السلام عليكم و رحمة الله و بركاته كيف الأحوال؟ إن شاء الله بخير ~ نصف هذا الفصل قتال و النصف الآخر جدال لذا ماذا أقول لكم سوى استمتعوا لينا. كانت تقف على مقربة من الأشجار التي أسقطتها على رايلي، تشاهد من مسافة آمنة المواجهة التي توشك أن تبدأ بين الجنرال إيليا ناش و بين آيرنديل بلايث، والد غيلاد نفسه. نصل آيرنديل لا زال على عنق ناش، هذا الأخير لم يحرك ساكنا سوى شفتيه ليقول بخفة: -"ألا يمكننا التوصل إلى اتفاق؟ أنا واثق أن هنالك خطأ ما—" -"أنت هو إيليا ناش، ألستَ كذلك؟" قاطعه آيرنديل من خلفه. -"بشحمه و لحمه." لينا افترضت أنه لولا تواجدها لكذب الجنرال و تلاعب بالموقف حتى يحوّله لمصلحته. -" إذن لا خطأ في الموضوع." رد والد غيلاد بحزم. "اترك سلاحك." فعل ناش كما أُمر، ثم أخذ آيرنديل يوجه رأس سيفه ببطء ليقود تحركات الجنرال حتى يستدير و يقابله. شعرت لينا بثقل مفاجئ في الهواء عند تلاقي أعين الخصمين، و أدركت أنه نتيجة لتأثير عواطف الـ جان على محيطهم. أو بالأحرى عواطف والد غيلاد. فلم يُظهر ناش أي علامة للارتباك، ملامحه مستقرة في ابتسامة ساخرة. أهو بارع في إخفاء قلقه؟ أم أنه واثق لحد الغرور؟ لينا لم تستطع أن تقرر أيّهما أصحّ، لكن و رغم كون لدى آيرنديل اليد العليا حاليا، فإن القلق لم يفارقها. في النهاية لقد خُدعت بنفسها قبل قليل و صدقت بأن لديها فرصة أمام إيليا ناش. الأخير و بنفس النبرة المسترخية قال رافعا حاجبه: -"هل ستحاول قتلي أم ماذا؟ ليس لدي اليوم بطوله كما تعلم." وجه آيرنديل كان متصلبا في غضب بارد، في عينيه ما يكفي من الحدة لنحر عنق ناش بنظرة واحدة. -"هل تتذكره؟ ولدي الصغير الشجاع الذي رفض البقاء مكتوف الأيدي أمام مستبد قريته؟" تحولت تعابير الجنرال إلى الجدية عندما رد: -"لم ألتقِ ابنك حتى." -"إذن تترك رجالك يتجولون و يذبحون كما يحلو لهم؟!" صوت آيرنديل علا و تعابيره اِلتَوَت مع كل كلمة. تنهد ناش مغلقا عينيه، ثم فتحهما عازمتين ليجيب: -"أتفهم غضبك، لكنني لا أستطيع السماح لك بقتلي." حدث الأمر في لحظة: أرجح آيرنديل سيفه ليقطع عنق ناش، لكن هذا الأخير انحنى و تملص من النصل بسرعة غير طبيعية، سرعة لم ترها لينا في أي مخلوق آخر، و لا حتى رايلي. كان سيف ناش الذي أوقعه سابقا بين يديه من جديد، و قبل أن يقف من وضعية الانحناء هاجم قدميّ آيرنديل، مستغلا اللحظة التي قفز فيها هذا الأخير متفاديا السيف، ليبتعد فيها ناش عن نطاق هجوم الـ جان. تلك الابتسامة الخبيثة استعادت مكانها على ملامحه، جاعلة آيرنديل يستشيط غضبا. لينا لم تشهد في حياتها جان بمثل هذه التعابير الملتوية، ففي تلك اللحظة، آيرنديل لم يشبه غيلاد في شيء. كان هو من استأنف الهجوم، قدماه اندفعتا من الأرض بقوة تكاد تكون سحرية، تلاهما صوت قعقعة معادن السيوف المشتبكة. رفع ناش مقبض سيفه أمام وجهه ليحتك نصله بنصل آيرنديل في مناورة سلسة، و يقود هذا الأخير لفقدان توازنه و التعثر للأمام بينما ابتعد ناش عن طريقه، كاشفا ظهر الـ جان للهجمات. اندفع آيرنديل من جديد، هذه المرة مبتعدا عن ناش و دون أن ينظر للخلف، لكنه لم ينجح في فعل ذلك قبل أن يتمكن ناش من الاستدارة و تعليم ظهر الـ جان بسيفه، تاركا إصابة عميقة متشكلة في خط أحمر مبرقع. تطايرت الدماء على وجه و ملابس الجنرال، لكنه بالكاد رمش بعينيه ليُوضح رؤيته، أما آيرنديل فلم يضيع وقته في استعادة توازنه بالكامل، بل استدار مرتكزا على قدم واحدة ليلاقي سيف ناش المنقض عليه. ثبت آيرنديل قدمه خلفه لئلا يسقط، ثم أخذ نصله بيده التي لا تمسك المقبض و دفع ناش بقوة، هذا الأخير قفز للخلف، لكن سرعان ما لحق به الـ جان ليُصوب هجوما منخفضا نحو ساقيه. ناش انحنى و غرس سيفه في التراب ليصد الهجوم، ثم رفع يده بقوة نحو آيرنديل. فهمت لينا أنه يهدف لقذفه بعيدا بسحر الهواء، لكن آيرنديل كان مستعدا و مُثبّتا بعزم. حينها و لأول مرة منذ لقائهما، رأت لينا الهلع في عيني الجنرال. قبل أن يتسنى لهذا الأخير تدارك نفسه، كان آيرنديل قد زحزح نصله ضد نصل ناش المدفون في الأرض مسببا صريرا حادا حتى كسر مقبض سيف الجنرال و لسع يده. ناش تمكن من إبعاد كفه قبل أن تُقطع أصابعه، لكن ذلك تركه أعزلا. حاول إلقاء سحر آخر على آيرنديل، إلا أن الـ جان لم يضيع لحظة في طعن كتف خصمه بوحشية، مجبرا إياه على الجثو على ركبة واحدة بينما رفع آيرنديل نفسه على قدميه. لمعت عينا والد غيلاد، و ارتجفت شفتاه في ما افترضته لينا محاولته لمنع تعابيره من الانكسار. تمكنه من استخدام صوته دون أن يتحطم كان جديرا بالإعجاب، فقد نطق قائلا: -"هل لديك كلمات أخيرة؟" بلع الجنرال ناش ريقه و رفع رأسه بعناد، عيناه صافيتان وسط الدماء المتطايرة على وجهه عندما أجاب: -"أنا آسف لما حلّ بابنك." انقلبت الغابة من حولهم رأسا على عقب. رُفعت التُربة و نمت الأشجار في أشكال غريبة معقدة، لون أغصانها أصبح بسواد الفحم و قسوة المعدن عندما غلفت نفسها حول جسديّ لينا و آيرنديل، رافعة إياهما في الهواء و جاعلة الـ جان يُسقط سيفه عند قدميّ إيليا ناش. الجنرال وقف و نظر نحوهما بتعالٍ رغم كونه على الأرض و هما في السماء، جروحه ملتئمة، كلها دون استثناء، و قد مُحي ذلك النقاء من عينيه الزرقاوتين عندما قال ببرود يقشعر له البدن: -"أخبرتك، لا أستطيع السماح لك بقتلي." باختتامه الجملة سُحبت لينا برفقة آيرنديل نحو الأرض المهدمة، و بسرعة مخيفة أُغلقت تلك الأرض حولهما. رؤية لينا أخذت تضيق رويدا رويدا حتى أصبحت لا تبصر سوى الظلمة الحالكة، لا تسمع سوى صوت تنفسها الأجوف، لا تشعر سوى بالتربة التي استحالت سميكة لدرجة لم تسمح لها بتحريك أطرافها، و لا تعي سوى موتها الذي يزحف نحوها. تسللت ذرات التراب إلى منخاريها مع كل نفس، ما جعل التنفس عملية خانقة بشكل مؤلم. أغلقت عينيها لئلا تدخلهما التربة أيضا، دموعها تُعصر منهم لتنزلق على بشرتها المتعرقةّ. لم تشعر بأي حضور آخر قريبا منها، و كونها في وضع جهنمي فقد افترضت الأسوأ: ناش قد وجد رايلي بالفعل و احتجزه بشكل ما، آيرنديل قد مات، و لينا ستلحق بهذا الأخير مختنقة حتى الموت ببطء أليم. لم تحتمل صوت نبضات قلبها المتسارعة وسط ذلك الصمت المميت، فأطلقت صرخة بكل ما فيها. لينا فتحت عينيها لتُقابلها شمس ما بعد الظهر، كانت لا تزال مستلقية على ظهرها، و قد اختفى الألم من أطرافها التي استعادت شكلها البشري. جسدها كان دافئا، مغطى بقماش تعرفه لينا جيدا... رفعت نفسها على مرفقيها قبل أن تنهض لجلسة معتدلة و تأخذ المعطف الأسود الذي غطاها ثم تمدده على كتفيها. لا تزال متواجدة في الغابة، أصبحت واثقة من ذلك عندما لمحت الأشجار التي أسقطتها على رايلي، لم تبتعدا كثيرا عن مكانهما. لكن كل شيء آخر من حولها كان مغلفا في لون فحميّ كئيب، من أوراق الأشجار إلى جذوعها، وصولا إلى التراب و كل ما غُرس فيه. أحست لينا و كأنها في غرفة من غُرف جهنم. -"استيقظتِ أخيرا !" التفتت نحو مصدر الصوت خلفها لتجد رفيق سفرها رايلي فان جاثيا على ركبتيه أمام آيرنديل الذي اتكئ على جذع مظلم، يُعالج جروحه. التفت كلاهما نحوها الآن بينما استدارت بجسدها لتجلس مقابلة إياهما، وجه رايلي مشرق في ابتسامة ارتياح، أما آيرنديل فقد أخفض بصره بعد نظرة واحدة إليها. -"ما الذي حصل؟ أين هو ناش؟" سألت على عجلة. أجابها رايلي، الذي على ما يبدو أُخبر بمجريات الأمور من طرف آيرنديل: -"لا أعلم، لم يكن هنا عندما استيقظت." -"هاه؟! لكنه كان يسعى للقبض عليك!" هز رايلي كتفيه، فنظرت لينا نحو آيرنديل، و على ما يبدو هذا الأخير لم يملك إجابة مقنعة هو الآخر. نهض الـ جان متمتما كلمات الشكر لـ رايلي، هذا الأخير أسرع إلى جانب لينا. آيرنديل بلايث، والد غيلاد بلايث... نهضت لينا في حركة مفاجئة قبل أن يتسنى لـ رايلي الذي بجانبها سؤالها عن أي شيء، دمها يغلي في عروقها مع تدفق ذكريات الأيام الماضية، و لوحت بيدها مشيرة إلى الغابة الموحشة قبل أن تسأل بنبرة إتهامية: -"ما هذا بحق خالق الجحيم؟! منذ متى يُمكن لسليل جان فعل أمر كهذا؟!" -" لا يمكن لأي جان فعل ذلك." رد آيرنديل باعتدال، ملاقيا عينيها لأول مرة. "ليس أي جان قادر على هذا..." كرر كلامه، لكن ليس تماما. هنالك أمر مختلف... -"ما الذي ترمي إليه؟" لم يُلاقي عينيها هذه المرة و لم يُجبها. ما الذي يريد هذا الوغد أن يتستر عليه؟ أحكمت إغلاق قبضتيها على ياقة معطفها في إحباط، و كأن كل الكره الذي أكنته لهذا المخلوق خلال العامين الماضيين قد تكتل حتى انفجر، كل كلمة طعنة من الحقيقة و هي تصرخ بها قائلة: -"سحقا ! رغم كل ما يقدر عليه بني جنسك إلا أنك لم تستطع التواجد لأجل ابنك عندما احتاجك ! ثم تظهر بعد فوات الأوان للانتقام؟ من رجل لم يقابله حتى؟!" وجنتاها قد لمعتا بدموع غضب حارة، و عينا آيرنديل أصبحتا زجاجيتين، "لقد فات الأوان فعلا ! فقد انتقمت من قاتل غيلاد فورا بعد أن اضطررت لمشاهدته و هو يموت !" صوتها انكسر تماما مع آخر كلمة، لكنها و بعد عرقلة متواصلة من شهقاتها تمكنت من أن تستأنف مخفضة صوتها: -"إن كان ذنب ناش أنه لم يتواجد لإيقاف الأمر، فإنك أنت—" وجهت سبابتها نحوه، "أنت مذنب بقدره!" أرادت أن ترى الصدمة على وجهه بشكل أوضح، أن تطبعها في ذهنها للأبد، شفتاه المتباعدتان و عيناه المتوسعتان و وجنتاه المبللتان، لكنها لم تحتمل إبقاء عينيها مفتوحين لحظة أخرى، و عندما أغلقتهما شعرت بأنها عادت إلى اللحظة التي انهارت فيها على أرضية غرفتها و بكت موت غيلاد حتى احترقت رئتاها، لا شيء سوى صوت لُهاثها و شهيقها وسط الصمت المقيت و الظلام الدامس، لا شيء سوى ثقل ذنبها الذي أهلك كتفيها، لا شيء سوى الوحدة الموحشة... حطّت يدٌ مطَمئنة على كتفها بنعومة. فتحت عينيها و نظرت على يمينها. رايلي. أنا آسفة، أرادت أن تقول. آسفة لعدم تمكنها من حماية رايلي بمفردها، آسفة لتفوهها بمثل تلك الكلمات القاسية لـ آيرنديل رُغم إدراكها أن الذنب يأكله كما يأكلها بل و أكثر... لكنها لم تستطع حمل نفسها على قولها، ليس عندما لم تخطئ في كلامها، ليس عندما لا يزال السيد بلايث يخفي أمرا يُهمها. لذا لم تعتذر، بل التفتت نحو آيرنديل الذي أشاح بوجهه، و قالت بينما تمسح دموعها: -"شكرا على إنقاذ حياتي..." أخذت نفسا عميقا قبل أن تستطرد: -"الآن، أخبراني ما الذي حصل بالضبط." على ما يبدو فإن صراخها من تحت الأرض هو أول ما سمعه رايلي عندما استيقظ، و لذا قام غريزيا بإنقاذها و آيرنديل من موتهما المحتم. غريزيا، لأنه كان فاقدا للذاكرة. تماما كما في لقائهما الأول. -"أهذا يعني أنك استعدت ذاكرتك بالكامل الآن؟" سألت لينا بفارغ الصبر، متحمسة و خائفة لمعرفة الإجابة مهما كانت. كان ثلاثتهم قد شكلوا دائرة بجلوسهم أمام أقرب جذع سميك، و آيرنديل الذي اتكئ عليه قد رد بعد هزة من رأسه: -"كلا، لم يفعل. لقد تخللت عقله و تمكنت من استعادة ذكريات حوالي الأسبوعين، لكن أي شيء قبل ذلك قد خُتم بقدرة قوية جعلته بعيدا عن منالي." سألت لينا أول ما خطر على بالها: -"أيمتلك كل بني جنسك قدرة اختراق ذكريات الآخرين؟" رايلي هو من أجاب: -"كلا، بل هو من الأشخاص القلائل الذين يمكنهم فعل هذا، كونه اكتسبها خلال إحدى رحلاته الغامضة— ماذا هناك؟" حاجباه كانا مقطبين الآن لأن لينا ابتسمت، فقد وجدت الأمر مضحكا أن يقوم كل من رايلي و آيرنديل بالإجابة على أسئلة بعضهم. لا بد أنهما خاضا في محادثات مشوقة قبل استيقاظها، بينما كان رايلي يعتني بالجرح الذي على ظهر آيرنديل و بقية إصابته. عندما سألت عنه سابقا، قال آيرنديل أنه رفض علاج الجرح بالكامل، أنه يرغب بأن تكون الندبة المطبوعة على ظهره تذكيرا دائما. -"يكفي لعبا،" نطقت لينا فجأة، صوتها و ملامحها يتخذان جدية صارمة، "ما الذي يجري مع الجنرال ناش يا آيرنديل؟ لماذا أمكنه فعل ما فعله بنا؟" تنهد آيرنديل بعمق و أبقى عينيه على الأرض لفترة أطول من اللازم، ثم أجاب أخيرا: -" إنه ليس مجرد جان عاديّ..." واصل بثقة أكبر بينما ينظر نحو رايلي ثم لينا: -"لا بد أنه هجين ما كان يجب أن يولد !" هجين ما كان يجب أن يولد؟ تمكنت لينا بصعوبة من إبقاء تعابيرها محايدة. من الفصيلة التي تلد هجناء أكثر مما تلد أنقياء الدم؟ -"فهمت." قالت لينا مشددة ياقة المعطف حول عنقها. لينا فهمت بالطبع، فهمت أن آيرنديل لا يزال يخفي الحقيقة. و من نظرة واحدة ناحية رايلي، عرفت أن رفيقها فهم الأمر ذاته. الـ جان أمثاله لا يمكنهم الكذب، يمكن معرفة ذلك من طول أذنيه المتوسط، لكن ذلك لا يعني أنهم لن يتلاعبوا بالكلمات. أن يخفي آيرنديل أمرا بخصوص من يعتقده مسؤولا عن موت ابنه... لا بد أن لديه سببا وجيها. لذا سيكون على لينا اكتشاف الأمر بنفسها و حسب لاحقا، أما الآن فيجب استئناف الرحلة نحو العاصمة. شخصيات ظهرت في الفصول السابقة : إذن لا أعلم إن لاحظتم الأمر أو لا... لكن هذا الفصل يترك الكثير من التساؤلات التي لن تحصلوا على إجابتها قريبا على أية حال يُفترض بعنوان هذا الأسبوع أن يكون سهلا بما أن شيئا مماثلا قيل في الفصل و متشوقة لقراءة آرائكم عن القتال و الفصل بشكل عام أيضا يمكن القول أن أرك الرحلة قد اختُتم فاستعدوا لتغير في الأجواء سأترككم الآن ~ دمتم في أمان الله |