سبع سنوات. توبياس عرف منذ صغره أنه سيكبر ليلتحق بعصابة. في ليلة يوم ميلاده السابع طلب خدمة من أكبر الفتيان في ميتمه الحاليّ، كال ذي الخمس عشرة عاما. كان توبياس الصغير قد مر قبل بضعة أيام على ملصق فلم جذب اهتمامه في الشارع، امرأة مستلقية على بطنها وسط سرير فوضويّ، شفتان حمراواتان و عيون ثعلبية بلون السماء، شعرها القصير حالك السواد كملابسها، بين أصابعها سيجارة مشتعلة، و على وسادتها يتكئ مسدس. المرأة المثالية. كانت أجمل من معلمته في المدرسة، من بائعة الزهور المجاورة، و أجمل حتى من مادلين التي اعتنت به في ميتمه الأول. بينما وقف توبياس محدقا في الملصق، في تلك العيون الكريستالية ذات الحدة الخطيرة، قرر ما يريده تماما لأجل يوم ميلاده هذه السنة. كال كان عند وعده، فقد أحضر له الفلم في ليلة ميلاده، و عندما شكره توبياس، رمق كال القرص بنظرة انتقاديّة و أخبره بتحفّظ: -"انه فلم للكبار كما تعلم... توم قال بأنه مليء بالعنف، قد ينتهي بك الأمر تتقيأ في الحمام." حينها هز الصغير رأسه و رد بحزم: -" سأكون على ما يرام." انتهى الأمر بـ توبياس يتقيأ في الحمام. ثلاث مرات. لكنه لم يندم إطلاقا على مشاهدته الفلم، بل إنه أصبح مهووسا به. حتى أنه تعلم الرقص كما رقصت امرأته المثالية مع رجل العصابة، و حفظ معظم الحوار عن ظهر قلب. "هكذا تعرف أنك وجدت شخصا مميزا، عندما يمكنك أن تخرس للحظة و تشاركهم الصمت في راحة." "أنا أحاول حقا أن أكون الراعي." "العب بأعواد الثقاب، فتحترق." ربما أراد توبياس أن يجرب الاحتراق، أن يعرف كيف سيتصرف لو وجد نفسه في موقف كذاك... شاهد بعد ذلك الكثير من الأفلام من ذلك النوع، مع أن الأول ظل المفضل لديه. أراد أن يكون مثل أولئك الرجال على الشاشة، قوي و هادئ، يحترم الآخرون قدراته. حرّ و عديم الخوف، يعيش في اللحظة دون قلق لما بعدها. لكنه سيختلف عن البقية. توبياس ليس بأحمق، لن يجر نفسه إلى نقطة اللاعودة، لن يسمح للإدمان أن يسيطر عليه، لن يتهور، و لن يتجاوز الحدود التي رسمها لنفسه. توبياس مختلف عنهم لأنه ليس غبيّا، سيكون محترفا. قرر منذ كان في السابعة أن ذلك هو الطريق المناسب له، و قد بدت فكرة جيدة حينها. و بعد مضي أربع سنوات، بالنسبة لـ توبياس الذي يلتحق بالمدرسة الإعدادية، لا تزال تبدو كـفكرة جيدة. إحدى عشرة سنة. انتقل للمكوث مع عائلة جديدة مؤخرا، زوجان -جون و ليزا- لا أولاد لهما، يعيشان برفقة الأم المسنة للرجل. العائلة الأولى ألغت التبني بسرعة بعد أن حصول 'معجزة' و تمكن الزوجة من الإنجاب بعد كل شيء... توبياس لم يُؤمن بالمعجزات، الأمر مسألة حظ، و هو اعتاد أن يكون غير محظوظ عندما يتعلق الأمر بالآخرين. لم يحب توبياس الزوجين أصلا، لكن تخليهما عنه بتلك السهولة و دون تردد يُذكر أثار استياءه، لقد حاول أن يتصرف كفتى جيد، أن يكون مؤدبا و مراعيا و لا يسبب المشاكل لأحد، لقد حاول حقا... كانت مسألة وقت على أية حال، لم يوجد ليستقر وسط عائلة سعيدة و مُحبّة، و لن يجد عائلة تتقبل حلمه المستقبلي مطلقا، الجميع يريد جروا مطيعا... لذا كل ما عليه هو الصبر حتى يبلغ الثامنة عشرة، حينها سيصبح حرّا ليفعل ما يشاء. لم يكن توبياس يعرف أي أحد كونه جديدا في المنطقة، و لم يرغب في المرور بخطوات التعرف على الناس مجددا، لذا قضى فترة الاستراحة يبحث عن بقع فارغة في المدرسة إلى أن قرر أن يجلس بمفرده على إحدى مدرجات الملعب. أخرج صندوق غداءه الذي أعدته أمه المؤقتة لأجله و شرع في الأكل. -"مرحبا، أنت !" ناداه صوت من خلفه. التفت توبياس لتخترق أشعة الشمس عينيه و تعميه للحظة قبل أن يرفع يده و يحجبها. حوالي ثلاث درجات تعلو مكان جلوسه، وقف فتى ذي شعر فضيّ و على محياه ابتسامة عريضة. رد توبياس باعتدال: -"مرحبا..." تحرك الصبيّ قليلا ليحمي توبياس من الشمس، و عندما عادت يد هذا الأخير إلى صندوق غداءه لاحظ العينين المتوسعتين للغريب. ظل الفتى واقفا عنده و وضع يديه خلف ظهره عندما قال بنوع من البهجة: -"أرى أنك تجلس وحيدا، تبدو كشخص غير وديّ..." قطّب توبياس حاجبيه في مزيج من الاستياء و الحيرة، لكن لم تسنح له الفرصة ليتكلم حيث أن ذا الشعر الفضيّ واصل: -"مما يدفعني للتفكير بأنك قد تكون عكس ذلك تماما !" ما خطب هذا الفتى؟ أفضل طريقة لمحو حيرته هو السؤال بشكل مباشر، و هذا ما فعله توبياس: -"ما الذي تريده؟" رفع الفتى حاجبيه و اختفت ابتسامته عندما رد: -"أن أكون صديقك طبعا !" طبعا. قلب توبياس عينيه بينما أسرع غريب الأطوار للجلوس بجانبه و مد يده للتصافح عندما تقابلت أعينهما. -"إليوت." قدّم نفسه. حدق في راحة يد إليوت لفترة حتى قرر أن يأخذها و يصافحها. -"توبياس." -"هل تمانع لو أناديك توبي؟" -"لا فرق عندي." جعل ذلك ابتسامة المدعو إليوت تعود قليلا، هذا الأخير جلس في هدوء بينما استأنف توبياس الأكل. -"ألن تأكل؟" سأله بعد لحظة. وضع إليوت يده خلف رأسه و أجاب بعد ضحكة قصيرة: -"نسيت أختي غداءها اليوم فأعطيتها خاصتي." أراد توبي أن يسأل لِمَ لا يمكنه و أخته ببساطة اقتسام الغداء، لكنه لم يشأ أن يكون وقحا عن غير قصد. و كأن الفتى الآخر قرأ أفكاره، فقد أضاف بعد صمت قصير: -"أختي فتاة منضبطة لدرجة درامية، و ستفزع إن اكتشفت أنها نسيت طعامها، لذا كان علي أن أضعه في حقيبتها دون ملاحظتها." مراعٍ للغاية. لم يتفوه توبي بكلمة، ببساطة شارك نصف غداءه مع صديقه الجديد. أشرقت ابتسامة على وجه إليوت عندما قال: -"أنت شخص لطيف حقا !" كان توبياس يأمل أن إليوت لم يلاحظ احمرار وجنتيه بينما ابتسم ابتسامة هادئة و دافئة. لقد مرت فترة طويلة منذ ابتسم هكذا أمام أحدهم. حينها خطر سؤال على بال توبي... لو أنه أخبر إليوت يوما عن حلمه، هل سيسخر منه أو يستاء كما فعل الجميع من قبله؟ لم يكن عليه أن يقلق بشأن ذلك حينها، فبعد مرور بضعة أسابيع، كان صديقه من سأله عن الأمر. اجتمع مع إليوت على الغداء كالعادة، مؤخرا كان هذا الأخير يُحضر معه أخته التوأم أحيانا، لسبب أو لآخر. توبياس أحب رفقة ماريا رغم كونها عكس أخيها تماما، حيث أن إليوت نشيط بشكل جنوني، بينما ماريا هادئة و دقيقة، كثيرا ما يمضيان وقتهما يتجادلان، و توبياس يراقبهما، أحيانا في انزعاج، و أحيانا ضاحكا على قدر الشبه بينهما رغم الاختلاف. ماريا لم تحضر اليوم، و بالتالي كان توبياس بمفرده مع رفيقه يتناولان الغداء على مقاعد الملعب، توبياس متكئ على الحافة و إليوت يجلس أعلى منه بدرجة ليقابله، حينما نطق هذا الأخير متسائلا: -"أخبرني يا توبي، ما الذي تخطط له مستقبلا؟" الأسئلة المفاجئة الخالية من المقدمات لم تكن غريبة عن عادة إليوت، فما كان من توبي إلا أن يتنهد و يجيب: -"سألتحق بعصابة محلية على الأرجح." -"لماذا؟" -"هذا ما أريده." -"فهمت." و بذلك واصل إليوت تناول طعامه في حالة صمت نادرة. ثلاث عشرة سنة. خرج من الرواق بعد إعلان الجرس انتهاء اليوم الدراسي، و حينها لمح ذاك الشعر الفضي الطويل يتمايل خلف ظهر مألوف. -"ماريا !" ناداها بهدوء. لم يعد يراها كما في السابق، و ذلك أصبح طبيعيا بعد فترة، فهي لديها حياتها و أصدقائها، صديقة واحدة في الواقع، ماريا كانت مثله، من النوع الذي لا يفضل الحشود و العلاقات عديمة المعنى، و كما لدى توبياس إليوت، ماريا لديها كوين، لم يفهم أنى لـ ماريا و فتاة مثل كوين -شعبية و اجتماعية- إيجاد أمور مشتركة بينهما، لكن في النهاية، صديقه المقرب بمثابة التجسيد البشري للمنشطات، و هو فتى عصابة مستقبلي. الأضداد تتجاذب بعد كل شيء. التفتت ماريا خلفها عند سماعها اسمها و ابتسمت عندما رأت توبي، وقفت مكانها منتظرة حتى بلغها ليستأنفا المشي معا. أصبح توبياس أطول منها بكثير، لدرجة أنه لو عانقها لتمكن بسهولة من أن يريح ذقنه فوق رأسها. -"كيف حال القط الأسود؟" قلب توبي عينيه على اللقب الذي أطلقه عليه إليوت، عندما ناداه بذلك لأول مرة رد توبياس بالحملقة في عيني صديقه و التمتمة: -"لا أريد أن أعرف من أين أتيت بذلك حتى..." أما الآن فقد تنهد و أجاب ماريا باستياء مزيف: -"خائب الأمل بكِ لتشبّهك بـ إليوت." قطبت حاجبيها و قالت: -"منذ متى تمانع شخصية إليوت؟" -"أمانع شخصية إليوت في جسد ماريا." توبياس يحب شخصية ماريا و تناقضاتها، محاولاتها الدائمة لأن تكون لبقة رغم أنها لا تدرك شيئا عن اللباقة، طبيعتها الطيبة رُغم عينيها الثعلبيّتين و تعابير وجهها الضجرة، شعرها الأملس الذي يرفض أن يتجعد بشكل مثالي في المناسبات، فقدانها الكامل لصوابها عندما تتعكر أمورها المنظمة رغم اعترافها بحقيقة أنها تعمل أفضل بكثير تحت الضغط، حس دعابتها المظلم و غير اللائق بشكل مفاجئ، الطريقة التي تستمر بحك جسر أنفها عندما تفكر بعمق، ضحكتها... الضحكة التي يسمعها الآن بعد جملته الأخيرة... ماريا لم تشبه امرأته المثالية زوجة رئيس العصابة في شيء، فلم تكن من النوع الذي يندفع لحلبة الرقص دون تفكير، و لم تكن تجيد الكلام المعسول، لكن و بشكل لم يستطع توبياس أن يشرحه كانت ماريا فايل أفضل منها، أفضل من أي فتاة أخرى. سحقا... أشاح بنظره ليقول فجأة: -"ماريا، فلتنضمي إلينا في الغداء أكثر من الآن فصاعدا." -"لك ذلك." ردت ببساطة. "لكن كوين ستكون برفقتي." صديقتها مشجِعة في المدرسة، محبوبة من قبل الكثيرين، فتاة مثلها لا بد و أن لديها العديد من الأصدقاء الآخرين للتسكع معهم. و كأن ماريا قرأت أفكاره من نظرة الحيرة الساخرة على وجهه، لأنها نطقت بجدية و قد قطبت حاجبيها: -"إنها ليست كما تظنها، لا تكن وغدا." رمش عينيه في صدمة وجيزة و تلونت وجنتاه بلون أحمر خفيف. لم يقصد أن يكون سريع الحكم على الآخرين، و هو بالتأكيد لا يخطط للتصرف بوقاحة و إحراج ماريا أمام صديقتها. تنهد أخيرا بعد لحظة ليعتذر و يده على مؤخرة عنقه: -"آسف..." ابتسمت ماريا ابتسامة مشرقة، "اعتذارك مقبول." تساءل توبياس في تلك اللحظة عما ستعتقد ماريا بخصوص خططه المستقبلية، و حقيقة أنه بدأ بالسعي نحوها فعلا، لم يكن توبي جيدا جدا في ملاحظة الأمور المبهمة رغم أنه يحب أن يعتقد بأنه كذلك، إلا أنه يتعلم بسرعة، و قد تعلم بما يكفي لحفظ على الأقل بضعة من الطلاب المشبوهين في مدرسته، ذلك النوع من الشبهة الذي يحتاجه تماما. بدأ توبياس يتسكع مع رفاق غير إليوت و ماريا بهدف بناء سمعة لجذب الأشخاص الذين يحتاجهم، و بما أنه يصاحب فتيان مثل بيلي أندروز، افترض زملائه تلقائيا أنه مثل بيلي و أفراد عصابته الصغيرة، فإن توبياس لم يلمس الممنوعات في حياته، إلا أن الشائعات قالت عنه ما أراد أن يسمعه بالضبط: أنه مدمن يبحث عن بائع. توبي شكر إليوت في سر نفسه، كون هذا الأخير صديقه قد علمه درسا أو درسين عن التخطيط طويل المدى، مع أن إليوت لا يجيد التخطيط لنفسه، بل إنه يبرع، و يا للسخرية، في إقحام نفسه في شؤون الآخرين بشكل مفيد. خمس عشرة سنة. يُقال أن المدرسة الثانوية بمثابة جحيم على الأرض، و إن كانت كذلك فعلا فإن توبياس قد يكون الشيطان. لكن من المستحيل على شخص مثله أن يكون شيطانا، فليس لديه الوقت أو الطاقة أو الرغبة على الإطلاق، هذا ما أجاب صديقه عندما تفوه بذلك الهراء. إليوت يتفوه بالكثير من الأمور السخيفة، استعارات و أفكار مبهمة، لو أنه كان غير مدرك لمدى ذكاء إليوت لاستخف به كما استخف بمعظم سكان هذا الكوكب، لكن توبياس الصغير قد كبر و أدرك أن هنالك أناس أذكياء غيره في هذا العالم. بدأ قلقه بشق طريقه إلى السطح عندما بلغ الخامسة عشرة. توبياس يعلم أنه لا يزال يافعا، لكنه يعلم أيضا أن ذلك لن يدوم، كلما كان أصغر سنا كلما كان تعلم مهارات جديدة أسهل، و التعود على حياته المستقبلية أسرع. لقد أتقن خفة اليد بالفعل، فكثيرا ما يسرق محافظ الناس في مختلف الأماكن العامة ثم يعيدها دون ملاحظتهم، مجرد تدريب لا أكثر. من الأمور القليلة التي أسعدت توبياس سعادة نقية هو كون والده بالتبني شرطيا، و موافقة هذا الأخير على تعليم توبي التصويب. ليزا اعترضت في البداية، لكن جون دعم توبياس قائلا أن تعلم مثل هذه الأمور سيجعل منه رجلا أفضل، توبي قد فكر في إحدى الأيام بسخرية أنه ربما يجدر به الانضمام للشرطة للحصول على تدريبهم المكثف ثم الاستقالة، لكن ذلك سيضيع الكثير من وقته، لذا عليه الاكتفاء بما لديه الآن، و هو المساعدة الكريمة التي عرضها عليه صديقه المقرب. لم يملك توبياس أية فكرة عن الطريقة التي خولت إليوت الوصول لتقنيات القتال التي عرفها، و قد رفض الإفصاح عن مصدره، لم يكن في الأمر مشكلة بالنسبة لـ توبي، فأسرار رفيقه ملك لهذا الأخير، و الاحتفاظ بها أو كشفها شأنه الخاص. و بالحديث عن شؤون صديقه التي لا يفترض أن يتدخل فيها، فالوضع هذه الأيام لا يكاد يُطاق. أيا كانت البقعة التي يختارها هو و إليوت لتناول الغداء، فإن كوين ستظهر من خلف ظهر رفيقه، تضع يديها على كتفي إليوت و تحييه بذلك الصوت الطفوليّ الذي يكلم به الأحباء بعضهم، و بتلك البساطة يختفي صديقه تحت ظلها. عزاء توبياس الوحيد هو أن ماريا توافقه الرأي، و على الأقل لديهما بعضهما لينشغلا بعيدا عن إليوت و حبيبته 'المثالية'. توبي لن يفصح عن الأمر مطلقا بدافع الاحترام لكل من إليوت و ماريا، لكنه لا يحتمل كوين و ابتسامتها الزائفة نحوه، لا يطيق حافزها المُلِحّ في جعل الجميع يحبونها، و لا يثق في أن فتاة مثلها ستظل مخلصة لصديقه. ماريا أخبرته عدة مرات أنها ليست سطحية كما تبدو، و إليوت يتكلم عنها أحيانا و كيف أنها مختلفة و تفهمه، لكن توبياس مازال لم ير أي دليل دامغ لإثبات أقوالهما، لا يزال يعتقد أن إليوت عُمي بجمالها و مظهرها الأنيق، و أن ماريا خدعت نفسها للإيمان بأن لطفها المزيف هو اهتمام صادق، بدل رؤية حقيقة أنه ليس سوى بناء لسمعتها الاجتماعية. توبياس لم يملك الوقت لمثل هذه السخافات، لم يرد أن يملك الوقت لها، فهو على شفا تحقيق حلمه أخيرا. تقدم خلال السنتين الماضيتين خطوات كبيرة، و هو قريب، قريب جدا من الوصول إلى حيث يريد تماما، لكن الأمور لم و لن تكون بتلك البساطة مطلقا... صوت خطوات مسرعة نحوه ، توبياس كان جالسا ظهره يتكئ على الجذع الخشن لإحدى الأشجار، ذراعاه على ركبتيه، و شاشة هاتفه مصدر الضوء الوحيد وسط ظلام الغابة، على الأقل حتى ظهر إليوت مُشهرا مصباح هاتفه في وجه صديقه. رفع هذا الأخير يده ليحمي عينيه من العمى المفاجئ، و لحسن الحظ أنزل إليوت مصباحه ليتقدم و يجلس بجانب توبي، أخذ لحظة لالتقاط أنفاسه، لا بد أنه ترك دراجته عند مدخل الغابة و أسرع نحو توبياس ركضا. -"تلقيت رسالتك. ما الطارئ؟" سأل أخيرا بعد فترة صمت. تنهد توبياس و مال رأسه للخلف حتى لمس الجذع، بلغ ريقه ثم تكلم: -"جون و ليزا سيتركانني." ظل إليوت صامتا في صبر حتى واصل توبي بمرارة: -"قالت 'نحن عائلة محترمة'، لا يمكني لطفل مثلي أن يكون منهم." أنزل رأسه من جديد، ضحك ضحكة قصيرة لا سعادة فيها ثم استطرد: -"لقد حاولا حقا يا إليوت، أتعلم؟ تحملاني لأربع سنوات، حتى بعد سمعتي التي ازدادت سوءا سنة بعد الأخرى." استنشق بعمق قبل أن يواصل: -"لقد كنت أنانيا و لم أفكر بالتأثير الذي قد-- كلا، لم أهتم بتأثير أفعالي عليهم..." عيناه كانتا مبللتين، و لذا كان شاكرا للظلام الذي ساعد على إخفاء دموعه بينما أشاح بنظره بعيدا. استدعى إليوت في هذا الوقت المتأخر، أراده أن يعرف، لم يشأ أن يخبره عن طريق رسالة، و لم يستطع الانتظار حتى لقائهما التالي. -"هل انتهيت؟" سأل إليوت فجأة، نبرته معتدلة بحذر. التفت توبياس نحو صديقه، "ماذا؟" اقترب إليوت منه حتى نطح جبهة توبي بضربة وجيزة، ثم كرر: -"سألتك إن انتهيت. هل انتهيت من التفوه بالترهات عن نفسك؟" توسعت عينا توبياس في حيرة، لكن إليوت واصل و قد وجه بصره نحو السماء: -"أبي أخبرني ذات يوم أن لكل طفل عيوبه، و أن الأشخاص مثل جون و ليزا و عائلتك الأولى... يبحثون عن طفل مثالي، و ذلك أمر سخيف، فلا وجود لشيء غير عقلاني كهذا. يشفقون على أنفسهم لأنهم لم يتمكنوا من الحصول على رضيع كالصفحة البيضاء، لكن حتى لو حصلت معجزة ما و استطاعوا الإنجاب فسوف يفسدون الطفل، و حينها لن يمكنهم التخلي عنه ببساطة لأنه من لحمهم و دمهم،" التفت نحو توبي، نظر في عينيه مباشرة و وضع يدا على رأس صديقه قبل أن يتكلم: -"أنا آسف، و لكن لا يوجد ما يمكنك فعله لإصلاح أمر كهذا، فالخطأ ليس خطأك من الأصل." تركت الدموع عينيّ توبياس دون إذن منه، لم يعلم ما الشيء الصحيح لفعله، لذا قام بأول ما خطر على ذهنه، اندفع نحو صديقه و ضمه في عناق أخويّ لو أن توبياس يعرف شعور الأخوة، و اليد التي كانت على رأسه أحاطت بكتفه الآن. بعد لحظة رفع توبي رأسه و مسح دموعه ثم ابتسم و رد: -"والدك رجل حكيم بالفعل." توبياس لم يلتقِ بوالد صديقه من قبل، لكن لديه انطباع جيد عنه ابتداءً من الآن. ابتسم إليوت ابتسامة تكاد تشرق الظلمة المحيطة بهم ثم قال بحيوية: -"فقط عِدني أن لا تتخلى عن حلمك مهما حصل !" هز توبي رأسه موافقا ليجيب بعزم: -"أعدك." ثم دفع إليوت بلطف ليضيف ساخرا: -"ابتعد عني أيها الأبله." و ران صدى ضحكاتهما وسط الغابة النائمة. قضى الولدان ساعتين يجوبان الغابة و يحادثان بعضهما كما العادة إلى أن تفقّد توبياس الساعة و قرر أنه وقت مناسب للعودة، سيجد جون و ليزا نائمين، أو في غرفتهما المغلقة على الأقل، و لن يضطر لمواجهتهما لهذه الليلة. -"شكرا." قال لـ إليوت قبل أن يرحل هذا الأخير، و شعر بنفسه يبتسم كما ابتسم يوم لقائهما الأول. [ يُتبع في الرد القادم ] |