فهرس رواية عيون لا ترحم رواية عيون لا ترحم [35] الهروب! -1- [ياسر] جلستُ ثلاثة ساعات في مكتبي أعمل وأنجز بعض الملفات المهمة التي طلب مني باسم إنهائها اليوم، ولم تأتِ قمر حتى الآن! لاشك أنها متعبة جدا.. ابتسمتُ برضا وأنا أشعر لأول مرة بنظراتها الخالية من الكره تجاهي، يبدو أنها عرفت أنني كنت صادقًا واقتنعت بي أخيرًا. لكنني أشعر بفضول شديد في معرفة ما حصل مع هيثم ليجعلها تتغير نحوي بتلك الطريقة! تثائبتُ بنعاس وأنا أفرد ظهري على الكرسي بكسل، هل يمكنني الذهاب للنوم الآن؟ فيبدو أن قمر لن تستيقظ إلا فجرًا! في ذات الوقت طُرق الباب طرقات ضعيفة، تأهبتُ وأنا أقول: تفضلي. لتدخل قمر بذلك الوجه الباسم على الرغم من جفنيها المنتفخان، وذلك الشحوب الظاهر على وجهها، قمت واقفًا وقلتُ بترحيب: أهلًا. كيف حال رأسك الآن؟ دخلتْ إلى الغرفة وأغلقت الباب خلفها، تأملتُ ذلك الفستان الأسود الذي ارتدته، كان فستانًا قطنيًّا طويلا بلا أكمام ينزل بكشكشة إلى ركبتيها وترتدي تحته بنطالا رماديًّا، جاءت وجلست أمامي وقالت بصوتها الهادئ: أنا بخير الآن. ثم نظرتْ إلي بملامحٍ جامدة وهي تقول: أريدك.. أن تستمع لي جيدًّا يا عمي. جلستُ وأنا أقول بإعجاب: بالتأكيد. تفضلي. لكنها قالت أول جملة جعلتني أصاب بالفزع، حيث نظرت لي باهتمام قائلة بلهجة مشفقة: عمي.. أنت.. لم تكن القاتل الذي قتل أبي! عقدتُ حاجبي بشدة والذهول يسيطر على وجهي، وقلتُ مازحًا: ماذا.. تقولين يا قمر؟ هل تحاولين مجاملتي؟ قالت بجدية: بل هذه هي الحقيقة! ثم ابتسمتْ ابتسامة متألمة وهي تقول: أنت لم تقتل أبي، لقد تنكر هيثم بهيئتك وقام بذلك، ولدي كل الأدلة على ما أقول! انفرجت شفتاي بذهول وصدمة وتراجعتُ في كرسيّ وأنا أتأمل ملامح قمر الجادة التي تدل على صدقها بشكل قاطع! نظرتُ لها مصدومًا وقلتُ بصوت منهارٍ: مهلًا .. يبدو أنك تحاولين معرفة إذا كنتُ نادمًا حقا على قتل أخي أم لا.. ثم قلتُ لها بأسى: ولكنني حقا.. لقد قتلتُه بيديّ! قالت بغضب: أنت لم تقتله، لا تحاول أن تتخيل أشياءً لم تحدث لتعبر لي أنك نادم! هذا ما كان يريدك هيثم أن تعتقده! جفلتُ وأنا أنظر إلى ملامحها الحادة، فقلتُ بحيرة: ولكن كيف.. لقد كانت كل الدلائل تدل عليّ! ونظرتُ إليها قائلًا: وأنت أول دليل.. فقد رأيتِني وأنا أفعل ذلك! قالت بقوة: لم تكن أنت، لقد كان هيثم متنكرًا بهيئتك، وقد خدعني أيضًا لأنني كنت طفلة! بالتأكيد سأظن أنك القاتل ولن يخطر على بالي أنه متنكر بهيئتك. ترددتُ وأنا أنظر لها بعينين متسعتين وأقول بذهول: أتعنين. أنني.. أنني لم أقتل أخي؟! قالتْ بصوت متأثر: نعم! علت أنفاسي وأنا أنظر غير مصدق ثم قلتُ: مهلًا.. لكن كيف عرفتِ ذلك يا قمر؟ أشاحت بعينيها قائلة: لقد ذهبت لإستجواب الدكتور سالم صديقك الذي كنت تسهر معه دومًا في الحانة! قلتُ متفاجئًا: لوحدك؟! قالتْ بتوتر صريح: لا، مع عبيدة. إنه ولد عصابة. لقد استأجرته ليقوم بهذا العمل معي. رفعتُ حاجبيّ بشك قائلًا: وماذا قال الدكتور سالم؟ قالت باستسلام: لقد قال أنه شرب معك بالفعل يومها وأنك أصبحت سكرانًا. وبعدها أخذك هيثم لشقته، وأخبرنا باسم الحانة التي شربتما فيها. فذهبنا إليها وراجعنا الكاميرات في ذلك اليوم. صدمت من مدى جرأتها وشجاعتها على القيام بكل ذلك في عمرها الصغير ذاك، فقلتُ باهتمام شديد: أكملي. قالتْ: لقد شاهدت الكاميرا التي تظهر ذلك بالفعل، هيثم لم يشرب ولو رشفة واحدة من الخمر. في حين أنك يا عمي قد شربت حتى الثمالة ونمت على الطاولة. بعدها أخذك هيثم بالفعل إلى شقته! سكتتُ لثوان قبل أن أقول باعتراض: ولكن هذا لا يعني أن هيثم من تنكر بشكلي. فربما ذهبتُ وقتلتُ أخي وأنا سكران بالفعل! عقدت حاجبيها وقالت بثبات: هناك دليل قاطع على ذلك. فقد تم تسجيل فيديو للجريمة يا عمي وقد رأيتُه! قلتُ متفاجئًا: تقصدين فيديو للجريمة نفسها؟ كيف حصلت على فيديو كهذا؟ وتذكرت الكاميرات التي اختفت من مسرح الجريمة، قلتُ لها بحدة: أيكون الفيديو مع هيثم؟! قالتْ وهي تطرق برأسها: نعم.. لقد كان هيثم يملك ذلك الفيديو، وقد أخفى منه الصوت وأراني إياه لكي يؤكد لي أنك فعلتَ الجريمة. لكنني اقتحمتُ مكتبه اليوم ورأيت الفيديو وسمعتُ صوته الحقيقي. ثم قالت بحزن شاردة: لقد عرف أبي رحمه الله على الفور أن الذي جاءه ليس أنت وكشف تنكر هيثم! شعرتُ وأن صاعقة نزلت عليّ، فقد ظللتُ أنظر لها مبهوتًا ثم قلتُ بحذر: أنتِ.. اقتحمتِ.. مكتب هيثم؟ قالت بهدوء لا يناسب الموقف: نعم. قلتُ: وهل اكتشفك هيثم أو سامي؟ قالت بتأكيد: نعم! قمتُ واقفا قائلًا بانفعال: ولماذا لم تخبريني منذ البداية؟! قالت بسرعة بلهجة خائفة من انفعالي: سامي في صفي.. وقد حاول أن يدافع عني ضد هيثم. ثم قالتْ بتوتر: وهيثم كان يريد أن يأخذني معه إلى منزله! وسامي ساعدني في الهرب منه. لكن لا أدري ماذا حصل له! عقدتُ حاجبيّ بغضب هاتفًا: ولماذا تقولين هذا الآن؟ لماذا لم تقولي هذا منذ البداية؟ زاد توترها وهي تنظر إلي قائلة ببراءة: ولكنني نجحتُ في الهرب بالفعل وجئتُ إلى هنا. ولم أجد خلفي أي أحد يتبعني. ألا يُعتبر المنزل هنا أمانًا؟ شعرتُ بغضب في داخلي من سذاجتها، لكنني تماسكتُ وأنا أضغط على أسناني قائلًا: كلا. فهيثم يعرف مكاننا طبعًا! سكتت قمر باضطراب وهي تنظر إليّ وأنا واقف وقد أمسكتُ رأسي بهمّ وأنا أتنهد، نظرتُ إليها بحسم قائلًا: اجمعي ملابسك في حقيبة صغيرة وتعالي. قالتْ بدهشة: إلى أين؟ قلتُ بهدوء ظاهري يخفي انفعالي: سنذهب عند عمتي صفية التي تسكن في الصعيد. لقد ذهبنا إليها السنة الماضية في الشتاء. أتذكرينها؟ هذا أفضل خيار كي لا يستطيع هيثم معرفة مكانك. أومأت برأسها في إيجاب وهي تقول بحيرة: لكن.. هل سنتحرك الآن؟! قلتُ لها بجدية: نعم! فلا يوجد أمان هنا. قالتْ برجاء: ألا يمكن أن نتحرك صباحًا؟ أليس هذا أفضل؟ فلا أريد الذهاب لأسرة العمة ونحن لم ننم بعد! قلتُ مهونًا: سننام هناك! لكن قمر ظهر على وجهها الاضطراب قائلة: لا أستطيع النوم بسهولة في مكان مختلف عن غرفتي. شعرتُ بهمّ إقناعها وترددتُ، هل الأمر يستحق فعلا أن أضغط على نفسي وعليها ونسافر الآن؟! لا يبدو الأمر منطقيًّا! فهيثم في النهاية لن يأتي بهذه السرعة لأخذ قمر.. ربما لن يأتي أصلًا. أو ربما سيفكر في الأمر عندما تكبر قمر قليلًا.. فلن يستفيد منها الآن.. قلتُ لها على مضض: حسنًا.. ظهرت الراحة على وجه قمر وهي تقول: حسنًا. هل سنتحرك بعد الفجر؟ ربما من الأفضل أن نتحرك في الساعة السادسة صباحًا بعد الفجر. قلتُ لها باستسلام: لا بأس! فابتسمت برضا وهي تخرج من الغرفة مغمغمة: سأجهز أشيائي من الآن! جلستُ على الكرسي بهدوء بعد خروجها، وأنا أفكر.. شعرتُ بقبضة باردة تعتصر قلبي، وتخيلتُ هيثم سيأتي ويختطفها من غرفتها.. قبل طلوع الفجر! هو لن يسكت حتمًا إن كانت قمر بالفعل اقتحمت غرفة مكتبه ورأت الفيديو الذي يدل على جريمته! بل وهربت منه! هو ليس شخصًا متسامحًا لهذه الدرجة. يا ترى متى سيتحرك؟ أهناك أي ضمان أنه لن يتحرك إلا صباحًا مثلًا؟؟ القلق أثقل أنفاسي وشعرتُ بصعوبة التنفس، وعندها لم أستطع الانتظار.. قمتُ وخرجتُ من غرفة مكتبي بسرعة وصعدتُ إلى غرفة قمر، طرقتُ الباب ولم أنتظر حتى ردها ودخلتُ.. كانت تهمّ بالاستلقاء على سريرها، نظرتْ إلي بدهشة واستغراب، فقلتُ لها بصوت مهموم: أنا آسف يا قمر، لن أستطيع الجلوس في هذا المنزل دقيقة واحدة وأنا أعلم أن هيثم سيلحق بك. نظرتْ إليّ بحيرة وعدم فهم، قلتُ لها بصرامة هذه المرة: اجمعي أشيائك المهمة في حقيبة وسنرحل الآن! فهمتِ؟ سكتت لعدة ثوان مترددة فقلتُ لها برفق: أرجوك يا قمر. وافقيني على هذا الطلب فقط وسأوافق بعد ذلك على كل طلباتك القادمة إذا لم يكن فيها خطر عليك. كنتُ قد قررت داخل نفسي، أن قمر إذا لم توافق، فسأفقدها وعيها الآن وسآخذها غصبًا. فلا حل آخر أمامي! لكنها قالتْ بصوت مُرهق: حاضر. سأجهز حقيبتي. ابتسمتُ بامتنان: شكرًا لتفهمك. سأذهب لأجهز نفسي أنا أيضًا. لا تتأخري. نريد أن نتحرك في خلال نصف ساعة على أقصى تقدير. -2- [جوهرة] كنتُ أمشط شعري أمام المرأة وأضع بعض العطر ، وابتسمت برضا عن شكلي النهائي أمام المرآة، فبعد معاناتي مع براءة التي تطلب مئة قصة قبل النوم، كان يبدو شكلي مرهقًا جدا وشعرتُ بأنني على وشك الانفجار، ففكرتُ بأنني يجب أن أعدل شكلي قليلًا قبل صعود ياسر. اليوم هو أول يوم ياسر يعود فيه إلى عمله بعد إجازته بسبب الإصابة فأنا سعيدة بتعافيه. يبدو أنه متحمس اليوم للعودة لعمله فقد خرج باكرًا وحتى عندما عاد إلى المنزل ظل في مكتبه وقال أن لديه الكثير من العمل.. لكن الآن الساعة تقارب الثانية عشر ليلًا، لذا سأنزل إليه وأطلب منه أن يصعد للراحة.. فمهما كان العمل متراكمًا عليه لا ينبغي له أن أن يُجهد نفسه هكذا! قمتُ وأنا أهم بالنزول إليه، لكن الباب فُتح فجأة ووجدت ياسر يدخل باندفاع، هممتُ أن أبتسم قائلة: لتوّي كنت سأنزل إليك.. لكن سرعته في التوجه إلى خزانة الملابس وهو يفتحها أثارت فزعي فقلتُ بقلق: ياسر، أهناك شيء؟ أخرج من الخزانة حقيبته السوداء وهو يضع فيها بعض أدواته وبعضًا من ملابسه وقال بلهجة مستعجلة: لا تقلقي. سأذهب فقط في سفرية سريعة عاجلة، وسآخذ قمر معي. قلتُ بعدم فهم: ماذا؟ أي سفرية الآن؟! قال وهو يلمّ حاجياته في الحقيبة ويُغلقها: إنها سفرية ضرورية، أنا مضطر للسفر الآن مع قمر. قلتُ بانفعال: ولماذا مع قمر؟ ما دخلها في الموضوع؟.. ثم.. لماذا لا تسافر فجرًا؟ رفع وجهه إليّ وصدره يهبط ويعلو بسرعة بسبب أنفاسه السريعة وهو يقول معتذرًا: أنا آسف يا جوهرة، فلا وقت لدي للشرح.. ثم حمل حقيبته بيد واحدة وجاء ليمسك يدي قائلًا برجاء: أرجوك يا جوهرة تفهمي الأمر. سأعود في غضون يوم أو ثلاث على الأكثر! أوصيك بالأولاد خيرًا.. حسنًا؟ سكت لساني ولم أعرف ما أقول، فقد شعرتُ الأمر جنونيًّا بالكامل، وبالطبع لو أبديتُ اعتراضي الآن فلا أظن ياسر سيهتم له.. شعرتُ بالضيق في داخلي، بسبب تلك الفتاة فإن ياسر يقوم بأشياء غير منطقية وغير طبيعية! فمثلا لقد منعني منذ يومين من التدخل في أمورها منعًا باتًا مع أنه يعرف أنها تخرج من وراءنا كل يوم من المنزل كما تشاء مهما منعناها! على الرغم من قلة أدبها وسوء تعاملها معه إلا يحاول جاهدًا بكل الطرق الممكنة أن يعاملها جيدًّا بشكل ترضى هي عنه! بشكل أفضل حتى من معاملته لدانة.. ابنته الحقيقية! التي في مثل سنها! وها هو الآن سيتركنا جميعًا ليسافر مع حضرتها سفرية مفاجئة في منتصف الليل!! شعرتُ بذلك الضيق يملأ قلبي وأنا أراه يركض كالمجنون نحو الباب ولم ينتظر حتى ردّي عليه، لم يحاول أن يلتفت إليّ حتى.. لم ير عينيّ المليئيتن بالدموع.. انهرتُ أمام الباب باكية بحسرة وأسى.. آمل أن تختفي وحسب.. تلك الفتاة المسماه بـ قمر! -3- [قمر] كنتُ أجهز أشيائي المهمة في حقيبة ظهر لي، ألقيتُ نظرة على كل تلك الأدوات اليومية التي أستعملها في النظافة الشخصية وما شابه، وبعض الملابس المريحة وحذاء إضافي، وأهم شيء.. مسكن الألم! فأنا لحد الآن لم أشفى من الصداع، لقد استطعت القيام بصعوبة للتحدث مع عمي وإخباره كل شيء.. لكن النبض في رأسي لم يتوقف، لقد خف وحسب. لكنني واثقة أنني مع هذا السفر والتغيير المفاجئ في معاد النوم وفي مكانه، فسيعود الصداع أشد! هممتُ بإغلاق حقيبتي والذهاب لعمي لكي أخبره بالاستعداد، لكن عيناي وقعت على تلك السكين الصغيرة التي بحجم إصبع اليد.. التي كانت هدية من سامي! نظرتُ لها بقلق وأنا أتذكر سامي، يا ترى ماذا حصل له؟ هل يعقل أن يكون هيثم قد انتقم منه بدلًا مني؟ أيعقل أن يكون قد قتله؟! لقد بدا سامي حينها غاضبًا جدا من هيثم لكنه لم يُرد مواجهته أبدًا. لا بد أنه يعلم مقدار رعبه. كم أنا حمقاء. لقد دفعتُ سامي دفعًا لمواجهة هيثم وهربتُ أنا! أمسكتُ السكين واحتضنته وأنا أهمس: آمل أن تكون بخير يا سامي. ولم أنس أن أضع السكين في حذائي كالعادة، فحتى لو ذهبتُ للأرياف أو الصعيد أو أيَا كان. سأظل بحاجة للدفاع عن نفسي دائمًا ضد أي فضولي وقح! تنهدتُ وأنا أرتدي الحقيبة على ظهري، وأنظر إلى نفسي في المرآة، تحديدًا إلى وجهي المنهك وجفنيّ المتورمتين.. ألم يجد عمي وقتًا أفضل من هذا للسفر؟ فأنا بحاجة شديدة إلى النوم وأشعر بأنني فاقدة للتركيز! "هل انتهيتِ؟" كان عمي قد فتح الباب بدون أن أشعر وقال هذه الجملة باهتمام، قلتُ بشيء من الارتباك: نعم. قال وقد بدت في عينيه بعض الراحة: إذن اتبعيني إلى السيارة، لا تُصدري أي صوتٍ. فلا نريد إيقاظ النائمين. أومأت برأسي موافقة وتبعتُه، نظرتُ إلى ظهره العالي وأنا أنزل السلم خلفه.. كان يرتدي نفس الحلة السوداء التي عاد بها من عمله، لم يغيرها.. لعله لم يجد الوقت لذلك؟! لكن، ظهر عمي الآن يعطيني شعورًا مختلفًا.. إنه يعطيني شعورًا أنني.. وكأنني أمشي خلف أبي! شعرتُ بالمهابة وأنا أعيد النظر إلى ظهره وهو ينزل آخر درجة سلم، وفجأة تعثرتُ وهممتُ بالسقوط على وجهي.. لكن عمي عاد إلى الخلف وأسندني، ثم طوقني بيديه وحملني على ظهره قائلًا: قمر.. أنتِ بخير؟ إذا لم تكوني قادرة على المشي سأحملك! احمر وجهي خجلًا وقلتُ بصوت منخفض: كلا.. تعثرتُ بسبب عدم انتباهي.. شكرًا.. لك! ووضعتُ قدمي المرتعشة على الأرض بُغية النزول فأنزلني قائلًا برفق: إذن انتبهي لخطواتك. أومأتُ برأسي بإحراج وهو أكمل سيره فتبعتُه بخطوات بطيئة، كان البواب نائمًا لذا اضطر عمي لفتح البوابة بنفسه، ثم جعلني أركب السيارة وخرج بها ثم نزل سريعًا ليغلق البوابة ثم ركب ثانية. بعد ركوبه التفت لي وابتسم قائلًا: والآن لننطلق.. لم أستطع الابتسام بسبب القلق الذي كان في داخلي، أشعر أنني على وشك أن أبدأ حياة جديدة. . بالأحرى، صفحة جديدة في حياتي. صفحة جديدة أصبح فيها وجود عمي شيئًا طبيعيًّا ومُريحًا. لم يعد قاتلًا ومجرمًا في نظري.. على الرغم من أنني نفسيًّا لا أزال أشعر بالرهبة والاضطراب منه، لكنني لم أعد أعتبره عدوًّا لي. سأحاول التعامل معه بشكل طبيعي، فقد أثبت لي حسن نيته بالفعل في الأيام الماضية، وندمه على تلك الجريمة التي لم يرتبكها! شعرتُ بالأسف عليه وفي نفس الوقت بالامتنان له، لقد كان عمي يقف في صفي دائمًا.. منذ البداية وحتى الآن! لكنني لم أدرك هذا!.. لقد كنت أضعه في قالب المجرم القاتل وأتعامل معه على هذا الأساس، وأفسر كل تصرفاته بناء عليه، حتى التصرفات الجيدة كنتُ أعتبر أنه يخدعني بها! شعرتُ بأنني أكره نفسي الآن، وكرهتُ تصرفاتي السيئة معه.. وشعرتُ بخجل رهيب منه وأنا أتذكر محاولتي قتله قبل عدة أيام!! "قمر.. هل تسمعينني؟" انتبهتُ على صوته وهو ينادي، التفت قائلة بسرعة: نـ..نعم! قال بوجه قلق: ما بك؟ هل ما تزال رأسك تؤلمك؟ لقد ناديتُك مرارًا لكنك لم تردّي.. شعرتُ بالإحراج الشديد وأنا أقول: آسفة.. لم أكن منتبهة. ابتسم قائلًا: لا عليك، إذن سأحضر لك بعض الأشياء الحلوة لتتسلي بها أثناء الطريق. انتبهتُ أن السيارة تحركت بالفعل وقد توقفنا بجانب إحدى المتاجر، قال لي: هيا انزلي.. اختاري ما ستأكلينه. فالطريق طويل. وأنت لم تأكلي جيدا اليوم.. قلتُ بتلعثم: لا.. لا أريد شيئًا.. شكرًا لك. لكنه قال بإصرار: لا تقلقي.. اختاري ما تريدينه ولن أمانع. قلتُ بصوت منخفض: لستُ..جائعة.. لا تقلق علي يا عمي. تنهد بحرارة ثم قال: حسنًا انتظري هنا قليلًا. بعد نزوله لمست وجهي المضطرب، يا إلهي ماذا بي اليوم؟! أرحتُ رأسي على المقعد وأنا أشعر بأنني مرهقة بالفعل، أعصابي متعبة جدا! -4- [ياسر] تبدو قمر متعبة جدا، أشعر بتأنيب الضمير أنني أرغمتها على السفر معي الآن! فهي فاقدة التركيز، وجسمها متراخٍ.. فقد تعثرت على السلم، وتبقى شاردة طول الوقت. لكن هذا بديهي.. فالمهمات التي فعلتها اليوم كانت مهمات مستحيلة! اقتحام مكتب هيثم والذهاب لاستجواب الدكتور سالم وأصحاب لحانة.. يالها من فتاة! أحضرتُ لها بعض الفطائر والعصائر من المتجر، فهي لم تأكل شيئًا منذ الصباح في الغالب. تقبلت الأشياء على مضض وأكلت على استحياء بعد إصرارٍ مني. ألقيتُ عليها نظرة ونحن نخرج من العاصمة، ابتسمتُ براحة لدى رؤيتها تأكل وهي تنظر من النافذة على الشوارع التي بدأت تطل على أراضٍ صحرواية وجبال شاهقة. لم نستطع رؤيتها بوضوح بسبب الظلام، لكن رأيناها على ضوء أعمدة الإنارة. لقد خرجنا منذ ساعة تقريبًا. والطريق إلى الصعيد يستغرق خمس ساعات أو أقل حسب سرعتنا. وبهذه السرعة أظن أننا سنصل في الخامسة فجرًا. لا يزال الطريق أمامنا طويلًا.. فالساعة الآن الواحدة بعد منتصف الليل. هممتُ بأن أشغل الراديو لكي نشغل وقتنا، لكنني انتبهتُ إلى تلك السيارة التي تسير خلفنا منذ فترة.. إنها تمشي بإصرار وكأنها تتبعنا، مهما تباطئت سرعتنا فهي لا تتجاوزنا كبقية السيارات وتظل خلفنا بشكل مريب! ساورني القلق وأنا أحاول النظر إلى هوية راكبيها من المرآة، لكنني لم أستطع بسبب الظلام. على أية حال، سواء كانت تتبعنا حقا أم لا، فسأعرف ذلك في اللحظات القادمة. التفتُّ إلى قمر وقلتُ لها بحزم: اربطي حزام الأمان. فسوف نسرع قليًلا.. قالتْ بدهشة: لماذا؟ لم أجبها وقد استحوذت السيارة التي تتبعنا على تركيزي كله. فزدت سرعة السيارة وتجاوزتُ عدة سيارات أمامي. وظننتُ أنني قد تجاوزتها.. إلا أنها ظهرت ثانية خلفنا.. هذه المرة خضتُ عدة مناورات لتجاوز الجميع، وتأكدتُ أنني سآخذ مخالفة لتجاوز السرعة المسموح بها، لكنني لم أهتم وأنا أتجاوز الشاحنات التي على الطريق.. شاحنة تلو الأخرى.. بسرعة رهيبة، وفي كل ثانية أنظر إلى الخلف لأطمئن أن تلك السيارة قد اختفت.. بعد عدة دقائق من السير بسرعة مجنونة، خلا الطريق من الشاحنات وبقية السيارات، ونظرتُ خلفي لأجد السيارة المقصودة قد اختفت.. تنهدتُ تنهيدة راحة.. ربما هُيئ إلي أنها تتبعنا! ونظرتُ إلى قمر التي كانت تتلفت حولها بتوجس، قلتُ لها مطمئنًا: لا تقلقي. نظرتْ إلي بوجه مفزوع قائلة: هل هناك سيارة كانت تتبعنا؟ ابتسمتُ لها بثقة قائلًا: لا. لقد خُيّل إلي ذلك وحسب. قالت بلهجة مرتعشة: لكنني.. خُيّل إليّ أنني.. رأيتُ فيها جاسم وكريم! اتسعت عيناي على آخرها بصدمة، إنهما .. هنا إذن! والتفت هذه المرة للخلف لأجدهما خلفنا بإصرار، قد استطاعا اللحاق بنا. كان الطريق شبه خالٍ من السيارات، أخرج أحد الرجلين رأسه من السيارة وأشار لي بالوقوف، لكنني زدتُ سرعتي في جنون.. لن أسمح لهما باللحاق بنا.. أصلًا.. كيف استطاعا معرفة مكاننا؟ كان من المفترض أن يتوجها إلى المنزل أولًا، وهناك.. البواب سيخبرني بأن أشخاصًا غريبين قد اقتحموا المكان أو أيًّا يكن. لكن كيف تبعاننا إلى هنا وكأنهما يعرفان مكاننا في دقة؟! كيف حصل هذا؟! شعرتُ بالعجز والفزع وأنا أرواغهم باستماتة، كانت هناك شاحنة ضخمة بجانبي تسير، فأسرعتُ بشكل جنوني لكي أجتازها، ثم سرتُ أمامها ببطء مماثل لبطئها، حيث أصبح موقعي نقطة عمياء لأي سيارة مسرعة فمن المستحيل أن تراني إلا إن التفتت للخلف. وهم لن يتوقعوا أن أبطء سرعتي فجأة هكذا لذا لن يلتفتوا للخلف. لا أدري إن كانت الحيلة قد تنطلي عليهم أو لا، لكن أنفاسي تسارعتْ وعلا صوت زفيري المتوتر وأنا أسير ببطء أمام الشاحنة الضخمة.. ألقيتُ نظرة على قمر المنكمشة بجانبي على المقعد وقلتُ لاهثًا: قمر.. لا تقلقي. سنهرب منهم بإذن الله! أومأت برأسها موافقة وإن كان الذعر قد سيطر على ملامحها وحاولت إخفاءه بهدوئها المعتاد. وجدت سيارتهم تجتازني بسرعة مجنونة وتختفي في الطريق، فابتسمتُ براحة شديدة وتنهدتُ مغمغمًا لقمر: اطمئني.. لقد رحلوا! حمدًا لله.. انطلت عليهم خدعتي، وسيمشون بسرعتهم الجنونية تلك معتقدين أنني قد سبقتهم، ولن يتصوروا أنني قد تباطئتُ عنهم. ظل الوضع هادئًا في الطريق الذي نمشي به حتى اطمأننتُ أنهم ابتعدوا تمامًا عنًّا، وإن ظللتُ أمشي ببطء متعمدًّا بنفس سرعة الشاحنات لكي أتأخر عنهم أكثر وأكثر.. وجدتُ أحد المخارج التي تُخرجني على طريق رئيسي آخر، خطرت لي فكرة حينها أن أخرج مع هذا المخرج لكي أبتعد عن هذا الطريق تمامًا.. فحتى إن اكتشفوا خدعتي وعادوا أدراجهم لن يجدوني.. نفذت الفكرة على الفور وخرجتُ في ذلك المخرج، ودخلنا على طريق رئيسي آخر، لكنه يبعدنا عن وجهتنا "الصعيد"، لكن في الوقت الحالي أهم شيء هو الابتعاد عن هؤلاء الأوغاد.. كانت قمر تتلفت حولها تبحث بين السيارات، قلتُ لها بجدية: لقد دخلنا من طريق آخر.. لن يصلوا إلينا. نظرتْ بقلق قائلة: كيف عرفوا أصلًا مكاننا؟ كتمتُ مشاعر التوتر أن تظهر على صوتي وأنا أقول بشيء من الحيرة: لا أدري حقا!.. هل كانوا يراقبوننا منذ خرجنا من المنزل؟! هدأت قليلًا وهي تقول: ربما! تنهدت قائلًا: على أية حال، هم قد فقدوا أثرنا بالتأكيد.. ولن يتمكنوا من اللحاق بنا الآن. هزت قمر رأسها بشرود وهي تعيد النظر من النافذة، كان الطريق الجديد الذي نمشي فيه خاليًا بعض الشيء من السيارات.. وكان هذا مطمئنًا إلى حد ما ومقلقًا في الوقت نفسه.. ظل الوضع هادئًا بضع دقائق حتى اطمأننا وبدأت قمر تنعس وتغمض عينها ورأسها تكاد تسقط على مقعدها، أما أنا فتثائبتُ بكسل وهممتُ بإغلاق النافذة حيث كان الهواء باردًا.. لكنني تسمرتُ مكاني أمام تلك السيارة التي كانت تسير بجانبنا، وذلك الرجل الضخم المسمى بجاسم وهو يصوب لي مسدسّا صغيرًا ويقول بوجه ساخر: لقد أتعبتنا حقا في اللحاق بك! والآن أوقف سيارتك.. وسلمنا قمر. -5- [....] تململ جاسم وهو ينظر إلى ساعته ناظرًا لكريم الجالس في مقعد السائق بجانبه، كان جاسم ذا جسم ضخم عريض المنكبين، يملك ذقنًا عريضًا منحوتًا من المنتصف، ووجها طويلًا بدون شارب أو لحية، وعينين ضيقتين ملونتين وشعر خفيف أشقر. في حين كان كريم يملك جسمًا معتدلًا رشيقًا، ووجهًا نحيفًا بملامح حادة، وشعر أسود ناعم يغطي رأسه كله. كان كريم يقول لجاسم بصوتٍ هادئ: من الذي سيقتحم غرفة قمر ؟ قال جاسم بانزعاج: من المقرر أنه أنت، فجسمك أنسب مني لمهمة الاقتحام! عقد كريم حاجبيه وقال: إذن.. وما المشاكل المتوقعة إذا اقتحمتُ غرفتها؟ ضحك جاسم بسخرية قائلًا: حسنًّا هناك الكثير من المشاكل بالطبع، فهناك كلب سينبح عليك، وهناك العم فرج البواب الذي قد يشعر بك ويركض لإيقاظ أهل البيت أو ربما يحاول الإمساك بك.. وهناك قمر ذات نفسها، فهي لن تكتفي بمشاهدتك تخطفها صامتة! ثم قال ضاحكًا بشدة: أذكر حين خطفتُها مع سامي، حاولت ضربي عدة مرات ونجحت في الهروب مني في النهاية لولا أن سامي قد أمسكها.. قال كريم وعلى وجهه علامات الاستهانة بالمهمة: طيب وماذا أفعل إذا ظلت قمر تصرخ ورفضت المجيء معي؟ فكما تعلم أنا ليس لدي وقت لألعاب الأطفال هذه! نظر له جاسم قائلًا باستخفاف: يمكنك أن تفقدها وعيها مثلًا.. قال كريم وهو يحك رأسه: أخاف أن أضربها ضربة تجعلها تعاني بقية حياتها من مكان الإصابة.. قال جاسم بتهكم: يا رجل، إذا أردت أن تفقد فتاة وعيها فليس عليك أن تضربها بكل قوتك بالطبع! ثم ضيق عينيه قائلًا: ثم إن السيد هيثم أمرنا أن نقتلها إذا تيقننا من هروبها منا! فهي قد عرفت حقيقة السيد هيثم. فلا بأس إذن بإصابتها إذا اضطررنا لذك! فقال كريم بإشفاق: لكن.. ألا تظن أنه من الخسارة قتل بنت مميزة مثلها؟ هز جاسم كتفيه قائلًا بقلة حيلة: أظن ذلك ولكن هذه أمره في حالة إن فشلنا في خطفها.. لكننا لن نفشل، سنحاول كسبها لصفنا. تنهد كريم بحسرة وهو يقول: آمل أن تقتنع بالوقوف إلى جانبنا. ثم فرد ظهره وهو يقول بخشونة: إذن، هل أنت متأكد أنها في غرفتها الآن؟ قال له جاسم: طبعًا، أين ستكون إذن؟ فقد هربت من السيد هيثم منذ المساء. لاشك أنها نائمة الآن.. ثم لمعت عيناه وهو يقول: لحظة.. ثم فتح هاتفه وهو يغمغم: دعني أتأكد من أداة التتبع التي معها! ثم قطع كلامه قائلًا بدهشة: بالفعل إنها ليست هنا! يبدو أنها كانت ذكية بعد كل شيء! تساءل كريم باهتمام: أين هي؟ قال جاسم بعينين ضيقتين: يبدو أنها تحاول الهرب من العاصمة، حيث ستفقد أداة التتبع هذه فعاليتها، فهي تصلح لتتبع الأهداف على بعد 40 كيلو فقط لا غير. لذا إن خرجت من العاصمة لن يمكننا تتبع مكانها. قال كريم بشك: ولكن ربما تكون شخصًا آخر، وتكون هذه خدعة ما لإبعادنا عن مكانها الحقيقي. قال جاسم بإصرار: لا، إنها قمر.. فقد وضع السيد هيثم أداة التتبع على هدية سامي لها، وهي تحتفظ بهدية سامي دومًا -التي هي عبارة عن سكين صغيرة – تحتفظ بها في حذائها، سامي وضع أداة التتبع بنفسه في السكين، بعد أن أقنعه السيد هيثم أن هذا لمصلحة قمر أن يعرفوا مكانها دائمًا.. ثم ضحك قائلًا: لكن الآن بعد أن عرفت قمر الحقيقة، فبالطبع هي لا تثق في السيد هيثم، لكنها تثق في سامي حيث دافع عنها وحرص على تهريبها، ولكنه لم ينتبه أننا بالفعل معنا جهاز تتبع لمكانها.. ثم أشار إلى كريم قائلًا: إنها على الطريق الصحراوي المؤدي إلى الجنوب.. أسرع كي نلحقهم. -6- [قمر] كانت السيارة التي بجانبنا يخرج من نافذتها جاسم بملامح ساخرة وهو يصوب مسدسًّا تجاه عمي. سقط قلبي أرضًا من الخوف، فلم يسبق لي أن تعرضتُ لموقف كهذا. وتوقعتُ أننا هالكون لا محالة! لكن عمي ظهر على وجهه الغضب الشديد وأمسك بمقود السيارة بقوة هاتفًا: تمسكي جيدًّا! ومن ثم انعطف يسارًا بحدة وزاد في سرعته في جنون لدرجة أن إطارات السيارة أصدرت صوتًا مخيفًا للغاية وظننتُ أننا سننقلب بالسيارة، وظللنا نتجاوز السيارات بجنون رهيب حتى أن بعض السائقين ظهروا من النوافذ وظلوا يهتفون ببعض الشتائم! سيارة جاسم أيضًا تسارعت وأظهروا قبول التحدي، كان وقتًا عصيبًا علي وكنت أغمض عيني بقوة مع كل انعطاف حاد ينعطفه عمي وأتوقع أن نصطدم بأي سيارة في أي لحظة، لكن هذا لم يحصل، وسبقنا جميع السيارات تقريبًا حتى أن الطريق أصبح فارغًا إلا منا. أخرج جاسم رأسه مجددا وهو يمسك المسدس صارخًا: لا تظني أن الأمر حقد شخصي يا قمر، لكن علينا إيقافك مهما كلف الأمر! همس عمي بانفعال: الحقير يحاول أن يصيب إطار السيارة.. نظرتُ له بقلق بالغ وأنا لا أدري ماذا أفعل، هدأ عمي سرعة سيارته على الفور، لكن فجأة اهتزت السيارة بعنف بعد أن أصاب جاسم الإطار الخلفي للسيارة، فصرخ عمي وهو ينعطف ناحية جانب الطريق الذي كان فيه أرض جدباء قائلًا: قمر تعالي.. لم أستطع التصرف وفوجئت بيد عمي تمتد ليأخذ جزئي الأعلى وخاصة رأسي إلى صدره ويغطيني بيديه الاثنتين، كانت السيارة تتهتز وترتج بشكلٍ مخيف والأرض الجدباء التي صعدنا عليها جعلت الوضع أسوأ، ألقيتُ نظرة أخيرة على عمود الضوء الذي كان أمامنا والذي كان من الواضح أننا سنصطدم به بقوة.. ارتعبتُ جدا وقلت الشهادة في سرّي، ثم.. حدث الاصطدام! كان عمي يحتضن رأسي بقوة، في حين كانت قدماي على الكرسي الآخر، اصطدم رأس عمي بمقود السيارة بقوة شديدة ثم عاد إلى الخلف من قوة الاصطدام وعاد ليصطدم ظهره بالكرسي.. كنت محمية بذراعي عمي الذي حمى رأسي، خاصة من زجاج السيارة الأمامي الذي تكسر لأن عمود الضوء دخل فيه، تناثرت قطع الزجاج في كل مكان، ودخل إحداها في جبين عمي، وقطعة أخرى في قدمي، وبشكل لا إرادي صرخت متألمة.. وسمعتُ عمي يتأوه بشكل مكتوم. ظلت إطارات السيارات تدور بشكل هيستري حتى توقفت في النهاية وخمدت حركة السيارة بشكل تام! رغم تألمي إلا أنني رفعتُ رأسي ببطء لألقي نظرة على عمي، كان يسند رأسه إلى الكرسي بشكل يوحي بفقدانه للوعي، ولكن هالني منظر وجهه، فقد كان وجهه بالكامل غارقًا في الدماء الحمراء! -7- [ياسر] لا أدري ماذا حصل بالضبط، لكن رأسي اصطدم بقوة في مقود السيارة وشعرتُ وكأن مطرقة ضربته، وهناك قطعة زجاج انغرست في جبيني، ثم اصطدم ظهري مجددا بالكرسي.. ارتجت السيارة لفترة قبل أن تتوقف الإطارات وتهدأ تمامًا. حمدتُ الله أن السيارة لم تنقلب، وكنت مطمئنًا إلى حد ما أنني أحتضن رأس قمر بين ذراعي لأحميه من أية صدمات. لكنني لم أفهم، لماذا لا أستطيع الآن أن أفتح عيني أو أرفع رأسي؟ ولماذا أشعر بأن هناك سائلًا دافئًا يغرق وجهي؟ كل ما يمكنني إدراكه أن هناك قطعة زجاج مغروسة في جبيني، لذلك رفعتُ يدي بصعوبة شديدة ونزعتها .. وجدت السائل الدافئ يزيد ويغرق وجهي كله! أيكون هذا السائل هو الدم؟! لحظة.. هل هذا يعني أني نزفتُ كل هذا من جرح جبيني فقط؟! اهدأ.. لا بأس إنه مجرد جرح سطحي وستكون بخير حتمًا، المهم الآن أن آخذ قمر وأهرب سريعًا من هذه السيارة، قبل أن يصل ذلك الوغدان إلى هنا. حاولتُ أن أفتح عيني، لأجد الرؤية مشوشة إلى أقصى حد. ولم أتمكن حتى من تحديد وجه قمر وإن كنت أسمع صوتها يهمس بهلع: عمي.. رد علي.. أنت بخير؟ حركتُ فمي لأخبرها أنني بخير، لكن فكي لم يتحرك.. لا أدري، كيف يتكلم الناس؟ كيف أخرج الحروف لكي أردّ؟ شعرتُ بغثيان رهيب مؤلم، ورائحة الدم تزكم أنفي.. وبدأ الدوار يغزو رأسي بشكل حثيث، كلّا.. أيها الأحمق، لا تفقد الوعي.. سيأخذون قمر منك هكذا! جاهدتُ نفسي وأنا أفتح عيني على أقصاها، ومددتُ يدي ببطء لأمسك بيد قمر، قبضت قمر على يدي بقوة وهي تنظر لي بوجه باكٍ مذعور. سمعتُ أخيرًا صوتًا خشنًا بجانبي وهو يقول: قمر. تعاليْ معنا بدون مقاومة، وإلا اضطررنا إلى قتله. ارتجفتْ قمر أمامي وهي تنظر لهم بكراهية: جاسم أيها الحقير.. لن آتي معك إلى أي مكان! شعرتُ بشيء يلتصق بصدغي، ورغم رائحة الدماء التي ملأت أنفي إلا أنني شممتُ رائحة بارود.. هكذا إذن، إنه مسدس! ذلك الوغد جاسم يصوب علي مسدسه ليجبر قمر على الذهاب معه. وعلى الرغم من أن الدوار يلف رأسي، إلا أنني طوقت قمر بذراعي وحركتُ فمي لأقول بصوت مختنق وحروف متقطعة: قمر.. لا.. تبتعدي..عني! لكنني بعدها فوجئت بذلك الظلام الداهم الذي غطى عينيّ! -7- [نور] "ما بال هذا الوجه العابس؟" قال فيجو هذه الجملة وأنا شارد أمام النافذة، كنتُ أجلس بجانبه في السيارة، بعد ركوبي في السيارة لم أنطق بحرف، رغم أن فيجو قد رحب بي، لكنني نظرتُ له بكراهية قائلًا: لماذا أخبرتم أمي أنني انضممتُ إليكم؟ رفع فيجو حاجبيه قائلًا: من الذي أخبرها؟ نظرتُ بحقد إلى إيليت الجالسة في المقعد الخلفي، رمقتني ببرود قائلة: لم ينبهني أحد أنه من المفترض ألا أخبرها! قال فيجو وهو يحك رأسه ضاحكًا: آوه آسف.. لقد نسيت التنبيه عليها! ثم قال مازحًا: فالأمر ليس ضمن اهتماماتي على الإطلاق! شعرتُ بغضب دفين في صدري، إنهم يستهينون بي تمامًا! تبًّا لهم. سكتتُ بقهر عاجز، فموقفهم هم الأقوى مني، لا يمكنني الاعتراض وإلا كان مصيري معروفًا! كيف السبيل للهرب من مجموعة كهذه؟ قال فيجو وهو يوقف السيارة أمام إحدى الفلل الفخمة: والآن ها قد وصلنا! نظرتُ له بنظرات مستفسرة فقال بغرور: هذا بيتي، هنا سأخبرك بكل شيء عما أريدك أن تفعله. سكتتُ وأنا أنزل ببطء مستثقلًا، آه كم أكره هذا الإنسان! فتح لنا البوابة لنسمع نباح كلب ما، يستقبله فيجو بترحاب وهو يمسح على رأسه، ويهمس له: لا تقلق يا صغيري، فهذا ضيفنا الجديد. أمسك فيجو سلسلة رقبته وقاده نحو المنزل ودخل إلى صالة الجلوس الفاخرة واختار أكبر أريكة جلس عليها باستهتار وصعد كلبه أيضًا على الأريكة! وظل يمسح عليه بحنان بالغ ثم نظر إلي قائلًا: لماذا لا تجلس؟ جلستُ بتوجس على كرسي بعيد، وأنا أشعر بتوتر رهيب حتى أن بطني بدأت تؤلمني. لاحظت أن إيليت اختفت، لكن توتري الزائد لم يجعلني أنتبه منذ متى اختفت؟! وضع فيجو قدمًا فوق الأخرى ونظر لي بهدوء قائلًا: والآن يا نور.. لقد كلفني الزعيم بشرح المهمة الأولى لك! ابتلعتُ ريقي بوجه وأنفاسي تتسارع وأنا أنظر إليه، فقال باسمًا: لا داعي للخوف، فالمهمة سهلة للغاية! قلتُ باضطراب هازئًا: مهمة سهلة في المافيا؟ قال فيجو ضاحكًا: بالطبع، فلن نعطيك شيئًا صعبًا لا تقلق. حاولت السيطرة على توتري وقلت بصوت ثابت: إذن، ما هي أول مهمة لي؟ عقد حاجبيه بجدية قائلًا: إنها مهمة تهريب. صُعقت وأنا أنظر إليه وأهمس بحذر: تهريب ماذا؟ قال ببطء: تهريب مخدرات بالطبع! هكذا، هذا طبيعي للغاية، فلا يمكنني توقع أقل من ذلك من هؤلاء المجرمين! وقفتُ من كرسيّ وأنا أقول بارتعاش غاضبًا ملوحا بيدي: مستحيل أن أفعل ذلك! فجأة زمجر الكلب ووقف ينبح بشراسة علي، شعرتُ بالرعب وأنا أتراجع، والكلب يقفز علي بعنف، سقطتُ على ظهري خوفًا وأنا أغطي وجهي بيديّ.. شدّ فيجو السلسلة فتوقف الكلب على مقربة مني وهو يزمجر غاضبًا، سمعتُ صوت فيجو يقول: لا.. لا يمكنك الهجوم عليه الآن! ثم قام فيجو من مكانه وأنا قمتُ جالسًا أحاول التماسك، لا يجب أن يشعر فيجو بخوفي، إنني أتظاهر بالشجاعة وحسب! لكن مهما كنتُ خائفًا، فلا يمكنني الموافقة على مهمة حقيرة كهذه.. حتى لو متُّ فيها! وقف فيجو على مقربة مني ونظر إلي نظرات جامدة، وقد هدأ الكلب وإن كان متحفزًّا، جلس فيجو بقربي وقال متسائلًا بهدوء: لماذا من المستحيل أن تفعل مهمة كهذه؟ ألم تطلب أنت بنفسك أن تنضم إلينا بدلًا من أمك؟ أطرقتُ برأسي وأنا أغمغم بحنق: حتى لو قلتُ ذلك، فأنا لن أقوم بمهمات حقيرة كهذه! ضحك فيجو بقوة وهو يقول: إذن ما نوع المهمات التي كنت تتوقع أن تفعلها بعد انضمامك لنا؟ ثم أكمل ضحكته وهو يقول: مهمة إنقاذ الضعفاء والمساكين مثلًا؟ نظرتُ له بغضب وهو يضحك بشدة، ثم سكت عن ضحكته وقال بجدية مفاجئة: ولكننا بالفعل نفعل ذلك بالمافيا! لا تقلق.. لدينا نظام غسيل أموال رائع.. ثم ابتسم ساخرًا: تستطيع رؤية تلك الشاحنات التي توزع بعض المساعدات الغذائية بشكل أسبوعي على الفقراء والمحتاجين. وقال ببرود: لذا مشاركتك في هذه المهمة لا تعني بالضرورة أنك شرير، اعتبر نفسك أنك تساعد الفقراء والمساكين ولكن بطريقة غير مباشرة. قلتُ بضيق مرتعبًا: أنت تحاول خداعي وحسب، ولن تنطلي عليّ خدعتك السخيفة هذه! سكت مليا وهو يضيق عينيه ناظرًا إليّ، ثم قال متنهدًّا: يبدو أنك لن تقتنع بسهولة.. ثم وقف وقال بملامح شرسة: تحتاج دافعًا أكبر لكي تقتنع هاه؟ ما رأيك بالتعذيب؟؟ سقط قلبي أرضًا وأنا أنظر إليه بصدمة، وابتسم هو بوحشية قائلًا: أنا آسف يا نور، ولكن لم نسمح لك بالانضمام إلينا لتقبل بالمهمات على حسب مزاجك! عقدتُ حاجبيّ بشدة وأنا أنظر إليه مرتعشًا وقلتُ بلهجة حادة: مهما فعلت يا فيجو فلن أقوم بتهريب المخدرات، على جثتي.. ضحك فيجو وكأنني قلتُ نكتة، ثم نظر لي قائلًا بخبث: على جثتك أنت؟ ما رأيك أن يكون هذا.. على جثة أمك. . أو جثة أختك الصغيرة.. ماذا كان اسمها؟ آه.. إيلين تقريبًا صح! اتسعت عيناي بذهول وأنا أنظر إليه وقد عاد ليجلس على الأريكة بهدوء ثم ظل يتأمل أصابع يديه قائلًا: لعلنا نجرب ذلك كي نرى إذا كنت ستقتنع حقا أم لا! ثم ابتسم بدهاء هامسًا: فنحن لا نريد أن يكون الأمر على جثتك، لن نستفيد شئًا، كيف ستنجز المهمة إذن؟! امتقع وجهي وأنا أنظر إلى وجهه الهادئ البارد، مع تلك الكلمات التي قالها، وبدأت أنفاسي تتسارع وأنا أفكر بشكل جنوني.. ماذا أفعل؟! نعم بمقدورهم فعلها بسهولة، وتخيلتُ منظر جثة أمي.. أو جثة إيلين وهي مضرجة بالدماء! هذا جنون حقا، لا يمكن أن يكون الأمر حقيقة! لا شك أن هذه إحدى كوابيسي.. بدأت أنفاسي تتسارع بهلع، وصوتها يعلو حتى أنني سمعتُ نفسي بوضوح، فنظر فيجو إليّ متظاهرًا بالشفقة وغمغم: يا للمسكين.. إنه يعاني ليتخذ القرار الصحيح! ثم رفع حاجبيه وقال بعطف كاذب: اطمئن يا صغيري، أضمن لك أنك لن تندم أبدًا.. إذا قبلتَ المهمة! ثم اكتسى وجهه البرودة المخيفة وهو يقول: أما إن رفضت، فأضمن لك أنك ستندم.. أشد الندم! . . |