أن الأفراد المتبقية انشغلوا بجمع أسلحة الشرطة والضحك. هذا جيد. إنهم يوفرون لي الوقت كي أتصل بالإسعاف. "مرحبًا. أنا في الميناء رقم... أريد التبليغ عن حادثة إطلاق النار هنا، الكثير من الناس مصابون وجرحى، أرجو أن يأتي الإسعاف إلى هنا حالًا" ثم أغلقت الهاتف بسرعة وأنا أتنهد براحة، وعلا صدري بتوتر وأنا أتلفتت حولي و.... "ماذا تفعل أيها الطفل!؟" انتفضتُ برعب على صوت فيجو الغاضب من خلفي. |