(21) بدأ ذلك الرجل بالحديث، وبلال يقف بجانب بكر الذي يقرّبه إليه وهو خائف من أن يمسه أي أذى أخر! قال بهدوء عميق: منذ سنتين، كنت أبحث عنك. رفع بكر حاجبيه دهشة، وتساءل: لم؟ لكن ذلك الرجل لم يُجبه وهو يُكمل بشرود: أنت الدكتور بكر، طبيب نفسي، كنت طبيبا ناجحا جدا حتى جاءت تلك الفتاة التي حاولت الانتحار منذ سنتين، وطلب أهلها منك معالجتها، لقد تقدمتَ شوطًا كبيرًا معها، حتى كادتْ تتخلى عن فكرة الانتحار نهائيًّا.. لكن للأسف وُجدت منتحرة شنقًا في الأيام التالية، وما حدث، جذب انتباه الرأي العام في تلك المدينة، فساءت سمعة هذا الطبيب المحبوب، وظلت الشائعات تنتشر بين أهاليها، حتى جزم الجميع بفشل هذا الطبيب الرائع حين خرج طبيب آخر نفسي، يُخبر أهل الفتاة أن الطبيب بكر هو السبب في انتحار الفتاة، فقد ظنّ أن علاجها قد اكتمل وتحداها وهو جازم أنها لن تفعل، بأن تنتحر، إذا كانت قوية! وتلك الفتاة المراهقة التي كانت من عائلة ثرية، فقدت صديقاتها الثلاث في حادثة، جعلتها على وشك الجنون، وحاولت الانتحار، فحصل ما حصل. لكن الطبيب الآخر فاجأهم بالتصريحات الأخيرة التي تثبت أن الفتاة لم تنتحر بنفسها! وإنما فعلت ذلك استجابة لتحدّي طبيبها بكر، هذا أغضب والدها جدا، عزم على الانتقام من هذا الطبيب المتخلف الذي لم يستخدم خبرته النفسية بشكل جيد فأدى ذلك إلى إزهاق روح ابنته الحبيبة! ومن ثم أخذ قراره بأن يقتل ذلك الطبيب انتقامًا! هتف بكر عندئذ بعصبية: هذا يكفي.. أنت.. ماذا تريد مني؟ نظر بغضب إلى الرجل المقعد، حتى بلال رفع نظره مندهشا لبكر الذي كان غاضبًا بهذه الطريقة لأول مرة! لكن بلال كان متلهفا لسماع تلك القصة، التي كان يُخفيها بكر عنه، أدرك أن ردة فعله تثبت أنها قصة صحيحة! أو أن بكر لا يريده أن يسمع قصته. نظر بانتباه إلى ذلك الرجل المقعد الذي قال بهدوء ممزوج بلطف: دكتور بكر.. أرجو أن تترك لي فرصة لشرح مطلبي.. قال بكر بتحد: إذا كان كلامك هكذا فأنا لا أريد الاستماع، هيا أرجو منك الخروج من متجري لإغلاقه! لكن الرجل المقعد رفع صوته مكملا: والد الفتاة أخذ سلاحًا واتجه إلى بيت الطبيب بكر، لكن الطبيب علم من قبل أن والد الفتاة قد جُنّ وعزم على قتله فجمع حاجياته وأخذ عائلته الصغيرة وهرب بسيارته، لحقه والد الفتاة بسيارته أيضا.. حصل الاصطدام، نجا الطبيب وابنته فقط...! نظر بكر بعنينين ناريتين إليه واقترب محاولا كتم ثورته: قلت لك ألا تُكمل! يا لك من وغد. همّ ذلك الحارس بالدفاع عن سيده، لكنه أشار له بيده أن يقف في مكانه، ثم قال بصوت عميق هامس: لقد كنت أنا الطبيب المتسبب لكل تلك الحوادث! سكتَ بكر وهو ينظر له مصعوقًا.. اتسعت عيناه بشدة وذلك السيد يُكمل: أنا أيضا كنت طبيبا نفسيا في نفس مدينتك لكن لا مستقبل لي بجانبك! أنا من تحدّيت مريضتك لتنتحر، وفعلتْ! أنا من أخبرت أهلها بأنك السبب، أنا سبب فشلك وموت زوجتك وابنك! أنا السبب! نظر له بكر بانهيار، وانفجر الحزن في عينيه وهو يقول بألم: ماذا تقول؟!! الآن تذكر بكر أن ملامح هذا الرجل تشبه ملامح طبيب نفسي قابله سابقا قبل سنتين في مدينته! أكمل الرجل بانكسار وهو يُطرق برأسه: لقد فعلت ذلك لتكبر فرصتي بالنجاح في هذه المدينة، وفعلا عندما خلا لي المكان فرحت قليلا باشتهار اسمي ورفعة سمعتي! لكن.. قال هامسًا بحزن: لم تدم فرحتي طويلًا.. لقد أصبت بمرض خبيث بدأ ينتشر في يدي! قرر الأطباء قطعها، فقُطعت ولكن المرض ظل ينتشر كذلك في بقية جسدي! كان الوضع غير طبيعي، نصحني بعض الأقارب بالذهاب إلى شيخ يداوي بالقرآن، فظل يسألني: هل ظلمت أحدا؟ حتى أخبرته بهذه القصة، فقال لي: أسرع إليه ليعفو عنك، فوالله ما أظن الذي بك إلا من هذا الرجل المسكين الذي ظلمته! ثم مد يده اليمنى التي لم يحركها أبدا طوال الحديث، فاقترب الحارس الشخصي ونزع قفازه لتظهر يد بلاستيكية بمفاصل، كشف عن معصمه ثم سحب اليد البلاستكية ليظهر فراغ مخيف! ظل يشمّر يده وذلك الرجل مستسلم يطرق برأسه في ذل، حتى ظهر الحد الذي قطعت يده منه، ارتعش جسد بكر وهو يحدق مشدوها. توقف عن ذهوله حين سمع صوت تنفس سريع مضطرب من خلفه، ثم بلال يقول مرتجفا: لا! وصوت اصطدام جسده بالأرض، فزع إليه صائحًا: بلال! كان بلال يشخص ببصره إلى السقف ثم يغمض عينيه في بطء، حاول بكر بلهفة إجراء أي إسعافات، لكن لا استجابة، نظر بعدوانية إلى الرجل قائلا بعصبية: هل يعجبك هذا؟ الفتى فقد وعيه تماما! قال الرجل بعمق: لا أعتقد أنه فقد وعيه جراء ألم عضوي! ليس بسببنا بالتأكيد. انشغل بكر بفحص عيني بلال وهو خائف جدا، إنها أول مرة ينهار هكذا، ترى ما السبب؟ قاطع لهفته صوت ذلك الرجل وهو يقترب بكرسيه المتحرك منه، غمغم باهتمام: أعتقد أنه أصيب بصدمة عصبية! قال بكر متضايقا: وماهي الصدمة التي لم يتحملها في الموضوع؟ ثم حمله بين يديه قائلا بغيظ مكتوم: أتمنى أن تخرج من متجري الآن كي أستطيع الاطمئنان عليه! هتف الرجل بلهفة: انتظر.. هل سامحتني؟ هل أستطيع الآن أن أنام مطمئنا أنني لا أظلم أحدا!؟ لم يرد بكر وهو يسرع إلى البوابة طالبا منه الخروج، فقال الرجل بيأس: أرجوك.. سأعطيك كل التعويضات التي تطلبها، وهذا الفتى أليس ابنك؟ أعتقد أنه ابنك، لقد فقد وعيه عندما سمع القصة، هل نجا من الحادث؟ نجا ولداك الاثنان أليس كذلك؟ أتمنى منك الإجابة! سكت بكر وهو يعقد حاجبيه ويطرق برأسه لينظر إلى وجه بلال فاقد الوعي بمشاعر متضاربة وهو مندهش من هذه الفكرة التي تسيطر على رأسه! "بلال ابني بالفعل! بلال نجا من الحادث! بلال.. لقد عاد إلي! يا إلهي.. بم أفكر الآن؟" أخرج الحارس الشخصي مظروفا ورقيا وقدمه إلى بكر الذي نظر بتساؤل، فقال: هذا تعويض بسيط! كاد بكر أن يقوم بضربه لأول مرة، لكنه قال بعد سكوت: احتفظ به لنفسك! إذا خرجت الآن حالا فأنت في حِلّ! لم يصدق ذلك الرجل نفسه، وبمجرد أن وضع بكر بلال فوق أريكة السيارة الخلفية، كان الرجلان قد اختفيا، فأغلق المتجر وانطلق إلى المستشفى. _ كان كل شيء مشوشا، الشاشة مليئة بالضباب، فجأة يتضح المشهد لأرى دماء عدنان تغرق الأرضية، أصرخ بذهول! وأتخيل مشهد قطع يده بدلًا مني.. عدنان مريض، يشتكي الحمّى، وكمّ قميصه فارغ لأن يده مقطوعة. عدنان غير موجود الآن.. لقد اختفى من حياتي، لقد مات. إنني أكاد أموت، بل أنا أريد أن أموت. لحظة، إنني أسمع صوته الآن يناديني.. يناديني كثيرًا. انتظر عدنان، سوف أرد عليك، ولكنني لا أعلم لم لا أستطيع الرد.. إني فقط أسمع نداءك. أحاول أن أحرّك فمي.. لساني على الأقل.. لا فائدة.. إذن، عيني؟ هيا.. لقد تحركت! فوجئت بوجه مألوف جدا أمام وجهي، لا أعلم من هذا بالتحديد.. لكنني أشعر بحب كبير في قلبي له! سمعته يهمس بامتنان: الحمد لله.. لقد أفاق. ركزت في ملامحه أكثر، إنه.. إنه.. الدكتور بكر! نظرتُ له بدهشة وأنا أجول في المكان ببصري، أحاول تذكر أين كنت؟ وماذا يحصل الآن لي؟ كنت في غرفة مستشفى، أرقد على سرير صغير بجانب الحائط، وهناك طبيب يجلس خلف مكتبه، نظر له الدكتور بكر نظرة ذات معنى فأقبل علي وهو يمسك بدفتر ملاحظاته وابتسم وهو يقول: حمدًا لله على سلامتك يا بلال.. كيف تشعر؟ حدقت بحيرة إلى الدكتور بكر الذي ابتسم ابتسامة مطمئنة وقال لي: لا بأس عليك الآن يا بني.. أنت بخير.. أليس كذلك؟ اقتحمتِ الغصة حلقي، ونظرت باحتقان إلى الطبيب الآخر الذي يُمسك بدفتره ويكتب.. ثم يقول بلطف: هيا بنيّ أخبرنا. هل تستطيع الجلوس؟ أمسك الدكتور بكر بيدي ليساعدني على الجلوس وهو يتظاهر بعدم ملاحظة تلك الدموع التي بدأتْ في الهطول! تقوس فمّي بشدة وأنا أحاول أن أقول بصوت متماسك متقطع الأنفاس: أ.. س.. ضا..! لم يعد صوتي مفهومًا، أعدت الجملة بألم: أنـ.. ست.. مريضا! فهم الطبيب الجملة ثم قال بتفهم: بالتأكيد، أنت بخير يا بلال.. وكل شيء على ما يرام.. فقط أريدك أن تخبرني ماذا حدث؟ نظرت إلى الدكتور بكر باستنجاد، أنقذني.. أرجوك! إنه يعاملني كالمرضى! استوعب الدكتور بكر ذلك سريعًا، ثم قال للطبيب: دكتور طه.. إنه بخير الآن.. أعتقد أنه فقد وعيه من الإجهاد أو التعب.. وضعت وجهي في ملابسه لكيلا يرى ذاك الطبيب الدموع التي لا أستطيع السيطرة عليها الآن.. لقد انفجرت! حاولت كتم صوتي، عضضت شفتي وأدميتها. تمسكّت أكثر في ملابس الدكتور بكر، هيا يا دكتور بكر أخرجني من هنا. كانا يتبادلان الكلام، حتى اطمئن ذلك الطبيب فقال: حسنا.. يمكنه الخروج الآن! ثم قال بعد تردد: هل هو بخير؟ لقد شاهد اهتزاز جسدي! طمأنه الدكتور بكر ببضعة كلمات لم أفهمها، أحدهم أمسك يدي وأزال إبرة المغذي، أعتقد أنه الدكتور بكر. الحمد لله خرجت بسلام من المستشفى، لم يلاحظ أحد أنني كنت أبكي.. كنت ملتصقا بالدكتور بكر كالطفل الصغير الخائف. في السيارة احترم الدكتور بكر صمتي ولم يسألني أي سؤال حتى هدأت أنا وسألت بصوت مرتجف: ماذا.. قال.. الطبيب؟ قال بهدوء: قال إنها صدمة عصبية. ثم سكت تماما، وشردت أنا أنظر إلى النافذة، حتى قال هو بحيرة: بلال.. ما الذي صدمك؟ قلت متظاهرا البرود: ماذا جرى لذلك الرجل المُقعد؟ تنهد قائلا: كان يريد سماحًا، وقد ناله. ثم أردف بنبرة قلقة: لكن أنت من انهار يا بلال.. فجأة ودون أي مقدمات. سكتتُ بضيق وأنا أكره أن يذكر أحد ما أنني كنت ضعيفا في وقت ما، فقال بتساؤل: هل لهذا علاقة بما قلته لي سابقا أن أباك قد قطع يد أخيك وقتله؟ سقط قلبي أرضا وأنا أومأ برأسي في اكتئاب، فقال بتفهم وحنان: لا بأس.. لم يحصل شيء، كل شيء على ما يُرام الآن، أليس كذلك؟ قلت: بلى.. سكتنا بعض الوقت ونحن نراقب الطريق في الليل، الهواء بارد كثيرًا وجسدي متعب. التفت له وسألته: الأسباب التي ذكرها ذلك الرجل عن سبب هروبك من المدينة.. لقد فهمت الآن ما حدث، هل تركت الطب النفسي لهذا السبب؟ نظر نظرات عميقة وتبادلنا ابتسامة باهتة، ثم قال باستسلام: نعم.. لقد تركته لهذا السبب! شردت بعيدًا وأنا أغمغم بأسى: أنت أيضا عانيت لحظات مؤلمة.. لست أنا فقط! لم يفهم الدكتور بكر ما المغرى من هذا! فسكت مترقبا المزيد من الكلام، لكن الذي حصل أنني غرقت في النوم: ) وبالطبع لم أدرك أنني في سريري إلا عندما استيقظت في اليوم التالي. |