تكريم اللهِ آدمَ بسجود الملائكة له
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِن الْكَافِرِينَ(34)}
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ} أي اذكر يا محمد لقومك حين قلنا للملائكة {اسْجُدُوا لآدَمَ } أي سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادة {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ} أي سجدوا جميعاً له غير إبليس {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} أي امتنع مما أمر به وتكبر عنه {وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} أي صار بإبائه واستكباره من الكافرين حيث استقبح أمر الله بالسجود لآدم.
قصة آدم وحواء في الجنة
{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ(35)فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(36)فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(37)قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(38)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(39)}
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} أي اسكن في جنة الخلد مع زوجك حواء {وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا} أي كلا من ثمار الجنة أكلاً رغداً واسعاً {حَيْثُ شِئْتُمَا} أي من أي مكان في الجنة أردتما الأكل فيه {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} أي لا تأكلا من هذه الشجرة، قال أبو عباس: هي الكرمة {فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ} أي فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله.
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} أي أوقعهما في الزلة بسببها وأغواهما بالأكل منها. هذا إذا كان الضمير عائداً إلى الشجرة، أما إِذا كان عائداً إلى الجنة فيكون المعنى أبعدهما وحوّلهما من الجنة {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} أي من نعيم الجنة.
{وَقُلْنَا اهْبِطُوا} أي اهبطوا من الجنة إلى الأرض والخطاب لآدم وحواء وإبليس {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي الشيطان عدوّ لكم فكونوا أعداء له كقوله {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} أي لكم في الدنيا موضع استقرار بالإقامة فيها {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أي تمتع بنعيمها إلى وقت انقضاء آجالكم.
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} أي استقبل آدم دعواتٍ من ربه ألهمه إياها فدعاه بها وهذه الكلمات مفسّرة في موطن آخر في سورة الأعراف {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} الآية {فَتَابَ عَلَيْهِ} أي قَبِل ربه توبته {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي إن الله كثير القبول للتوبة، واسع الرحمة للعباد.
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} كرر الأمر بالهبوط للتأكيد ولبيان أنَّ إقامة آدم وذريته في الأرض لا في الجنة {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} أي رسول أبعثه لكم، وكتاب أنزله عليكم {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} أي من آمن بي وعمل بطاعتي {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي لا ينالهم خوف ولا حزن في الآخرة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي جحدوا بما أنزلت وبما أرسلت {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم مخلدون في الجحيم أعاذنا الله منها.
العظة من قصة آدم:
1- إذا توجهت عناية الله تعالى إلى شيء جعلته جليلاً عظيماً، كما توجهت عنايته إلى التراب فخلق منه بشراً سوياً، وأفاض عليه من العلم والمعرفة وغيرهما مما عجز الملائكة عن إدراكه.
2- الإنسان وإن كرّمه الله، لكنه ضعيف، عرضة للنسيان، كما نسي آدم أوامر الله ونواهيه، فأطاع إبليسَ عدوَّه، وأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها.
3- إن التوبة والإنابة إلى الله سبيل الظفر برحمة الله الواسعة، فإن آدم الذي عصى ربه تاب وقبل الله توبته، فعلى العاصي أو المقصر المبادرة إلى التوبة والاستغفار دون قنوط ولا يأس من رحمة الله ورضوانه ومغفرته.
4- الكبر والعناد والإصرار على الإفساد أسباب لاستحقاق السخط الإلهي، واللعنة والغضب والطرد من رحمة الله، فإن إبليس الذي أبى السجود، وأصرّ على موقفه، وعاند الله، وتحدى سلطانه بإغراء الإنسان وصرفه عن إطاعة الله، غضب الله عليه وطرده من الجنة إلى الأبد، وأوعده نار جهنم.
المناسبة:
اختصت هذه الآيات من (41-142) بالكلام عن بني إسرائيل فيما يقارب جزءاً كاملاً، لكشف حقائقهم وبيان مثالبهم، وكانت الآيات السابقة من أول السورة إلى هنا حول إثبات وجود الله ووحدانيته، والأمر بعبادته، وأن القرآن كلام الله المعجز، وبيان مظاهر قدرة الله بخلق الإنسان وتكريمه وخلق السموات والأرض، وموقف الناس من كل ذلك وانقسامهم إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين.
ثم بدأ سبحانه بمخاطبة الشعوب التي ظهرت فيها النبوة، فبدأ باليهود، لأنهم أقدم الشعوب ذات الكتب السماوية، ولأنهم كانوا أشد الناس عداوة للمؤمنين بالقرآن، مع أنهم أولى الناس بالإيمان بخاتم الرسل، لذا ذكَّرهم الله تعالى بنعمه الكثيرة التي أنعم بها عليهم، وذكَّرهم بالعهد المؤكد معهم على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتنوع أسلوب القرآن في خطابهم، تارة بالملاينة والملاطفة، وتارة بالتخويف والشدة، وأحياناً بالتذكير بالنعم، وطوراً بتعداد جرائمهم وقبائحهم وتوبيخهم على أعمالهم وإقامة الحجة عليهم.
ما طلب الله من بني إسرائيل
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ(40)وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ(41)وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(42)وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ(43)}.
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي يا أولاد النبي الصالح يعقوب {اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} اذكروا ما أنعمت به عليكم وعلى آبائكم من نعم لا تعد ولا تحصى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} أي أدّوا ما عاهدتموني عليه من الإِيمان والطاعة {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي اخشوني دون غيري.
{وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ} من القرآن العظيم {مُصدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} أي من التوراة في أمور التوحيد والنبوة {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي أول من كفر من أهل الكتاب فحقكم أن تكونوا أول من آمن { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} أي لا تستبدلوا بآياتي البينات التي أنزلتها عليكم حطام الدنيا الفانية {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} أي خافون دون غيري {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} أي لا تخلطوا الحق المنزل من الله بالباطل الذي تخترعونه، ولا تحرفوا ما في التوراة بالبهتان الذي تفترونه {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} أي ولا تخفوا ما في كتابكم من أوصاف محمد عليه الصلاة والسلام {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه حق أو حال كونكم عالمين بضرر الكتمان.
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي أدوا ما وجب عليكم من الصلاة والزكاة، وصلوا مع المصلين بالجماعة، أو مع أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام.
عرض لشيء من أخلاق اليهود السيئة
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ(44)وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ(45)الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(46)يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(47)وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ(48)}
المنَاسَبَة:
لا تزال الآيات تتحدث عن بني إسرائيل، وفي هذه الآيات ذمٌ وتوبيخ لهم على سوء صنيعهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون الناس إلى الهدى والرشاد ولا يتبعونه.