اقتسام المعاناة
الجو ساخن صباح يوم الخميس ، بينما كنت عائداً من العمل ، استأجرتُ سيارة أجرة كي تنقلني إلى محطة "أشقار"، كانت هناك فتاة تجلس في المقعد اﻷمامي، باد عليها الصمت والحياء، بينما هممتُ بالجلوس في الخلف أراقب من النافذة جريان الطريق، ولو سألتني عن تفاصيلها ربما كما قيل: لن أجيبك لأنني ببساطة لا أعرف.
وجدت نقاش حاد يدور بين سائق يبدو أنه في مستهل اﻷربعينات، و زبون نحيل الجسم ذو وجه شاحب يفوقه في السن أو باﻷحرى الهموم هي التي جعلته يبدوا أكبر من سنه الفعلي، كان شجار لفظي وليس حوار تحت موسيقى الشاب خالد؛ كلماتها مستنبطة من إحدى الروايات الجزائرية القديمة في القرن الماضي؛ عن فتاة مرتدية لنقاب أسود تدعى بختة، ناضلت لوحدها وسافرت من قرية نائية إلى وهران كي تبحث عن رفيق دربها، المسافر إلى هناك من أجل البحث عن عمل وفي وقت لم يكن فيه وسائل تسهل الإتصال كما في عصرنا الحالي؛ كان حبها له من بعيد ونفس الأمر ينطبق عليه، لكن كان للمستقبل ولمورد العيش كلام آخر، الشيء الذي أجبر بختة للسفر من أجل البحث عنه، لكن وعلى الرغم من جمالية هذه التحفة الفنية؛ فلا أحد يكترث لها، كان السائق والزبون يتحدثان بصوت عالٍ، بينما يتدخل أحيانا إحدى الزبائن المجاورين قصد تهدئة الوضع، استرقت السمع بصعوبة نظرا لتلاشي ملامح الموضوع المشتتة، ولتمعني من النافذة على الطريق المتلاشية وتركيزي قليلا مع جوهر كلمات الأغنية التي أعرف قصتها من جهة أخرى، عندما تمعنت قليلاً، أدركت أنهما ينتقدان اﻷوضاع المزرية التي تعيشها المدينة أو البلاد بصفة عامة، كان ينتقدان أيضا بعضهما البعض حيث كان السائق يعاتب الزبون حين قال له هذا اﻷخير: "أنه ينوي الهجرة السرية للبحث عن واقع أفضل"
فيما جاء العتاب معارضا له عندما خاطبه بنبرة غاضبة قائلاً: أنك لست أهلا للمسؤولية؛ فلا ترهق معك "بنت الناس" التي تزوجتها ثم اﻷوﻻد وتهاجر في قوارب الموت قبل أن يبرر اﻵخر بأسف شديد :
"إنني تعبت من هذا الوضع وسأضمن لهم حياة كريمة أفضل حتى وإن بدأت من الصفر؛ لقد وصلت وقت تمدرسي إلى مستوى الاجازة/البكالورياس في التسعينات بالضبط ومع ذلك لم أخض قط شغلاً يرقى لطموحاتي؛ لربما في بلاد الغرب سيعاملونني أفضل.."، قبل أن ينتزع السائق منه الكلمة وقال له : "سأصطحبك إلى منزلي وترى كم الشواهد التي حصلت عليها سابقا، ومع احترامي لهذه المهنة الشريفة التي أشتغل فيها أستحق أفضل من ذلك ورغم كل شيء، أحمد الله وﻻ أفكر البتة بالهجرة السرية والمغامرة بحياتي وحياة من يشاركونني فيها.."
وما إن بقيا على أخذ و رد، ونصائح و عتاب و سخط و تدمر، نبست تلك الفتاة الصامتة التي تجلس في المقعد اﻷمامي قائلة :
"وأما أنا، فحاصلة على شهادة الدكتوراه ومع ذلك لم أجد أي عمل.." ليغرق الجميع في صمت و ذهول قاتمين، وفي الوقت نفسه، كان ذلك بمثابة ختام للحوار والشجار وكل شيء قد يرد فيما بعد..
وانتهى اﻷمر حين وصلنا إلى محطة "أشقار" وﻻذ الصمت يفتح الفرصة أمام إيقاعات الشاب خالد مرة أخرى، وهي تختم بعبارات اﻷمل حين وجدت بختة حبيبها، ولم يكن طريقها مفروشاً بالورود؛ إذ بقيت لمدة واقفة أمام القطار الذي أوصلها لوهران، واندهشت عندما وجدت مدينة جديدة على مرأى عيونها السوداء، وسط أناس غرباء لكن ما إن لبثت حتى رآت النور حين أرشدها شحص، بمجرد أن لمحها واقفة كأنها تنتظر شيء معين؛ عرف قصة مجيئها بحكم العلاقات وسهولة انتشارها في تلك الحقبة الزمنية، حيث أطرافها غالبا ما يخوضان تجربتها إﻻ بنية الزواج ، تقدم إليها دون أن يسألها في شيء وهو يصطحبها إلى مكان الحبيب، في اﻷول دخل عليه دون أن ترافقه ليخبره باﻷمر، وكان ذلك بمثابة سعادة لا توصف حين وصف المشهد بالشعر العامي قائلاً:
جاني راجل بشار °° صابتو بختة في لاقار ( اي جاءني راجل مبشر او ليبشرني °° التقته بختة في لاقار اي في >> محطة القطار )
رسلاتو يجي عندي للدار °° يعيد لنا الاخبار بالخفية ( أرسلته لكي يأتي عندي للبيت °° يعيد لنا الأخبار خفية )
جاني على نص النهار °° صابني مهموم و مضرار ( أتاني في نصف النهار °° و وجدني مهموم و مضرور )
بالمحنة و التفكار °° خاطري عند اللي بيا.. ( بسبب المحنة و التفكير °° خاطري عند اللي بيا >> اضن يقصد مزاجه غير جيد بسبب هموم التفكير وكذا في مستقبله مع حبيبته )
وبعدها تقدمت بختة بخطوات مثتاقلة، اتجاهه حاملة في يديها سعادتهما، حيث تلألأت بين تلك الجدران الباردة، كالعظام بعد رميمها اشتدت وبعثت إلى خالقها، وهو يصف مرة أخرى هذه اللحظة، بأنها وقفت عليه شامخة كأمير جيش تجسيداً لصورة امرأة بألف رجل.
وما تبدى لي أنه بين صورتي سيارة اﻷجرة و رواية بختة اقتسام المعاناة بين اﻷمس والحاضر لكن هل يا ترى سيأتي الفرج للسائق والزبون والفتاة كما آتى الفرج لبختة وحبيبها؟