فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِياًّ
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في منتصف سورة مريم, وهي سورة مكية, وآياتها ثمان وتسعون(98) بعد البسملة.
وقد سميت بهذا الاسم تكريما للسيدة مريم البتول، التي أوردت السورة معجزة حملها بابنها عيسي دون أب, ووضعها إياه وليدا يتكلم وهو في المهد. ويدور المحور الرئيسي لسورة مريم حول قضية العقيدة الإسلامية ـ شأنها في ذلك شأن كل السور المكية ـ هذا, وقد سبق لنا استعراض هذه السورة الكريمة, وما جاء فيها من ركائز العقيدة والإشارات العلمية, ونركز هنا على ومضة الإعجاز التاريخي في ذكر يعقوب ـ عليه السلام ـ في القرآن الكريم, بعد أن سبق لنا استعراض ذلك بالنسبة إلى ذكر أبيه إسحاق ـ عليه السلام ـ.
من أوجه الإعجاز التاريخي في ذكر نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ جاء ذكر يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهم السلام ـ ستة عشر مرة في كتاب الله, كما جاءت الإشارة إليه باسم إسرائيل (أي: عبد الله) مرتين [آل عمران:93, مريم:58], بالإضافة إلى ذكره بوصفه أبا لنبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ أو لأحد إخوته, أو لهم جميعا في سورة يوسف. ومن ذلك قول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ عن عبده ونبيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ ما نصه: ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِياًّ * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياًّ ﴾ [مريم:49 ـ50]
وهاتان الآيتان الكريمتان جاءتا بعد حوار إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع أبيه, ذلك الحوار الهادئ الرصين من جانب إبراهيم, الابن المؤمن, المؤدب, اللطيف, المهذب, صاحب الرسالة السماوية الذي يحاول جهده هداية أبيه إلى الحق الذي جاءه من الله ـ تعالى ـ بأرق عبارة ممكنة, وبأفضل أساليب التودد والتحبب من ابن وفي لحقوق الأبوة, بار بها, والرد القاسي الجافي المشبع بالاستنكار والتهديد والوعيد من جانب الأب المشرك عابد الأصنام والأوثان والنجوم والكواكب, الذي طرد ابنه من حضرته مهددا إياه بالقتل إن لم يعد إلى عبادة ما يعبد أبوه وقومه.
ويرد الابن المؤمن البار الوفي إبراهيم ـ عليه السلام ـ على أبيه بما يرويه القرآن الكريم: ﴿ قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِياًّ * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِياًّ ﴾ [ مريم:47 ـ48].
وهنا تتنزل رحمات الله وفضله على عبده إبراهيم الذي اعتزل أباه وأهله وقومه, وهجر دياره فرارا بدينه من بطش الجاهلين, وجهالة الكفار والمشركين فقال ـ تعالى ـ: ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِياًّ * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياًّ ﴾ [مريم:49 ـ50].
وإسحاق هو الابن الثاني لإبراهيم الذي رزقه الله ـ تعالى ـ إياه بمعجزة خارقة للعادة; لأنه وهب ذلك الابن الصالح على الكبر من زوجته سارة التي كانت عجوزا عقيما, وذلك استجابة إلى دعاء إبراهيم وهو العبد الصالح والرسول الصالح جزاء جهاده في سبيل الدعوة إلى عبادة الله ـ تعالى ـ وحده.
ويعقوب هو ابن إسحاق, وابن الابن يعتبر ابنا, خاصة إذا ولد في حياة جده, وهكذا كان يعقوب الذي نشأ في حجر جده, فتعلم منه الإسلام من قبل أن تأتيه النبوة, وهكذا كان أبوه إسحاق من قبله ولذلك قال ـ تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياًّ ﴾ [ مريم:50]
أي فكانوا (إبراهيم وإسحاق ويعقوب) صادقين في دعوتهم, مصدقين من الذين آمنوا معهم, محفوفين منهم بما يليق بهم بمقام نبوتهم من الطاعة والاحترام والتكريم, وإن حاربهم أهل الكفر والشرك والضلال كما هي طبيعة الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل عبر التاريخ.
ولم يذكر القرآن أية تفاصيل عن حياة نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ على الرغم من ورود ذكره ستة عشر مرة في كتاب الله, ولكن تشير بعض الآثار إلى أنه ولد في فلسطين, ثم رحل إلى آرام من أرض بابل بالعراق, وتزوج هنالك من بنات خاله, ورزقه الله ـ تعالى ـ اثني عشر ولدا عرفوا باسم أسباط بني إسرائيل. ثم رحل يعقوب ـ عليه السلام ـ إلى مصر في زمن القحط الذي كان قد أصاب المنطقة العربية؛ وذلك للحاق بولده يوسف ـ عليه السلام ـ الذي جعله الله ـ تعالى ـ على خزائن مصر, ومات يعقوب بمصر, ولكن ولده يوسف نقله إلى مدينة الخليل, حيث تم دفنه فيها مع توءمه عيص الذي يعرف عند اليهود باسم(Esau).
وعلى الرغم من إجمال القرآن الكريم لإشاراته عن نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ إلا أن درسا هائلا في العقيدة يمكن استقاؤه من موقف من المواقف الرئيسية في سيرة هذا النبي الصالح, وهو موقفه مع بنيه لحظة احتضاره والذي يصفه القرآن الكريم بقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة:133,132].
وتمتدح أولي هاتين الآيتين الكريمتين نبي الله إبراهيم وحفيده يعقوب ـ عليهما السلام ـ إذ أمر الله ـ تعالى ـ عبده ورسوله إبراهيم بالإسلام فاستجاب على الفور لأمر ربه, ولم يكتف بذلك, فذكر أبناءه بأن الله ـ تعالى ـ قد اصطفى لهم الإسلام دينا, ولذلك أوصاهم بالاستمساك بهذا الدين القويم الذي لا يرتضي ربنا ـ تبارك وتعالى ـ من عباده دينا سواه, وأخذ عليهم العهد ألا يموتوا إلا على الإسلام الخالص القائم على التوحيد الكامل لله ـ تعالى ـ وعلى تنزيهه ـ سبحانه ـ عن جميع صفات خلقه وعن كل وصف لا يليق بجلاله, وكذلك فعل حفيده يعقوب ـ عليه السلام ـ مع بنيه فأوصاهم بالاستمساك بالإسلام وتطبيقه نظاما كاملا شاملا للحياة, والدعوة إليه, والموت عليه.
أما الآية الثانية فتتوجه بالخطاب إلى الذين يدعون كذبا نسبتهم إلى هذا النبي الصالح: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهم جميعا من الله السلام ـ فتقول لهم: هل كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت فعرفتم العقيدة التي مات عليها؟ ألا فلتعلموا أيها الضالون عن الحق حقيقة أن يعقوب ـ عليه السلام ـ حينما حضره الموت دعا إليه جميع بنيه وقال لهم: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة:133].
وفي ذلك إعلان لوحدة رسالة السماء المنبثقة من وحدانية الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ وتأكيد الأخوة بين الأنبياء, وهاتان الحقيقتان هما من القيم اللازمة لاستقامة الحياة على الأرض, خاصة في زمن الفتن الذي يعيشه إنسان اليوم.
وعلى الذين يتشدقون كذبا بالنسبة إلى إبراهيم ـ عليه السلام ـ تارة ـ وإلى يعقوب ـ عليه السلام ـ تارة أخرى أن يقرأوا هاتين الآيتين الكريمتين ليدركوا أن الدين ليس ميراثا يورث, ولكنه قناعة قلبية وعقلية كاملة لا علاقة لها بالدم والنسب, وهو قرار يتخذه كل راشد بعد دراسة وتمحيص دقيق يصل به إلى تلك القناعة القلبية والعقلية الكاملة, وهو ـ قبل ذلك ـ مسئولية الآباء تجاه الأبناء, ولذلك يقول المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " كفي بالمرء إثما أن يضيع من يقوت " [ سنن أبي داود].
ويرد ربنا ـ تبارك وتعالى ـ على هؤلاء الذين يتخيلون أن الإيمان يمكن أن يكتسب بمجرد النسب بقوله الحق الذي يقول فيه: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِياًّ وَلاَ نَصْرَانِياًّ وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران:67].
ويتضح لنا من هذا الاستعراض أن هذا الموقف الجليل من يعقوب ـ عليه السلام ـ وهو يعظ بنيه في لحظة احتضاره هو الدرس الأساسي المستفاد من عرض القرآن الكريم لسيرة هذا النبي الصالح.
فيعقوب ـ عليه السلام ـ قد حضره الموت, وجاءته ساعة الاحتضار, وهي لحظة رهيبة تعد أصعب اللحظات التي يمكن للإنسان أن يمر بها في حياته; فهو يغادر الدنيا, يغادر الأهل والأبناء والأصحاب, يترك ثروته من ورائه ـ إن كانت له ثروة ـ لا يدري ماذا سيفعل بها, يترك داره إلى ظلمة القبر وضيقه, وإلى هول الحساب وشدته; يتذكر أعماله فيستغفر ويتوب عن السيئات, ويرجو قبول الحسنات, وترتجف فرائصه من المستقبل المجهول!! ولكن نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ لم يشغل باله شيء من ذلك بقدر ما شغله تثبيت أبنائه على الإسلام الذي تعلمه من آبائه في الصغر, وعلمه الله ـ تعالى ـ إياه في الكبر, وأدرك أن هذا الدين هو طوق النجاة في الدنيا والآخرة, فأراد أن يكون الإسلام الخالص القائم على التوحيد الكامل لله هو الميراث الذي يورثه لأبنائه, ووصيته الأخيرة لهم وهو في سكرات الموت ولحظات الاحتضار, والذي يأخذ عليه العهد منهم أن يعيشوا به, وأن يدعوا إليه, وأن يموتوا عليه, كي يكون قد أبرأ ذمته أمام الله, وحملهم أمانة المسئولية عن الإسلام.
والدرس المستفاد من هذا الموقف الكريم هو إشعار كل والد بمسئوليته عن أولاده (صغارا وكبارا) وأن من أولويات تلك المسئولية أن يعرف كل واحد منهم عقيدته الصحيحة معرفة دقيقة, حتى يعيش بها, ويموت عليها فيحقق الهدف من وجوده في الحياة الدنيا: عبدا لله ـ تعالى ـ يعبده ـ سبحانه ـ بما أمره, ومستخلفا ناجحا في الأرض, مطالبا بعمارتها وإقامة شرع الله وعدله فيها, وهذا لا يمكن أن يتم بغير هداية ربانية, وهذه الهداية الربانية علمها الله ـ تعالى ـ لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ لحظة خلقه, وأنزلها على سلسلة طويلة من أنبيائه ورسله, ثم أكملها وأتمها, وحفظها في القرآن الكريم, وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين, وسماها باسم الإسلام, ولذلك قال ـ تعالى ـ : ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ﴾ [آل عمران:19].
وقال ـ عز من قائل ـ: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [ آل عمران:85].
وهذه الحقيقة هي من أروع جوانب الإعجاز العقدي في كتاب الله; لأن كل شيء في الوجود يشير إلى الوحدانية المطلقة للخالق ـ سبحانه وتعالى ـ التي يقوم على أساسها الإسلام دين الله.
وموقف يعقوب ـ عليه السلام ـ مع بنيه لحظة احتضاره يمثل وجها من أوجه الإعجاز التاريخي في كتاب الله; لأن يعقوب ـ عليه السلام ـ عاش في الألفية الثانية قبل الميلاد, وهذا الموقف الكريم منه استأثر به القرآن المجيد, ولم يرد له ذكر في كتب الأولين, فالحمد لله على نعمة الإسلام, والحمد لله على نعمة القرآن, والحمد لله على بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عن موقع الدكتور زغلول النجار
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في منتصف سورة مريم, وهي سورة مكية, وآياتها ثمان وتسعون(98) بعد البسملة.
وقد سميت بهذا الاسم تكريما للسيدة مريم البتول، التي أوردت السورة معجزة حملها بابنها عيسي دون أب, ووضعها إياه وليدا يتكلم وهو في المهد. ويدور المحور الرئيسي لسورة مريم حول قضية العقيدة الإسلامية ـ شأنها في ذلك شأن كل السور المكية ـ هذا, وقد سبق لنا استعراض هذه السورة الكريمة, وما جاء فيها من ركائز العقيدة والإشارات العلمية, ونركز هنا على ومضة الإعجاز التاريخي في ذكر يعقوب ـ عليه السلام ـ في القرآن الكريم, بعد أن سبق لنا استعراض ذلك بالنسبة إلى ذكر أبيه إسحاق ـ عليه السلام ـ.
من أوجه الإعجاز التاريخي في ذكر نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ جاء ذكر يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهم السلام ـ ستة عشر مرة في كتاب الله, كما جاءت الإشارة إليه باسم إسرائيل (أي: عبد الله) مرتين [آل عمران:93, مريم:58], بالإضافة إلى ذكره بوصفه أبا لنبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ أو لأحد إخوته, أو لهم جميعا في سورة يوسف. ومن ذلك قول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ عن عبده ونبيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ ما نصه: ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِياًّ * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياًّ ﴾ [مريم:49 ـ50]
وهاتان الآيتان الكريمتان جاءتا بعد حوار إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع أبيه, ذلك الحوار الهادئ الرصين من جانب إبراهيم, الابن المؤمن, المؤدب, اللطيف, المهذب, صاحب الرسالة السماوية الذي يحاول جهده هداية أبيه إلى الحق الذي جاءه من الله ـ تعالى ـ بأرق عبارة ممكنة, وبأفضل أساليب التودد والتحبب من ابن وفي لحقوق الأبوة, بار بها, والرد القاسي الجافي المشبع بالاستنكار والتهديد والوعيد من جانب الأب المشرك عابد الأصنام والأوثان والنجوم والكواكب, الذي طرد ابنه من حضرته مهددا إياه بالقتل إن لم يعد إلى عبادة ما يعبد أبوه وقومه.
ويرد الابن المؤمن البار الوفي إبراهيم ـ عليه السلام ـ على أبيه بما يرويه القرآن الكريم: ﴿ قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِياًّ * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِياًّ ﴾ [ مريم:47 ـ48].
وهنا تتنزل رحمات الله وفضله على عبده إبراهيم الذي اعتزل أباه وأهله وقومه, وهجر دياره فرارا بدينه من بطش الجاهلين, وجهالة الكفار والمشركين فقال ـ تعالى ـ: ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِياًّ * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياًّ ﴾ [مريم:49 ـ50].
وإسحاق هو الابن الثاني لإبراهيم الذي رزقه الله ـ تعالى ـ إياه بمعجزة خارقة للعادة; لأنه وهب ذلك الابن الصالح على الكبر من زوجته سارة التي كانت عجوزا عقيما, وذلك استجابة إلى دعاء إبراهيم وهو العبد الصالح والرسول الصالح جزاء جهاده في سبيل الدعوة إلى عبادة الله ـ تعالى ـ وحده.
ويعقوب هو ابن إسحاق, وابن الابن يعتبر ابنا, خاصة إذا ولد في حياة جده, وهكذا كان يعقوب الذي نشأ في حجر جده, فتعلم منه الإسلام من قبل أن تأتيه النبوة, وهكذا كان أبوه إسحاق من قبله ولذلك قال ـ تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياًّ ﴾ [ مريم:50]
أي فكانوا (إبراهيم وإسحاق ويعقوب) صادقين في دعوتهم, مصدقين من الذين آمنوا معهم, محفوفين منهم بما يليق بهم بمقام نبوتهم من الطاعة والاحترام والتكريم, وإن حاربهم أهل الكفر والشرك والضلال كما هي طبيعة الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل عبر التاريخ.
ولم يذكر القرآن أية تفاصيل عن حياة نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ على الرغم من ورود ذكره ستة عشر مرة في كتاب الله, ولكن تشير بعض الآثار إلى أنه ولد في فلسطين, ثم رحل إلى آرام من أرض بابل بالعراق, وتزوج هنالك من بنات خاله, ورزقه الله ـ تعالى ـ اثني عشر ولدا عرفوا باسم أسباط بني إسرائيل. ثم رحل يعقوب ـ عليه السلام ـ إلى مصر في زمن القحط الذي كان قد أصاب المنطقة العربية؛ وذلك للحاق بولده يوسف ـ عليه السلام ـ الذي جعله الله ـ تعالى ـ على خزائن مصر, ومات يعقوب بمصر, ولكن ولده يوسف نقله إلى مدينة الخليل, حيث تم دفنه فيها مع توءمه عيص الذي يعرف عند اليهود باسم(Esau).
وعلى الرغم من إجمال القرآن الكريم لإشاراته عن نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ إلا أن درسا هائلا في العقيدة يمكن استقاؤه من موقف من المواقف الرئيسية في سيرة هذا النبي الصالح, وهو موقفه مع بنيه لحظة احتضاره والذي يصفه القرآن الكريم بقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة:133,132].
وتمتدح أولي هاتين الآيتين الكريمتين نبي الله إبراهيم وحفيده يعقوب ـ عليهما السلام ـ إذ أمر الله ـ تعالى ـ عبده ورسوله إبراهيم بالإسلام فاستجاب على الفور لأمر ربه, ولم يكتف بذلك, فذكر أبناءه بأن الله ـ تعالى ـ قد اصطفى لهم الإسلام دينا, ولذلك أوصاهم بالاستمساك بهذا الدين القويم الذي لا يرتضي ربنا ـ تبارك وتعالى ـ من عباده دينا سواه, وأخذ عليهم العهد ألا يموتوا إلا على الإسلام الخالص القائم على التوحيد الكامل لله ـ تعالى ـ وعلى تنزيهه ـ سبحانه ـ عن جميع صفات خلقه وعن كل وصف لا يليق بجلاله, وكذلك فعل حفيده يعقوب ـ عليه السلام ـ مع بنيه فأوصاهم بالاستمساك بالإسلام وتطبيقه نظاما كاملا شاملا للحياة, والدعوة إليه, والموت عليه.
أما الآية الثانية فتتوجه بالخطاب إلى الذين يدعون كذبا نسبتهم إلى هذا النبي الصالح: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهم جميعا من الله السلام ـ فتقول لهم: هل كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت فعرفتم العقيدة التي مات عليها؟ ألا فلتعلموا أيها الضالون عن الحق حقيقة أن يعقوب ـ عليه السلام ـ حينما حضره الموت دعا إليه جميع بنيه وقال لهم: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة:133].
وفي ذلك إعلان لوحدة رسالة السماء المنبثقة من وحدانية الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ وتأكيد الأخوة بين الأنبياء, وهاتان الحقيقتان هما من القيم اللازمة لاستقامة الحياة على الأرض, خاصة في زمن الفتن الذي يعيشه إنسان اليوم.
وعلى الذين يتشدقون كذبا بالنسبة إلى إبراهيم ـ عليه السلام ـ تارة ـ وإلى يعقوب ـ عليه السلام ـ تارة أخرى أن يقرأوا هاتين الآيتين الكريمتين ليدركوا أن الدين ليس ميراثا يورث, ولكنه قناعة قلبية وعقلية كاملة لا علاقة لها بالدم والنسب, وهو قرار يتخذه كل راشد بعد دراسة وتمحيص دقيق يصل به إلى تلك القناعة القلبية والعقلية الكاملة, وهو ـ قبل ذلك ـ مسئولية الآباء تجاه الأبناء, ولذلك يقول المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " كفي بالمرء إثما أن يضيع من يقوت " [ سنن أبي داود].
ويرد ربنا ـ تبارك وتعالى ـ على هؤلاء الذين يتخيلون أن الإيمان يمكن أن يكتسب بمجرد النسب بقوله الحق الذي يقول فيه: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِياًّ وَلاَ نَصْرَانِياًّ وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران:67].
ويتضح لنا من هذا الاستعراض أن هذا الموقف الجليل من يعقوب ـ عليه السلام ـ وهو يعظ بنيه في لحظة احتضاره هو الدرس الأساسي المستفاد من عرض القرآن الكريم لسيرة هذا النبي الصالح.
فيعقوب ـ عليه السلام ـ قد حضره الموت, وجاءته ساعة الاحتضار, وهي لحظة رهيبة تعد أصعب اللحظات التي يمكن للإنسان أن يمر بها في حياته; فهو يغادر الدنيا, يغادر الأهل والأبناء والأصحاب, يترك ثروته من ورائه ـ إن كانت له ثروة ـ لا يدري ماذا سيفعل بها, يترك داره إلى ظلمة القبر وضيقه, وإلى هول الحساب وشدته; يتذكر أعماله فيستغفر ويتوب عن السيئات, ويرجو قبول الحسنات, وترتجف فرائصه من المستقبل المجهول!! ولكن نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ لم يشغل باله شيء من ذلك بقدر ما شغله تثبيت أبنائه على الإسلام الذي تعلمه من آبائه في الصغر, وعلمه الله ـ تعالى ـ إياه في الكبر, وأدرك أن هذا الدين هو طوق النجاة في الدنيا والآخرة, فأراد أن يكون الإسلام الخالص القائم على التوحيد الكامل لله هو الميراث الذي يورثه لأبنائه, ووصيته الأخيرة لهم وهو في سكرات الموت ولحظات الاحتضار, والذي يأخذ عليه العهد منهم أن يعيشوا به, وأن يدعوا إليه, وأن يموتوا عليه, كي يكون قد أبرأ ذمته أمام الله, وحملهم أمانة المسئولية عن الإسلام.
والدرس المستفاد من هذا الموقف الكريم هو إشعار كل والد بمسئوليته عن أولاده (صغارا وكبارا) وأن من أولويات تلك المسئولية أن يعرف كل واحد منهم عقيدته الصحيحة معرفة دقيقة, حتى يعيش بها, ويموت عليها فيحقق الهدف من وجوده في الحياة الدنيا: عبدا لله ـ تعالى ـ يعبده ـ سبحانه ـ بما أمره, ومستخلفا ناجحا في الأرض, مطالبا بعمارتها وإقامة شرع الله وعدله فيها, وهذا لا يمكن أن يتم بغير هداية ربانية, وهذه الهداية الربانية علمها الله ـ تعالى ـ لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ لحظة خلقه, وأنزلها على سلسلة طويلة من أنبيائه ورسله, ثم أكملها وأتمها, وحفظها في القرآن الكريم, وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين, وسماها باسم الإسلام, ولذلك قال ـ تعالى ـ : ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ﴾ [آل عمران:19].
وقال ـ عز من قائل ـ: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [ آل عمران:85].
وهذه الحقيقة هي من أروع جوانب الإعجاز العقدي في كتاب الله; لأن كل شيء في الوجود يشير إلى الوحدانية المطلقة للخالق ـ سبحانه وتعالى ـ التي يقوم على أساسها الإسلام دين الله.
وموقف يعقوب ـ عليه السلام ـ مع بنيه لحظة احتضاره يمثل وجها من أوجه الإعجاز التاريخي في كتاب الله; لأن يعقوب ـ عليه السلام ـ عاش في الألفية الثانية قبل الميلاد, وهذا الموقف الكريم منه استأثر به القرآن المجيد, ولم يرد له ذكر في كتب الأولين, فالحمد لله على نعمة الإسلام, والحمد لله على نعمة القرآن, والحمد لله على بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عن موقع الدكتور زغلول النجار