معذرة ع التأخر فهرس رواية عيون لا ترحم رواية عيون لا ترحم [38]الموت بالسم! -1- [قمر] فوجئت أنني بمجرد طلبي من هيثم أن أقابل سامي، حتى أشار إلى أديرا قائلًا بدون اهتمام: رافقيها حتى المستشفى لتقابله. وإياك والتهاون أنت أو أمير! ثم نظر إلي ساخرًا: كوني ممتنة لهذا يا فتاتي، فسأسمح بلقائكما بعد كل ما فعلتموه ضدي! نظرتُ له بتوتر شديد، لماذا أشعر وكأنه يتصنع اللطف عمدًا ليجعلني أتقبل وجوده فحسب؟ لا بأس، سأستغل لطفه المصطنع لصالحي! سرتُ أنا وأديرا التي قادتني وهي تحدثني عن أمجاد السيد هيثم ولطفه الذي يشمل الجميع وحسن معاملته، تجاهلتها عامدة وركزتُ أنظاري عليها عندما جئنا للخروج من المبنى الذي كنا فيه، فبعد اجتيازنا قاعة الطعام كانت هناك ردهة واسعة بسلالم رخامية ممتدة حتى بوابة واسعة زجاجية تبين ما ورائها، عندما وصلنا إليها رفعت أديرا بطاقة ممغنطة مثل التي معي لكنها كانت بلون مختلف، أضاءت الشاشة بلون أزرق وفُتحت البوابة وسرنا في الشارع الهادئ المحفوف بالزرع والأشجار حتى مبنى المستشفى، ظلت أديرا تحدثني عن جمال المستشفى وتميز خدماتها الطبية التي تجعل كل أبناء جاليتها (الجالية الإسرائلية طبعًا) تأتي إلى العلاج فيها!! حبستُ أنفاسي عندما دخلنا المستشفى ومشينا في ممراتها التي كانت هادئة نسبيا، فلم يكن فيها الكثير من المرضى، وقفنا أخيرا أمام غرفة في الطابق الثاني، همت أديرا بطرق الباب لكننا فوجئنا بأحدهم يفتحه ويخرج، كان شابًّا في العشرين من عمره، بشعر مجعد، وملامح منزعجة، أغلق الباب خلفه ونظر إلى أديرا قائلًا: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ ونظر إلي ثم اتسعت ابتسامته قائلًا بخبث: أهي الفتاة التي حدثنا عنها السيد هيثم؟ قالت أديرا: نعم.. لقد أمرنا السيد هيثم بأن أجعلها تقابله! وأشارت إلى الغرفة قائلة بتحذير: وأنا سأذهب إلى الحمام قليلًا، لا تغفل عينك عنهما مهما كان الثمن! أومأ برأسه موافقا في ابتسامة ساخرة وأمسك بيدي، حاولتُ التملص من يده بقوة وأنا أشعر بغضب.. لكنه قال لي باستفزاز: ماذا؟ ألا تريدين رؤية سامي؟ عقدتُ حاجبي غاضبة وقلتُ: نعم! وما دخل هذا بأن تمسك بيدي؟! قال ضاحكًا: لا تقلقي.. سأترك يدك بمجرد دخول الغرفة! ذلك الحقير، هو يعلم أنني أريد لقاء سامي بشدة ولا يمكنني الاعتراض! سكتتُ بقهر وهو يفتح الباب ويدخلني خلفه، نظرتُ بلهفة إلى سامي الذي جلس على سرير أبيض يتوسط الغرفة، وهو يرتدي قميصًا وبنطالًا أزرقًا يبدو كأنه ملابس المرضى، ويشرد في منظر النافذة، لكنه انتبه لنا فورًا وظهرت علامات الدهشة والذهول على وجهه، الذي كان فيه بعض الكدمات وجرح في شفته، تركتُ يد ذلك الشاب واقتربتُ سريعًا وأنا أشعر بفرحة لرؤيتي وجه سامي في وسط هذا المكان الموحش. ودمعت عيناي منذرة بهطول الدموع وأنا أبتسم لـ سامي الذي نظر إلي مصعوقًا ثم هتف بقوة جعلتني أنتفض وأنا أقف أمامه: قمر.. ما الذي جاء بك إلى هنا؟! ارتعشت شفتيّ وأنا لا أدري كيف أجيب.. تذكرت آخر لحظاتي مع سامي حيث دفعني بقوة أمام الباب صارخًا في لكي أهرب! ويأتي ليجدني بكل بساطة في نفس المكان! قلتُ محاولة الشرح: لقد كانوا.. كان جاسم وكريم قد... لكنه صرخ بعصبية تعبر عن إحباطه: لماذا لم تهربي حينها؟! شعرتُ بعينيّ تذرف بغزارة وأنا أنظر إليه غير قادرة على الكلام، لا أدري كيف أشرح الأمر له؟ وأنا أعلم ضيقه الشديد مني الآن! تدخل أمير وهو يقول بإنزعاج: ألا تلاحظ أنك قاس أكثر من اللازم؟ إنها تبكي بالفعل! ثم قال بابتسامة مستفزة: على الأقل كن لطيفًا معها، فهي تظنك الجانب الوحيد الذي يمكنها أن تثق به! نظر سامي بعينين مخيفتين إلى أمير جعلته يبلع جملته ويشيح بوجهه، قال سامي بغضب: إياك أن تتدخل! سكت أمير وهو يتأفف في مكانه، وأخذ مجلسه على أريكة قريبة وهو ينظر إلينا متظاهرًا انشغاله في قراءة كتاب ما، أما أنا.. فقلتُ بأسى من بين شهقاتي: أنا .. آسفة يا سامي. لم أتمكن.. من الهرب منهم! لانت ملامح سامي أخيرًا وهو ينظر إلي بإشفاق ممزوج بالضيق، تنهد بحرارة وهو يقوم من مكانه، ويتوجه إلى النافذة بخطوات بطيئة، لاحظت أنه يعرج بشدة. شعرتُ بالقلق، لم يخبرني هيثم ماذا فعل فيه، لقد قال لي أنه علمه درسًا قاسيًا.. لقد ظننته أبرحه ضربًا ولهذا كان وجهه مليئًا بالكدمات، لكن هل أصابه في قدمه أيضًا؟! شعرتُ بالقلق وتوقفتُ عن البكاء وأنا أرى سامي يقف أمام النافذة ويعطيني ظهره، سألتُه بقلق بصوتي المنبوح: سامي.. أنت بخير؟ هل فعل هيثم فيك شيئًا؟ تجاهل سامي سؤالي وهو يزفر عدة زفرات تنبئ عن ضيقه وإحساسه بالاختناق، ثم قال بدون أن يلتفت: قمر.. اقتربي.. اقتربت بوجل، وتوقفت على مقربة من النافذة، وجدت صوته يهدأ أكثر وهو يقول : تعالي لتقفي أمام النافذة.. بصراحة .. أشعر بخوف من الاقتراب أكثر.. فسامي غاضب، ومحبط، ومنفعل جدا الآن! لكن.. السبب هو أنا في النهاية! لا يمكنني التذمر! اقتربتُ وأنا أحبس أنفاسي ووقفت على جانب النافذة مبتعدة عنه قدر الإمكان، فوجئت به يلتفت إلي بوجه باسم كعادته وإن كانت بسمته حزينة بعض الشيء: آسف لأنني انفعلتُ عليك. احمر وجهي وقلتُ بسرعة: لا.. أنا التي يجب علي الاعتذار. ثم قلتُ بكآبة: لقد خيبتُ أملك ولم أستطع الهرب! ابتسم ابتسامة عطوفة وهو يقول : أعلم أن الأمر لم يكن بيدك! لا تحزني لذلك! ابتسمت بامتنان والعبرة تخنقني، وحاولت تماسك دموعي ثانية.. وأنا أتذكر منظر عمي الدامي بعد الاصطدام .. هذا صحيح يا سامي، بالتأكيد لو كان الأمر بيدي لما استلسمت أبدًا لهم! شرد سامي مليًّا في السماء ثم قال بعد صمت: عندما أنظر إلى داخل الغرفة أشعر أنني سجين هنا، وأصاب بالاختناق. قاطعنا أمير وهو يقول بضحكة مستهزئة: لقد خاب أملي لشعورك هذا. تجاهله سامي تمامًا والتفت لي ثم قال لي بحزم: أخبريني يا قمر بالتفصيل إذن. ماذا حدث لكي تكوني هنا؟! ابتلعتُ غصة مريرة في حلقي، وبدأت أحكي له كل شيء! -2- [سامي] شعرتُ بصدمة مهولة عندما عرفت من قمر أنها كانت في طريقها مع عمها للصعيد، ولحقها كريم وجاسم! اتسعت عيناي برعب وأنا أنظر إليها وأتذكر.. سألتُها ببطء وحذر: قمر.. هل كنتِ تحملين معكِ.. السكين الصغيرة؟ ظهر على وجهها الأسف وهي تطرق برأسها مغمغمة: نعم. ولكن سامحني يا سامي. فقد رماها كريم بعيدًا عندما هاجمتُه بها! أغمضتُ عيني وقد ظهر على وجهي الهمّ والورطة، ومططتُ شفتيّ قائلًا بندم: تبًّا! لم يخطر في بالي أن يستخدمها هيثم لإيجادك! قالت باستغراب مرددة وهي تنظر لي بوجه حائر: يستخدمها؟ يستخدم ماذا؟ قلتُ لها بوجه مُتعب: ألم تفكري كيف استطاع الاثنان اللحاق بك؟ عقدت حاجبيها وهي تتذكر متسائلة بانتباه: بالفعل، لقد استغرب عمي كثيرًا من ذلك! نظرتُ بعيدًا عن وجهها وأنا أمسك برأسي الذي يؤلمني من إحساسي بالقهر والحسرة: لقد كانت تلك السكين الصغيرة تحوي جهاز تتبع! رفعت حاجبيها بذهول مرددة: ولكن.. كيف؟ إنها.. هدية منك! عضضتُ شفتيّ بألم وأنا أغمغم: نعم! فقد وضعتُ أداة التتبع بنفسي! اتسعت عيناها برعب وهي تنظر إليّ مصعوقة، ويبدو أنها فهمت من كلامي أنني تواطئت مع هيثم عليها، فقلت بسرعة مدافعًا: لقد كان هذا في البداية يا قمر، لم أكن أعلم عن هيثم تلك النوايا الحقيرة، وهو أقنعني أن معرفة مكانك باستمرار هو حماية لك من أي خطر، وكان كلامه منطقيا حينها.. لذا.. ولم أستطع إكمال جملتي وأنا أغمض عيني بإرهاق، ثم فتحتُ عيني هامسًا بشرود: اعذريني يا قمر، كل ما أنت فيه الآن هو بسببي أولًا وآخرًا..! هزت قمر رأسها نفيًا وهي تقول بوجه كئيب: كلا.. لا تلق اللوم على نفسك وحسب يا سامي.. وغمغمت بلهجة كسيرة: أنا أيضًا.. سبب رئيسي في كل ماحصل. كنتُ غبية! "يالها من لحظة مؤثرة للغاية! أهنئكما على إحساس كل منكما بالمسؤولية تجاه الآخر" كان هذا أمير يقف خلفنا ويقول تلك الجملة وهو يصفق بيديه ضاحكًا، التفتُّ إليه ببرود، والتفتت له قمر بتحفز واضح، ووجدت أديرا تفتح الباب قائلة: والآن قد انتهى وقت اللقاء هذا! وابتسمت ابتسامة سمجة موجهة كلامها إلى قمر: لقد غبتُ في الحمام لأعطيك وقتًا إضافيًّا! على الرغم أن السيد هيثم قد نبهني ألا يزيد لقائكما عن عشر دقائق، وها أنتما الآن قد أكملتما عشرين دقيقة فأكثر! همت قمر بأن تعترض طالبة المزيد من الوقت، لكنني نظرتُ لها بجمود مغمغمًا: قمر. اذهبي! التفتت إلي بوجه عليه ملامح الدهشة والحنق، فأكملتُ هامسًا: اذهبي الآن.. وسيكون لنا لقاء آخر! لا تقلقي.. وابتسمتُ لها وأنا أبث فيها الطمأنينة بقولي: إنها مسألة وقت لا غير، وسنخرج من هنا! أشرق وجهها أخيرًا لمقولتي، وهزت رأسها موافقة بأمل يظهر في عينيها، نظرت خلفها بتوتر، واحمرّ وجهها وهي تمد يدها إلى يدي تمسك بها وتضغط عليها بقوة وتقول: سامي. أنا سعيدة أنك موجود في نفس المكان الذي أنا فيه! اتسعت عيناي بدهشة وأنا أنظر إليها.. ثم قالت بوجه صبوح مع اخضرار عينيها الرماديتين: أشعر بأنني سأمتلك كثيرًا من الشجاعة بوجودك هنا.. ثم تركتني وابتعدت وأنا متفاجئ من فعلها، شعرتُ بإحراج أنها فعلت هذا أمام أمير وأديرا، وتوقعت أن أسمع تعليقا ساخرا من أمير كالعادة! وبالفعل، بمجرد خروجها حتى أطلق أمير تصفيرًا وهو يقول ضاحكًا: يبدو أننا سنشهد قصة حب جديدة في هذا المكان! تجاهلتُه تمامًا وأنا أتوجه لحمام الغرفة، وأغلق الباب، وأستند إليه بظهري ثم أبسط يدي لأنظر إلى قصاصة الورق الصغيرة التي دستها قمر في راحة يدي. ابتسمت بإعجاب وأنا أفتحها وأتأمل تلك الخريطة البدائية التي رسمتها قمر للمكان!! إنها تشاركني معلوماتها! كانت رسمت الطابق الأول بما يحتويه من صالة للطعام وأماكن أخرى مجهولة كتبت عليها بخطها الصغير: لم يتم الاكتشاف بعد. والطابق الثاني بغرف كثيرة كتبت على كل غرفة محتواها، حتى أنها حددت غرفة السيد هيثم أيضًا.. والطابق الثالث كان يحوي غرفتها وغرفًا أخرى للنوم. يبدو ألا أحد يسكن فيها. والطابق الرابع السطح. ابتسمتُ بحب وأنا أتأمل خطها الجميل.. قمر.. لماذا أشعر أن الله أرسلك إلي؟ -3- [ياسر] كنت أسير في ممرات المستشفى وعن يميني دانة وباسل، وعن يساري جوهرة وهي تحمل براءة الصغيرة، كنت أضحك لها وأقول لها: كيف حال الكلب جون يا براءة؟ ابتسمت بشدة وهي تقلد صوته: هو هو هو، ضحكت على تقليدها الطفولي واندمجت معها في أثناء نزولنا في المصعد، كانت براءة مستمتعة كثيرًا باللعب وأنا كذلك، حيث كنت أختبأ وراء ظهر أمها وأظهر لها فجأة لتطلق ضحكة عالية مضحكة.. وقفت في مكتب الاستقبال أنهي إجراءات خروجي من المستشفى، حيث مرت ثلاثة أيام منذ دخلتُ هنا، وها قد أتت أسرتي كاملة لاصطحابي إلى المنزل.. كنت سعيدًا جدا بهم، وحاولتُ تعويضهم عن تلك الأوقات المملة التي ظلوا فيها بانتظاري يجلسون في المستشفى.. على الرغم من أنني طلبتُ من جوهرة إعادتهم إلى المنزل، لكن باسل ودانة كانا يرفضان بإصرار غريب.. تذكرتُ تنبيهات الطبيب الأخيرة لي بألا أجهد نفسي على الأقل لمدة أسبوعين كاملين، صحيح أنني تحسنتُ تمامًا بفضل الله، لكن سيظل جسدي مرهقًا لفترة ويحتاج للراحة.. ابتسمت ساخرًا: أسبوعان كاملان؟ وهل ستتحمل قمر هذه المدة؟! تنهدتُ بهمّ وأنا أحاول إخفاء ملامح الحزن عن وجهي، همست جوهرة: ياسر.. أنت بخير؟ قلتُ لها سريعًا: آه. نعم. لا تقلقي.. قالت بلوم: هل أنت قلق على قمر؟ لا تقلق، فقد بلغنا الشرطة منذ الأمس بمواصفاتها، وقد بلغوا كل فروع الشرطة وكل أفراد الشرطة بأوامر البحث عنها.. قلتُ ببطء: لا أظن أنهم سيجدونها بهذه السهولة. قالت مدافعة: بل سيفعلون إن شاء الله، خاصة بعد تلك المكافأة الضخمة التي وضعناها لمن يجدها.. كانت جوهرة تحاول إقناعي، أو أنها مقتنعة بالفعل أن الأمر على ما يرام. لكن قلبي كان يسبح في بحر من القلق والخوف منذ البارحة.. وجدت دانة تهز ملابسي قائلة بمرح: أبي.. لنتسابق حتى بوابة المستشفى.. فالمسافة كبيرة! قالت جوهرة بتوبيخ: دانة.. ماذا تقولين؟ والدك خرج لتوه من المستشفى.. لا يمكنه فعل ذلك! لكنني قلت لجوهرة مازحًا: لا بأس.. سأعتبرها تحمية لجسدي بعد أيام المرض تلك! وتركتُها وهي تهتف بقلق: كلا.. ياسر! وتسابقت بالفعل مع دانة التي ظلت تضحك بجنون عندما فازت عليّ، انضم لنا باسل راكضًا وتسابق هو ودانة مرة ثانية ولكنه فاز عليها.. وصلنا إلى موقف السيارات ونحن نضحك، وجدت العم سعد أمام السيارة يهنئني على السلامة، فشكرته بامتنان، وتركتُ الأطفال يركبون أولًا، وبعد أن ركبت جوهرة أيضًا.. نظرت لهم من نافذة السيارة مخاطبًا العم سعد : أنا آسف يا عم سعد لكن هل يمكنك أن توصلهم للبيت بدوني؟ هتفت جوهرة باعتراض: وإلى أين ستذهب يا ياسر؟! ألن تعود معنا؟ قلت مبتسمًا: لا تقلقي.. باسم مدير أعمالي سيأتي لاصطحابي الآن، فهناك بعض الأعمال العاجلة التي تتطلب تدخلي، وسيعديني إلى المنزل بعد ساعة واحدة.. لن أتأخر! انطلقت من حنجرة جوهرة عبارات الاعتراض، ودانة وباسل أيضًا كانا ينظران لي بلوم أنني لن أذهب معهم، وكذلك براءة بدأت بالبكاء. نظرت لهم مشفقًا وأشرتُ للعم سعد فتحرك بالسيارة سريعًا ورفعت يدي لهم أودعهم.. وبمجرد اختفائهم من أمامي حتى ذهبتُ سريعًا إلى تلك السيارة التي كانت تركن على بعد خطوات، ركبتُ فيها دون أن أنظر إلى سائقها وقلتُ بابتسامة: شكرًا يا باسم على انتظارك.. قال باسم بهدوء وهو يحرك السيارة: لم أفعل شيئًا يُذكر. نظرتُ لوجهه بجدية وأنا أقول: والآن.. هل فعلتَ ما طلبتُه منك؟ التفت بوجهه إلي قائلًا بعينين جادتين: نعم.. كل أعضاء المنظمة مستعدون للاجتماع الآن! -4- [نور] عندما امتدت يد الشرطي إلى حقيبتي ليتفقدها بعد أن فتحها فيجو، ظل يقلب فيها بتعجل وتوتر، لعدة دقائق، وتفصد العرق على جبينه، فخاطبه فيجو بلهجة غاضبة: والآن.. أين هذه المخدرات التي تدعيّها؟! والتي بسببها هجم كلبكم على هذا الطفل؟! نظر الشرطي بوجه متوتر إليه، في حين همس رفيقه إليه وهو يتمعن في وجه فيجو وتمتم برعب: انتظر.. هذا الرجل ذو الوشوم على ذراعيه.. إنه.. وعلى الفور ظهر التأدب الشديد على وجهيهما، ووقفا باحترام قائلين باضطراب: نعتذر على هذا يا سيدي! يبدو أن الكلب.. قد أخطأ لكبر سنه.. وهجم على الشخص الخطأ! وأكمل الثاني مستطردًا بأدب: سنعوضكم عن هجوم الكلب.. ابتسم فيجو بخبث قائلًا: إذن.. سأطلب عشرة آلاف يورو كتعويض! ظهر على وجه الشرطيين الذهول وهم أحدهما بالاعتراض فلكزه الآخر في مرفقه بعنف، فأغمض الأول عينيه قائلًا بتلعثم: ولكن هذا .. فوق طاقتنا.. نظر فيجو بملل قائلًا: فهمتُ. إذن علي رفع هذا للقضاء لأخذ تعويض مناسب منكم.. اتسعت عينا الشرطي بخوف وغمغم: كلا.. لا حاجة لهذا بالطبع! فنظر له فيجو مستفسرًا، فقال الثاني باستسلام وخضوع مذعورًا: سنعطيك ما تطلبه يا سيدي! اتسعت ابتسامة فيجو حتى تحولت إلى ضحكة عالية، وظهر على وجهه الاستمتاع وهو يرى الشرطيان يرتجفان أمامه خوفًا.. فاقترب هامسًا: كلا.. سأعفو عنكم هذه المرة! ولكن تذكروا جميلي عليكم جيدًّا.. فربما لن أستطيع تكراره معكم ثانية! كنتُ أراقب الموقف بنصف تركيز وذهن مشوش من أثر ألم عضة الكلب، قمتُ جالسًا بصعوبة بعد أن هدأتُ قليلًا ونظرتُ إلى ذراعي التي نهش الكلب لحمها والدم يسيل منها حتى أغرق كمي. عندما رأيت المنظر شعرتُ بها تؤلمني أكثر وضغطتُ على أسناني بوجع شديد، تبًّا لك يا فيجو الوغد! جفلتُ عندما نظر إلي فيجو نظرات ساخرة، وكأنه شعر بغضبي منه، فأشار للشرطيين قائلًا بضجر: والآن اغربوا عن وجهي.. فعضة الكلب على هذا الطفل تحتاج علاجًا سريعًا وسأكون مشغولًا الآن! قال أحد الشرطيين بصوت مرتعش: هل نطلب الإسعاف يا سيدي؟ نظر له فيجو بطرف عينه قائلًا بصوت مخيف: لا.. اغربوا عن وجهي قبل أن أغضب منكم بجدية! اضطرب الشرطيان وهما يؤديان التحية ويركضان سريعًا. وفيجو يراقبهم وفي وجهه ضحكة ساخرة لم يطلقها. التفت إليّ مبتسمًا بزهو وجلس أمامي مقرفصًا وقال: ما رأيك يا نور.. لقد أنقذتك مرتين! أنقذت حياتك.. ومستقبلك أيضًا! كنتُ متضايقًا من الألم، وشعرتُ بغضب بالغ من ادعائه الكاذب وأنا أتمتم: بل أنت السبب في كل شيء! وقلتُ بحدة: لماذا لم تخبرني أن هناك كلبًا؟ ابتسم قائلًا باستفزاز: إذا قلتُ لك أنني لم أكن أعلم ذلك هل ستصدقني؟ فيبدو أنهم وضعوا الكلب حديثًا. عقدتُ حاجبيّ بحنق وقلتُ: كان بإمكانك التأكد من معلوماتك! لكنك.. ضحيت بي في أول لحظة! قال مباشرة بلهجة صادقة: آسف! وعلى الرغم من دهشتي لأسفه، لكن الغضب في داخلي تراكم وشعرتُ باختناق وصوتي يتهدج وأنا أقول بألم: ولا أريد العمل معكم ثانية! هل تفهم؟ ابتسم فيجو قائلًا بهدوء: لا بأس.. شعرتُ بالدهشة لكلماته الرقيقة! ولكنني أكملتُ بغضب: ولا أريد أن أرى وجهك القذر مجددا أمامي أو أمام أمي! اتسعت ابتسامة فيجو وهو يقترب مني بشكل أثار ارتباكي، وهمس في أذني قائلًا: كلا يا صغيري. أنصحك بألا تثير غضبي الآن! فأنا سعيد حاليا بنجاح المهمة.. وسأعفو عن كلامك الحاد تجاهي، مراعاة لإصابتك أيضًا. وغمز لي بعينيه وهو يشير إلى ذلك الكيس الذي سرقه من حقيبتي قبل وصول الشرطة ووضعه في معطفه، ثم همس لي بصوت جعل جسدي يرتجف: أما إذا واصلت الكلام بهذا الأسلوب معي، فستكون رأسك هي الهدف التالي لرصاص مسدسي. مفهوم؟ -5- [قمر] نمتُ على سريري وأنا أبتسم بتوتر.. ورفعتُ راحة يدي أتأملها وأنا أتذكر لحظة وضع يدي في يد سامي.. لم أكن أتوقع من نفسي أن أصنع هذا، لكنني قررتُ في اللحظة الأخيرة! لقد كانت تلك الورقة خريطة مبدئية رسمتُها لنفسي وأنا في المكتبة.. لم أكن أعلم أن سامي موجود هنا بعد. لكن عندما رأيتُه أمامي شعرتُ برغبتي القوية بمساعدته! لقد بدا سامي مرهقا جدا ومتعبًا.. وبالتأكيد سيحمل همي أكثر بعد لقائنا، لا أريد لسامي أن يظل حاملا لهمي بهذا الشكل، لابد أنه يلوم نفسه في كل ثانية على أنه كان سببًا في دخولي منظمة هيثم.. قررتُ إعطائه تلك الخريطة لأوصل له رسالة "سنبذل كل ما وسعنا للهرب".. فقد بدا لي سامي كئيبًا جدا! وقد زاد همه عندما رآني وعرف ما حصل معي. وبما أن سامي يتعافى الآن، لن نستطيع الهرب في الوقت الحالي.. لكن يمكننا جمع المعلومات، لكي نهرب في اللحظة المناسبة وبخطة تضمن لنا خروجنا من هنا بدون أي خسائر.. ابتسمتُ بحماسة شديدة لنفسي، أظن أن جمع المعلومات سيكون مهمتي أنا! نظرًا لموقعي وحريتي -نسبيا- في هذا المكان. وبالتأكيد الرقابة على سامي ستكون أكثر مني! نظرتُ إلى أديرا النائمة على الأريكة التي في غرفتي، كانت تبدو نائمة بعمق، فلم تنم منذ الساعة السابعة صباحًا.. إنها مطمئنة أنها أغلقت الباب بمفتاح خاص، تحمله معها هي، وإذا حاولتُ أخذها منها وهي نائمة، سيصدر هاتفها إنذارًا عاليا يصل إلى حرس المبنى. عقدتُ حاجبيّ بحنق، فقد كنت أنوي استكشاف المكان أكثر وهي نائمة بتلك البطاقة الممغنطة التي معي.. أو حتى أسرق بطاقتها الممغنطة (التي تفتح البوابة الخارجية)..! لكنني لا أريد فعل شيء الآن يجذب أنظار الجميع إلي فأجعلهم يشددون الرقابة علي أكثر، وبهذه الطريقة سنفقد فرصتنا في جمع المعلومات وبالتالي الهرب.. تنهدتُ وأنا أنظر إلى النافذة.. وإلى السماء المزينة بالنجوم، صدقت يا سامي. السماء هي الشيء الوحيد الذي يجعلني أشعر بالحرية عند النظر إليه! ربما لأن السماء واحدة في كل البلاد! ربما لأنني أتخيل عمي مثلا ينظر إلى نفس السماء الآن.. فأشعر برابط ما يجمعني به؟! وبالتالي أشعر بالحرية إلى حد ما! ولهذا السبب أيضًا، سجون العالم لا ينظر سجنائها إلى السماء كما يشاؤون! في العادة تكون السجون تحت الأرض، بشكل يقطع صلة المسجون تماما بالسماء.. ولا يراها إلا نادرًا.. وهذا بالتأكيد سيزيد من شعوره بالاختناق، قمتُ من سريري وأنا أفتح النافذة لأستنق بعض الهواء.. لا أشعر بأي حاجة للنوم الآن، فقد نمتُ حتى الساعة الخامسة عصرًا.. والآن هي الساعة الثانيةعشر ليلًا. وأشعر بنشاط في جسمي يجعلني قادرة على السهر الليل كله. نظرتُ بملل إلى أديرا النائمة على الأريكة، وعدتُ أنظر مجددا إلى السماء. ثم اقتربتُ أكثر من النافذة وأنا أتذكر، الغرف التي في الطابق الثاني، نظرتُ من النافذة وأخرجتُ رأسي منها لأرى النوافذ لكل غرفة.. نافذة المكتبة، نافذة غرفة الألعاب.. تتبعتُ بنظري نافذة تلو الأخرى، أذاكرها في رأسي، فبعد أن سلمتُ الخريطة المبدئية ل سامي، يجب أن أحفظ المكان في رأسي لكي أتذكره أنا أيضًا بشكل دائم. تذكرتُ شيئًا.. مكتب السيد هيثم في الطابق الثاني أيضًا!! تذكرته وهو يشير إليه بيده، وركزتُ النظر حتى تأكدتُ من كون نافذته هي النافذة التي تقع قريبًا من نافذة غرفتي!! فتحتُ فمي بدهشة وأنا أنظر لتلك المسافة القريبة.. لقد كانت نافذة مكتبه تبعد عن نافذة غرفتي بنافذتين فقط لا غير! لمعت عيناي بشدة وأنا أشعر برغبة قوية في النزول إليها واقتحامها! هذه فرصتي المثالية لاكتشاف كل شيء! وإذا كان هدفي جمع المعلومات، فأظن أن مكتب السيد هيثم هي المكان المثالي لذلك! ابتلعت ريقي باضطراب وأنا أشعر بأن قلبي قد بدأ ينبض بشدة، غرفة مكتبه تبدو مظلمة تمامًا الآن مما يدل أنه ليس موجودًا فيها، وفي وسط ظلمة الليل.. لا أحد سينتبه إلى جسدي إذا انزلقتُ بسرعة إليها! ولن تستيقظ أديرا الآن على ما يبدو، فهي تبدو متعبة جدا. أخذت بضعة أنفاس قوية لأسيطر على قلقي وتوتري، وهمستُ: يارب.. وعزمتُ أمري على التحرك بسرعة لكي لا أترك أي فرصة للتردد! وقفزتُ ببطء وحذر دون أن أصدر أي صوت وتسلقتُ النافذة، لأنزل إحدى قدميّ على حافتها العريضة، مشيتُ بتؤدة ومهل حتى وصلتُ إلى النافذة المجاورة لغرفتي، كنت آخذ أنفاسي بصعوبة شديدة بسبب التوتر.. وأنظر بحذر إلى أسفل مني، كانت البوابة البعيدة عند السور لا يقف أمامها الكثير من الجنود مثل الصباح.. يبدو أن عددهم يقل في الليل! وهذه معلومة مفيدة! ابتلعتُ ريقي ببطء وأنا أخطو خطواتي على الحافة للنافذة التالية، كنت أقفز قفزات بسيطة بين كل حافة والأخرى وأنا أضع يدي على قلبي.. إذا سقطت من مثل هذا الارتفاع لن أموت، لكن سيتكسر جسدي حتمًا! وصلتُ فوق النافذة المنشودة! نزلتُ بحذر حتى وضعتُ قدمي على حافتها.. وأخذتُ عدة أنفاس مسموعة قبل أن أقدم على خطوة فتح النافذة، هل سأكسرها؟ بالطبع لا! فلا أريد جذب الأنظار! لكن كان هناك مزلاج من الداخل، خلعتُ دبوس الشعر الذي أخذته من التسريحة الموجودة في غرفتي.. وأدخلته من تحت النافذة لأعالج المزلاج الداخلي بحذر.. مكثت وقتًا عصيبًا وأنا أشعر بأن المهمة قد أصبحت مستحيلة.. حيث كان المزلاج حديدًا ومن الصعب فتحه من الخارج بدبوس شعر! لكنني استطعتُ إضعافه إلى حد ما.. ومع ذلك لم أتمكن من فتحه! ضغطت بقدمي عليه بقوة لأفتحه بقوة الضغط، وأدميت شفتيّ وأنا أجمع كل قوتي في قدمي.. على الرغم من أن جرح قدمي كان بدأ بالأنين! فُتحت النافذة قليلًا ولكن المزلاج لا زال يغلقها، كان الحل هو وضع قدمي في تلك الفتحة وترك جسدي يمثل ضغطًا على النافذة.. انحشرت قدمي في الداخل وشعرتُ بورطة كبرى! وفوجئت بأقدام أحدهم على الأرض وبصوت بعيد يصرخ: هناك شخص ما يحاول اقتحام المبنى من الخارج.. وبدأت الضجة خلفي بين الجنود الذين ركضوا سريعًا ليقف بعضهم خلفي ويصوبون أسلحتهم نحوي محذرين: استسلم حالًا! الخوف الشديد داخلي جعلني أضرب النافذة برأسي ليتكسر زجاجها ويُدمي جبهتي بشدة، ثم أفتح المزلاج بيدي وأنا لا أهتم بأي زجاج قد تناثر على وجهي أو جسمي.. ورميتُ جسدي داخل غرفة المكتب بكل قوة، وجدتُ بعض طلقات رصاصات الجنود تطيش في الهواء عند النافذة، على الرغم من ذلك الموقف المرعب بالنسبة إليّ، وفشلي الشديد في ألا ألفت إلي الأنظار.. إلا أنني وقفت سريعًا لكي أفتح ضوء الغرفة وأنزل الستائر بذعر على أمل أنهم لن يستطيعوا الإطلاق علي من خلف الستائر.. ولن يعرفوا مكاني. واضطربتُ وأنا أتوجه إلى مكتب ضخم يتوسط الغرفة وحوله عدة كراسٍ جلدية فخمة، لقد اكتشفوني، ولا ريب أنني سأجدهم بعد قليل هنا، لذا علي الأقل سرقة أي معلومات تجعلني أشعر أن الموضوع خرج بأي فائدة! لهثتُ بقوة وأنا أردد بجزع: من أين أبدأ! ومسكتُ أول درج من المكتب بتلقائية، والذي كان فيه فتحة مفتاح ما، توقعتُ أنه مغلق، لكن لشدة دهشتي قد فُتح بسهولة عندما أمسكتُ المقبض وسحبتُه.. شعرتُ بشيء حاد ينغرس في أصابعي، أغمضت عيني بألم وأنا أبعد يدي فورًا عن ذلك الدرج الذي فوجئت بكونه فارغًا.. ونظرتُ إلى راحة يدي حيث انغرست إبرة فيها، دققتُ النظر إلى مقبض الدرج لأجد فيه فتحة تتسع لتلك الإبرة يبدو أنها انطلقت منها.. تباطئت أنفاسي وأنا أنظر لمنظر الدرج الفارغ.. والإبرة المغروسة في راحة يدي! أهو فخ؟! انتفض جسدي في تلك اللحظة رعبًا عندما فوجئت بالباب يُفتح بعنف على يد جندي اقتحم الغرفة وهو يمسك جهازًا لا سلكيا في يده ويقول: المقتحم الآن في مكتبك يا سيدي.. إنها تلك الفتاة التي وصلت البارحة! وجه إلي سلاحه بجمود وهو يقول: هل نقتلها؟ وابتسم بخبث عندما رأى وجهي المذهول وراحة يدي المغروس فيها الإبرة، وقال: أم ننتظر حتى يقضي السم عليها؟ فقد وقعت تلك الحمقاء في أول فخ من فخاخ مكتبك يا سيدي! --- كالعادة أريد فقط سماع توقعاتكم ^^ وبالطبع رأيكم في الأحداث.. . . |