بسم الله الرحمن الرحيم
نكمل سلسلتنا (من تفسير القرطبي) لسورة الفاتحة
وفي هذا الجزء أنقل لكم بتصرف ما جاء في الباب الثاني/
الباب الثاني في نزولها وأحكامها، وَفِيهِ عِشْرُونَ مَسْأَلَةً
المسألة الأولى
أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ سَبْعُ آيَاتٍ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ حُسَيْنٍ الْجُعْفِيِّ: أَنَّهَا سِتٌّ، وَهَذَا شَاذٌّ. وَإِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ جَعَلَ" إِيَّاكَ نَعْبُدُ" آيَةً، وَهِيَ على عدة ثماني آيات، وهذا شاذ. وقول تعالى:" وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي" [الحجر: 87]، وَقَوْلُهُ: (قَسَمْتُ الصَّلَاةَ) الْحَدِيثَ، يَرُدُّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ قُرْآنًا لَأَثْبَتَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي مُصْحَفِهِ، فَلَمَّا لَمْ يُثْبِتْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، كَالْمُعَوِّذَتَيْنِ عِنْدَهُ. فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْحُبَابِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي قُدَامَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: أَظُنُّهُ عَنْ إبراهيم قال: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: لِمَ لَمْ تَكْتُبْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فِي مُصْحَفِكَ؟ قَالَ: لَوْ كَتَبْتُهَا لَكَتَبْتُهَا مَعَ كُلِّ سُورَةٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي أَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ سَبِيلُهَا أَنْ تُفْتَتَحَ بِأُمِ الْقُرْآنِ قَبْلَ السُّورَةِ الْمَتْلُوَّةِ بَعْدَهَا، فَقَالَ: اخْتَصَرْتُ بِإِسْقَاطِهَا، وَوَثِقْتُ بِحِفْظِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا، وَلَمْ أُثْبِتْهَا فِي مَوْضِعٍ فَيَلْزَمُنِي أَنْ أَكْتُبَهَا مَعَ كُلِّ سُورَةٍ، إِذْ كَانَتْ تَتَقَدَّمُهَا فِي الصَّلَاةِ.
المسألة الثَّانِيَةُ
اخْتَلَفُوا أَهِيَ مَكِّيَّةٌ أَمْ مَدَنِيَّةٌ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيُّ وَاسْمُهُ رُفَيْعٌ وَغَيْرُهُمْ: هِيَ مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ. وَيُقَالُ: نَزَلَ نِصْفُهَا بِمَكَّةَ، وَنِصْفُهَا بِالْمَدِينَةِ. حَكَاهُ أَبُو اللَّيْثِ نَصْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ" [الحجر: 87] وَالْحِجْرُ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ كَانَ بِمَكَّةَ. وَمَا حُفِظَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ قَطُّ صَلَاةٌ بِغَيْرِ"الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ"، يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ). وَهَذَا خَبَرٌ عَنِ الْحُكْمِ، لَا عَنْ الِابْتِدَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ الطَّيِّبِ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقِيلَ: الْمُدَّثِّرُ، وَقِيلَ: اقْرَأْ، وَقِيلَ: الْفَاتِحَةُ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَدِيجَةَ: (إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً وَقَدْ وَاللَّهِ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَمْرًا) قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ! مَا كَانَ اللَّهُ لِيَفْعَلَ بِكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ. فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَلَيْسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَّ ذَكَرَتْ خَدِيجَةُ حَدِيثَهُ لَهُ، قَالَتْ: يَا عَتِيقُ، اذْهَبْ مَعَ مُحَمَّدٍ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ. فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى وَرَقَةَ، فَقَالَ: (وَمَنْ أَخْبَرَكَ). قَالَ: خَدِيجَةُ، فَانْطَلَقَا إِلَيْهِ فَقَصَّا عَلَيْهِ، فَقَالَ: (إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً خَلْفِي يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فَأَنْطَلِقُ هَارِبًا فِي الْأَرْضِ) فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، إِذَا أَتَاكَ فَاثْبُتْ حَتَّى تَسْمَعَ مَا يَقُولُ ثُمَّ ائْتِنِي فَأَخْبِرْنِي. فَلَمَّا خَلَا نَادَاهُ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حَتَّى بَلَغَ وَلَا الضَّالِّينَ"، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَأَتَى وَرَقَةَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: أَبْشِرْ ثُمَّ أَبْشِرْ، فَأَنَا أشهد أنك الذي بشر به عيسى بن مَرْيَمَ، وَأَنَّكَ عَلَى مِثْلِ نَامُوسِ مُوسَى، وَأَنَّكَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَأَنَّكَ سَوْفَ تُؤْمَرُ بِالْجِهَادِ بَعْدَ يَوْمِكَ هَذَا، وَإِنْ يُدْرِكْنِي ذَلِكَ لَأُجَاهِدَنَّ مَعَكَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَرَقَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَقَدْ رَأَيْتُ الْقَسَّ فِي الْجَنَّةِ عَلَيْهِ ثِيَابُ الْحَرِيرِ لِأَنَّهُ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي) يَعْنِي وَرَقَةَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا مُنْقَطِعٌ. يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ نزولها بعد ما نزل عليه" اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ" [العلق: 1] و" يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ" [الْمُدَّثِّرُ: 1].
المسألة الثَّالِثَةُ
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ظَنَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْزِلْ بِسُورَةِ الْحَمْدِ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ نَقِيضًا «يعني صوتا» مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمُ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ كَمَا ظُنَّ، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَقَدَّمَ الْمَلَكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْلِمًا بِهِ وَبِمَا يَنْزِلُ مَعَهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ جِبْرِيلُ شَارَكَ فِي نُزُولِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُعْلِمِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ بِمَكَّةَ، نَزَلَ بِهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ" [الشعراء: 193] وَهَذَا يَقْتَضِي جَمِيعَ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ بِتِلَاوَتِهَا بِمَكَّةَ، وَنَزَلَ الْمَلَكُ بِثَوَابِهَا بِالْمَدِينَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَ بِهَا جِبْرِيلُ مَرَّتَيْنِ، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. فَإِنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْقُرْآنِ والسنة، ولله الحمد والمنة.
المسألة الرَّابِعَةُ
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْهَا عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَحُكْمُ الْمُصَلِّي إِذَا كَبَّرَ أَنْ يَصِلَهُ بِالْفَاتِحَةِ وَلَا يَسْكُتَ، وَلَا يَذْكُرَ تَوْجِيهًا وَلَا تَسْبِيحًا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ بِالتَّوْجِيهِ وَالتَّسْبِيحِ وَالسُّكُوتِ، قَالَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ إِذَا افْتَتَحَا الصَّلَاةِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، تَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ. وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِالَّذِي رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) الْحَدِيثَ، ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهُنَاكَ يَأْتِي الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ سَكَتَ هُنَيْهَةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ) وَاسْتَعْمَلَ ذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لِلْإِمَامِ سَكْتَتَانِ فَاغْتَنِمُوا فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ. وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَمِيلُونَ إِلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ.
المسألة الْخَامِسَةُ
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: هِيَ مُتَعَيِّنَةٌ لِلْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادُ الْبَصْرِيُّ الْمَالِكِيُّ: لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّهُ مَنْ نَسِيَهَا فِي صَلَاةِ رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ أَنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ وَلَا تُجْزِيهِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا فِي رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةٍ رُبَاعِيَّةٍ أَوْ ثُلَاثِيَّةٍ، فَقَالَ مَرَّةً: يُعِيدُ الصَّلَاةَ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: يَسْجُدُ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَغَيْرِهِ عَنْ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادُ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يُعِيدُ تِلْكَ الرَّكْعَةَ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلِ إِلْغَاءُ تِلْكَ الركعة ويأتي بركعة بدلا منها، كمن أَسْقَطَ سَجْدَةً سَهْوًا. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ الْمَدَنِيُّ: إِذَا قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ وَلَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ إِعَادَةٌ، لِأَنَّهَا صَلَاةٌ قَدْ قَرَأَ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَهِيَ تَامَّةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ) وَهَذَا قَدْ قَرَأَ بِهَا. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا يَأْتِي. وَيُحْتَمَلُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا فِي أَكْثَرِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَهَذَا هُوَ سَبَبُ الْخِلَافِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا فِي صَلَاتِهِ كُلِّهَا وَقَرَأَ غَيْرَهَا أَجْزَأَهُ، عَلَى اخْتِلَافٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَقَلُّهُ ثَلَاثُ، آيَاتٍ أَوْ آيَةٌ طَوِيلَةٌ كَآيَةِ الدَّيْنِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَيْضًا قَالَ: أُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي مِقْدَارِ آيَةٍ وَمِقْدَارِ كَلِمَةٍ مَفْهُومَةٍ، نَحْوَ:" الْحَمْدُ لِلَّهِ" وَلَا أُسَوِّغُهُ فِي حَرْفٍ لَا يَكُونُ كَلَامًا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يَقْرَأُ الْمُصَلِّي بِأُمِّ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا مِثْلُهَا مِنَ الْقُرْآنِ عَدَدَ آيِهَا وَحُرُوفِهَا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَهَا وَالنَّصَّ عَلَيْهَا قَدْ خَصَّهَا بِهَذَا الْحُكْمِ دُونَ غَيْرِهَا، وَمُحَالٌ أَنْ يجئ بِالْبَدَلِ مِنْهَا مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَتَرَكَهَا وَهُوَ قادر عليها، وإنما عليه أن يجئ بِهَا وَيَعُودَ إِلَيْهَا، كَسَائِرِ الْمَفْرُوضَاتِ الْمُتَعَيِّنَاتِ فِي الْعِبَادَاتِ.
نكمل سلسلتنا (من تفسير القرطبي) لسورة الفاتحة
وفي هذا الجزء أنقل لكم بتصرف ما جاء في الباب الثاني/
الباب الثاني في نزولها وأحكامها، وَفِيهِ عِشْرُونَ مَسْأَلَةً
المسألة الأولى
أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ سَبْعُ آيَاتٍ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ حُسَيْنٍ الْجُعْفِيِّ: أَنَّهَا سِتٌّ، وَهَذَا شَاذٌّ. وَإِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ جَعَلَ" إِيَّاكَ نَعْبُدُ" آيَةً، وَهِيَ على عدة ثماني آيات، وهذا شاذ. وقول تعالى:" وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي" [الحجر: 87]، وَقَوْلُهُ: (قَسَمْتُ الصَّلَاةَ) الْحَدِيثَ، يَرُدُّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ قُرْآنًا لَأَثْبَتَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي مُصْحَفِهِ، فَلَمَّا لَمْ يُثْبِتْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، كَالْمُعَوِّذَتَيْنِ عِنْدَهُ. فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْحُبَابِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي قُدَامَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: أَظُنُّهُ عَنْ إبراهيم قال: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: لِمَ لَمْ تَكْتُبْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فِي مُصْحَفِكَ؟ قَالَ: لَوْ كَتَبْتُهَا لَكَتَبْتُهَا مَعَ كُلِّ سُورَةٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي أَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ سَبِيلُهَا أَنْ تُفْتَتَحَ بِأُمِ الْقُرْآنِ قَبْلَ السُّورَةِ الْمَتْلُوَّةِ بَعْدَهَا، فَقَالَ: اخْتَصَرْتُ بِإِسْقَاطِهَا، وَوَثِقْتُ بِحِفْظِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا، وَلَمْ أُثْبِتْهَا فِي مَوْضِعٍ فَيَلْزَمُنِي أَنْ أَكْتُبَهَا مَعَ كُلِّ سُورَةٍ، إِذْ كَانَتْ تَتَقَدَّمُهَا فِي الصَّلَاةِ.
المسألة الثَّانِيَةُ
اخْتَلَفُوا أَهِيَ مَكِّيَّةٌ أَمْ مَدَنِيَّةٌ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيُّ وَاسْمُهُ رُفَيْعٌ وَغَيْرُهُمْ: هِيَ مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ. وَيُقَالُ: نَزَلَ نِصْفُهَا بِمَكَّةَ، وَنِصْفُهَا بِالْمَدِينَةِ. حَكَاهُ أَبُو اللَّيْثِ نَصْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ" [الحجر: 87] وَالْحِجْرُ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ كَانَ بِمَكَّةَ. وَمَا حُفِظَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ قَطُّ صَلَاةٌ بِغَيْرِ"الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ"، يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ). وَهَذَا خَبَرٌ عَنِ الْحُكْمِ، لَا عَنْ الِابْتِدَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ الطَّيِّبِ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقِيلَ: الْمُدَّثِّرُ، وَقِيلَ: اقْرَأْ، وَقِيلَ: الْفَاتِحَةُ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَدِيجَةَ: (إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً وَقَدْ وَاللَّهِ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَمْرًا) قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ! مَا كَانَ اللَّهُ لِيَفْعَلَ بِكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ. فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَلَيْسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَّ ذَكَرَتْ خَدِيجَةُ حَدِيثَهُ لَهُ، قَالَتْ: يَا عَتِيقُ، اذْهَبْ مَعَ مُحَمَّدٍ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ. فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى وَرَقَةَ، فَقَالَ: (وَمَنْ أَخْبَرَكَ). قَالَ: خَدِيجَةُ، فَانْطَلَقَا إِلَيْهِ فَقَصَّا عَلَيْهِ، فَقَالَ: (إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً خَلْفِي يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فَأَنْطَلِقُ هَارِبًا فِي الْأَرْضِ) فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، إِذَا أَتَاكَ فَاثْبُتْ حَتَّى تَسْمَعَ مَا يَقُولُ ثُمَّ ائْتِنِي فَأَخْبِرْنِي. فَلَمَّا خَلَا نَادَاهُ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حَتَّى بَلَغَ وَلَا الضَّالِّينَ"، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَأَتَى وَرَقَةَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: أَبْشِرْ ثُمَّ أَبْشِرْ، فَأَنَا أشهد أنك الذي بشر به عيسى بن مَرْيَمَ، وَأَنَّكَ عَلَى مِثْلِ نَامُوسِ مُوسَى، وَأَنَّكَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَأَنَّكَ سَوْفَ تُؤْمَرُ بِالْجِهَادِ بَعْدَ يَوْمِكَ هَذَا، وَإِنْ يُدْرِكْنِي ذَلِكَ لَأُجَاهِدَنَّ مَعَكَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَرَقَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَقَدْ رَأَيْتُ الْقَسَّ فِي الْجَنَّةِ عَلَيْهِ ثِيَابُ الْحَرِيرِ لِأَنَّهُ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي) يَعْنِي وَرَقَةَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا مُنْقَطِعٌ. يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ نزولها بعد ما نزل عليه" اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ" [العلق: 1] و" يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ" [الْمُدَّثِّرُ: 1].
المسألة الثَّالِثَةُ
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ظَنَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْزِلْ بِسُورَةِ الْحَمْدِ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ نَقِيضًا «يعني صوتا» مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمُ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ كَمَا ظُنَّ، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَقَدَّمَ الْمَلَكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْلِمًا بِهِ وَبِمَا يَنْزِلُ مَعَهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ جِبْرِيلُ شَارَكَ فِي نُزُولِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُعْلِمِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ بِمَكَّةَ، نَزَلَ بِهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ" [الشعراء: 193] وَهَذَا يَقْتَضِي جَمِيعَ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ بِتِلَاوَتِهَا بِمَكَّةَ، وَنَزَلَ الْمَلَكُ بِثَوَابِهَا بِالْمَدِينَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَ بِهَا جِبْرِيلُ مَرَّتَيْنِ، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. فَإِنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْقُرْآنِ والسنة، ولله الحمد والمنة.
المسألة الرَّابِعَةُ
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْهَا عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَحُكْمُ الْمُصَلِّي إِذَا كَبَّرَ أَنْ يَصِلَهُ بِالْفَاتِحَةِ وَلَا يَسْكُتَ، وَلَا يَذْكُرَ تَوْجِيهًا وَلَا تَسْبِيحًا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ بِالتَّوْجِيهِ وَالتَّسْبِيحِ وَالسُّكُوتِ، قَالَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ إِذَا افْتَتَحَا الصَّلَاةِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، تَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ. وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِالَّذِي رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) الْحَدِيثَ، ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهُنَاكَ يَأْتِي الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ سَكَتَ هُنَيْهَةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ) وَاسْتَعْمَلَ ذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لِلْإِمَامِ سَكْتَتَانِ فَاغْتَنِمُوا فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ. وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَمِيلُونَ إِلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ.
المسألة الْخَامِسَةُ
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: هِيَ مُتَعَيِّنَةٌ لِلْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادُ الْبَصْرِيُّ الْمَالِكِيُّ: لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّهُ مَنْ نَسِيَهَا فِي صَلَاةِ رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ أَنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ وَلَا تُجْزِيهِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا فِي رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةٍ رُبَاعِيَّةٍ أَوْ ثُلَاثِيَّةٍ، فَقَالَ مَرَّةً: يُعِيدُ الصَّلَاةَ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: يَسْجُدُ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَغَيْرِهِ عَنْ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادُ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يُعِيدُ تِلْكَ الرَّكْعَةَ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلِ إِلْغَاءُ تِلْكَ الركعة ويأتي بركعة بدلا منها، كمن أَسْقَطَ سَجْدَةً سَهْوًا. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ الْمَدَنِيُّ: إِذَا قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ وَلَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ إِعَادَةٌ، لِأَنَّهَا صَلَاةٌ قَدْ قَرَأَ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَهِيَ تَامَّةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ) وَهَذَا قَدْ قَرَأَ بِهَا. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا يَأْتِي. وَيُحْتَمَلُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا فِي أَكْثَرِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَهَذَا هُوَ سَبَبُ الْخِلَافِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا فِي صَلَاتِهِ كُلِّهَا وَقَرَأَ غَيْرَهَا أَجْزَأَهُ، عَلَى اخْتِلَافٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَقَلُّهُ ثَلَاثُ، آيَاتٍ أَوْ آيَةٌ طَوِيلَةٌ كَآيَةِ الدَّيْنِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَيْضًا قَالَ: أُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ فِي مِقْدَارِ آيَةٍ وَمِقْدَارِ كَلِمَةٍ مَفْهُومَةٍ، نَحْوَ:" الْحَمْدُ لِلَّهِ" وَلَا أُسَوِّغُهُ فِي حَرْفٍ لَا يَكُونُ كَلَامًا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يَقْرَأُ الْمُصَلِّي بِأُمِّ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا مِثْلُهَا مِنَ الْقُرْآنِ عَدَدَ آيِهَا وَحُرُوفِهَا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَهَا وَالنَّصَّ عَلَيْهَا قَدْ خَصَّهَا بِهَذَا الْحُكْمِ دُونَ غَيْرِهَا، وَمُحَالٌ أَنْ يجئ بِالْبَدَلِ مِنْهَا مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَتَرَكَهَا وَهُوَ قادر عليها، وإنما عليه أن يجئ بِهَا وَيَعُودَ إِلَيْهَا، كَسَائِرِ الْمَفْرُوضَاتِ الْمُتَعَيِّنَاتِ فِي الْعِبَادَاتِ.