عن عبد الله بن الزبير قلت لجابر بن عبد الله ما انتهى إليكم من شأن لقمان ؟ قال كان قصيرا أفطس الأنف من النوبة . وقال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال كان لقمان من سودان مصر ذا مشافر أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة .
وقال الأوزاعي حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال جاء رجل أسود إلى سعيد بن المسيب يذكر ألمه من سواده فقال له سعيد بن المسيب لا تحزن من أجل أنك أسود فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان بلال ومهجع مولى عمر بن الخطاب ولقمان الحكيم كان أسود نوبيا ذا مشافر
وكان لقمان عبدا حبشيا نجارا فقال له مولاه اذبح لنا هذه الشاة فذبحها قال أخرجْ أطيبَ مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب، ثم مكث ما شاء الله ، ثم قال اذبح لنا هذه الشاة . فذبحها قال أخرجْ أخبث مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب فقال له مولاه :أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجتهما وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما. فقال لقمان إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا.
وكان لقمان قاضيا على بني إسرائيل في زمان داود عليه السلام،فأتاه رجل وهو في مجلس يحدث الناس، فقال له ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا ؟ قال نعم قال فما بلغ بك ما أرى ؟ قال صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني. وفي رواية قال: قدر الله وأداء الأمانة وصدق الحديث وتركي ما لا يعنيني. ولأن كونه عبدا قد مسه الرق ينافي كونه نبيا لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها. ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيا.
ووقف رجل على لقمان الحكيم فقال:أنت لقمان أنت عبد بني الحسحاس ؟ قال نعم قال أنت راعي الغنم ؟ قال نعم . قال أنت الأسود ؟ قال أما سوادي فظاهر فما الذي يعجبك من أمري ؟ قال وطء الناس بساطك وغشيُهم بابك ورضاهم بقولك قال يا ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك . ثمّ قال لقمان إنّ غضي بصري وكفي لساني وعفة طعمتي وحفظي فرجي وقولي بصدقي ووفائي بعهدي وتكرمتي ضيفي وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني هو الذي صيرني إلى ما ترى . وروي عن أبي الدرداء أنه قال يوما: ُذكر لقمان الحكيم فقال ما أوتي عن أهل ولا مال ولا حسب ولا خصال ولكنه كان رجلا صمصامة(حازماً) سِكّيتا طويل التفكر عميق النظر، وكان لا يعيد منطقا نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحدٌ.
وكان قد تزوج وولد له أولاد، وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر، فبذلك أوتي ما أوتي . وعن قتادة قال : أتاه جبريل وهو نائم فذر عليه الحكمة أو رش عليه الحكمة قال فأصبح ينطق بها،
قال تعالى " ولقد آتينا لقمان الحكمة " وهو الفهم والعلم والتعبير ووضع الأمور في نصابها والإحاطة بمجريات الأمور على قدر كبير لا يقدر عليه إلا الذين وهبهم الله سبحانه الذكاء والحكمة والنظر الثاقب . ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وكان عليه أن يحمد الله ويشكره " أن اشكر لله " ومن شكر الله تعالى ارتقى رتبة الشاكرين وعاد نفع ذلك وثوابه على الشاكرين لقوله تعالى " ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ومن شكر فإنما يشكر لنفسه "فالله تعالى يهب دائم الشكر النعمة تترى لا تنقطع . " وقوله " ومن كفر فإن الله غني حميد" غني عن العباد لا يتضرر بذلك ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعا فإنه الغني عمن سواه .
ومن ضمّ هذه السمات بلغ من المجد غايته وشاع ذكره في العالمين ونال رضا المولى فكان من الخالدين.
العاقل من وعى دروس الحياة وخبِرَها وعلّم الناس وأرشدهم فكان أستاذاً بحق ، بدأ بنفسه ثم أهله ثم الأقرب فالأقرب . وكان لقمان الحكيم من هؤلاء المربين الناجحين الذين ذكرهم القرآن الكريم وأعلى شأنهم. فتراه ينصح ولده متحبباً فيناديه بكلمة التحبب ( يا بُنَيّ ) ثلاث مرات :
1- الأولى يعظه فيها بعبادة الله تعالى وحده ، وعدم الإشراك به سبحانه." يا بُنَيّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم "
2 ـــ الثانية: بيان عظمة الله القادر على كل شيء العالم بكل شيء." يابُنَيّ إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأتِ بها الله إن الله لطيف خبير "
3- نصائح لا بد منها أمراً ونهياً ترفع شأن صاحبها وتجعله في بؤرة الرضا." يابُنَيّ أقم الصلاة وامر بالمعروف وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تُصعّر خدّك للناس ولا تمشِ في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختار فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير".
فالعظة الأولى وهي عماد الحياة توحيد الله تعالى ، فالشرك ظلم عظيم. والظلم نوعان ،
1- أما أحدهما فظلم الإنسان نفسَه في الشرك يؤدي به إلى غضب الله عليه ومعاقبته بالنار والعذاب الشديد الدائم والعياذ بالله من غضبه وعذابه.
2- وثانيهما أن يظلم الإنسانُ حقَّ ربه في إفراده بالعبادة وحده. وقد يتساءل أحدهم معترضاً : إن الظلم يكون من القوي على الضعيف ، فكيف يظلم الإنسان ربه حقَّه؟! والجواب أن اللغة العربية واسعة المعنى متسعة الافكار ، ولهذا نزل القرآن بها لأنها تتسع له وهي قادرة على توليد المعاني ، والدليل على ذلك حديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم في صحيحه :" إن الله عز وجل يقول ، يوم القيامة : يا ابن آدم ! مرضت فلم تعدني . قال : يا رب ! كيف أعودك ؟ وأنت رب العالمين . قال : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده . أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ؟ يا ابن آدم ! استطعمتك فلم تطعمني . قال : يا رب ! وكيف أطعمك ؟ وأنت رب العالمين . قال : أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ؟ يا ابن آدم ! استسقيتك فلم تسقني . قال : يا رب ! كيف أسقيك ؟ وأنت رب العالمين . قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه . أما أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي " فالمولى تعالى خالقُ المرض والطعام والماء والزمان والمكان . وهو المُحْدِثُ لكل هذا
( الذي خلق الحَدَثَ) لا يتأثر بالحَدَث ومع هذا نجد الحديث الشريف يذكر الله تعالى موجوداً عند المريض – وهو الذي لا يحدّه مكان-ويستطعم ويستسقي – وهو المنزّه عن النقصان - ليقرب المعنى إلى عبده ، فيفهم العبدُ المطلوبَ ويعمل به,
والملفت للنظر بل الجميل في المعنى والمبنى – أيضاً- أن بين الموعظة الأولى والموعظة الثانية آيتين لهما علاقة بالبر بالوالدين ذكرهما القرآن الكريم للتأكيد على الإحسان إليهما ، فالآباء هم الذين يربون أبناءهم على الإيمان بالله ويدلونهم على طريقه . ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: " ولد الإنسان على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينَصّرانه أو يُمَجّسانه " فكما أنّ علينا واجبَ الشكر لله فمن واجبنا أن نشكر آباءنامع شكرنا لله تعالى " أن اشكر لي ولوالديك " فالله تعالى سبب الخلق والأباء السبب المباشر لوجودنا. والشكر للطرفين واجب على أن لا يتعارض شكر الوالدين بشكر الله تعالى فشكره – سبحانه- المقدّم. ويوجه القرآن الأبناء إلى معاملة آبائهم المعاملةالطيبة ولو كان الآباء مشركين فحسابهم الاعتقاديّ على الله .
والعظة الثانية تعليل لوجوب عبادة الله وتوحيده ، فهو سبحانه العالم بكل شيء المتصرف بكل شيء والقادر عليه . والقرآن يعلمنا قاعدة مهمة في الحياة : (التعليل ) فمتى اقتنع الإنسان بأمر فعله والتزمه وثابر على أدائه.
والعظة الثالثة أوامر ونواهٍ .وهكذا الحياة بقوانينها وأنظمتها كما أن الأوامر عادة ما تكون أكثر من النواهي . فالنواهي هنا أربع ( لا تشرك بالله ، لا تطعهما ، لا تصعّر ، لا تمشِ) والأوامر أكثر فهي تسعٌ( اشكر، صاحبهما، اتّبِعْ، أقم الصلاة، وامر بالمعروف، انهَ ،اصبرْ، اقصِد، اغضضْ) وهي وإن كانت على شكل نصائح فهي قواعد لا بد من التزامها فالحياة تقوم عليها ، وهي عصارة تجارب المرء المجرب العاقل الذي خبر الحياة نظراً وتأملاً وعملاً
كما أن لقمان يذيّل بعض نصائحه بحكمة مناسبة فبعد قوله: "اصبر على ما أصابك "ذيّلها بقوله:" إن ذلك لمن عزم الأمور " وحين نهاه عن التكبر والتعالي على الناس ذيلها بقوله" إن الله لا يحب كل مختال فخور " وحين نهاه عن رفع الصوت برره قائلاً " إن أنكر الأصوات لصوتُ الحمير " ومن يكره نتائج الصبر ولا يخاف الله ومن يحب أن يقرن صوته العالي بصوت الحمار؟
إنها وصايا عقَدية وأدبية وخُلقية واجتماعية إذا التزمَتْها أمةٌ ارتقت وتصدرت ركب الحضارة .
فهل نشمر عن ساعد الجد لنكون خير أمة أخرجت للناس.