بَيَّن الله - تبارك وتعالى - في مطْلع آيات سورة الحج بذلك النِّداء العظيم للناس كلهم، من المؤمنين، وأهل الكتاب، والمشركين إلى يوم القيامة؛ ليتلقَّوا الأمر بتقوى الله وخشيته، بحسب حالهم من التلبُّس بما نهى الله عنه، والتفريط فيما أمر به؛ ليسْتَبْدلوا ذلك بضده؛ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} (الحج).
أي: يا أيها الناس، احذروا عقاب الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فإنَّ ما يحدث عند قيام الساعة من أهوال، وحركة شديدة للأرض، تَتَصَدَّع منها كلُّ جوانبها - شيءٌ عظيم، لا يقدِّر قدره، ولا يبلغ كُنهه، ولا يعلم كيفيَّته إلا ربُّ العالمين.
يوم ترون قيام الساعة تنسَى الوالدةُ رضيعَها، الذي ألقمته ثديها؛ لِمَا نزل بها منَ الكرْب، وتُسْقط الحامل حملها من الرُّعب، وتغيب عقول الناس، فهم كالسُّكارى من شدَّة الهَوْل والفزَع، وليسوا بسكارى منَ الخمر، ولكن شدة العذاب أَفْقدتهم عُقُولهم وإدراكهم.
ثم بَيَّن - سبحانه - النِّهاية السعيدة لِمَن اتَّقى واستجاب لربِّه الرحمن، الذي أعَدَّ لعباده المؤمنين منَ النعيم المُقيم الشيءَ العظيم في دار رحمته؛ حيث قال - تبارك وتعالى -: { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج: 23].
إن الله - تعالى - يُدخل أهل الإيمان والعمل الصالح جنات نعيمُها دائم، تجْري مِن تحت أشجارها الأنهار، يُزَيَّنون فيها بأساور الذهب وباللؤلؤ، ولباسهم المعتاد في الجنة الحرير، رجالاً ونساءً؛
{ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } [الحج: 24].
لقد هداهم الله في الدُّنيا إلى طيب القول، من كلمة التوحيد، وحَمْد الله، والثناء عليه، وفي الآخرة إلى حمده على حُسن العاقبة، كما هداهم من قبلُ إلى طريق الإسلام المحمود الموصل إلى الجنة.
وكذلك هو الحال بحُجَّاج بيت الله الحرام، قد ساروا إلى الله بإيمان وعمل صالح زادهم، ولباسهم هو التقوى، وطيب أقوالهم وألسنتهم ذِكْر الله والدعاء، قد جدُّوا واجتهدوا؛ ( والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ).
وهو - سبحانه - الحكيمُ الحميد الذي لا يرتضي الظُّلم في أرضه، وقد حرَّمه - تعالى - بين عباده؛ { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة: 114].
فإذا كان الأمر كذلك، فالويل لمن وقف في طريق عباد الرحمن السائرين إلى الله، والوافدين إلى بيته الأمين؛ { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الحج: 25].
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }: فكما كان سبب استحقاق المؤمنين ذلك النعيم اتباعهم صراط الله؛ { وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } [الحج: 24]، كذلك كان سبَبُ استحقاق المشركين ذلك العذَاب هو أنهم كفروا بالله، وكذبوا بما جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنهم يمنعون غيرهم من الدخول في دين الله، ويصدون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين عن المسجد الحرام كما في عام (الحديبية).
والصد عن سبيل الله ناشئ عن الكفر، وما يزال صدُّهم مستمرًّا؛ كقوله - تعالى -:
{ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ } [البقرة: 217]، وقوله - تعالى -:
{ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [الفتح: 25]، وقوله - تعالى -:
{ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا } [المائدة: 2].
وفي هذا بيان لحقِّ المسلمين في المسجد الحرام، وتهويل أمْر الإلحاد فيه، والتنويه به، وتنزيهه عن أن يكونَ مأوى للشِّرْك، ورِجْس الظلْم والعُدوان.
لذا جاء التأكيد بـ{ إنَّ }؛ للاهتمام به، وجاء قوله: { كَفَرُوا } بصيغة الماضي؛ لأنَّ فعلهم صار كاللقب لهم، وجاء الفعل {يصدُّون} بصيغة المضارع؛ للدلالة على تكرر ذلك منهم، وأنه دأبهم، وهذا التركيب في هذه الآية كقوله - تعالى -: { الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28]؛ أي: ومِن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله.
{ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }: وسبيل الله هو الإسلام، الذي هو دين الله وسبيله الواصل إليه، وهو طريقه الذي شرعه للناس، ونهجه الذي اختاره للعباد، وقد صدّوا المسلمين عن دخول المسجد الحرام والطواف بالبيت بعد الهجرة، ومن ذلك ما صنعوه يوم الحديبية، والصد: هو المنْع، فصدهم عنه هو الذي حقَّق لهم عذاب النار، كما حقق اهتداءُ المؤمنين إليه بأن لهم نعيمَ الجنة.
وخبر { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } محذوف، تقديره: نُذيقهم من عذاب أليم، دلَّ عليه قولُه في الجملة الآتية: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }.
{ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }، وخصَّ الصد عن المسجد الحرام بالذِّكْر؛ للاهتمام به، ولينتقل منه إلى التنويه بالمسجد الحرام، وذِكْر بنائه، وشرع الحج له من عهد إبراهيم، وهو الذي جعله الله للناس منطقة أمان ودار سلام، وواحة اطمئنان، فهو بيتُ الله الذي يتساوَى فيه عباد الله، فلا يملكه أحدٌ منهم، ولا يمتاز فيه أحدٌ منهم، فيه تُحقن الدِّماء، ويجد كل أحد فيه مأمنه ومأواه، لا تفضُّلاً مِن أحد، ولكن حقًّا يتساوى فيه الجميع؛ فإن الله جعلَه لجميع المؤمنين.
والمسجد الحرام، قيل: إنه المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن، لأنه لم يذكر غيره، وقيل: الحرم كله؛ لأن المشركين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجًا عنه؛ قال الله - تعالى -: { وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [الفتح: 25]، وقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [الإسراء: 1].
{ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء }؛ أي: للصلاة والطواف والعبادة، وهو كقوله - تعالى -: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 96].
فهم يصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفْس الأمر؛ لذلكيقول - تعالى - مُنكرًا على الكفَّار في صَدِّهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام، وقضاء مناسكهم فيه، ودعواهم أنهم أولياؤه: { وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [الأنفال: 34].
{ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ }، ولا خلاف بين المسلمين في أنَّ الناس سواء في أداء المناسك بالمسجد الحرام وما يتبعه؛ إلاّ ما منعته الشريعة - كطواف الحائض بالكعبة - فيستوي في أحقية التعبّد به {العَاكِفُ فِيهِ}؛ أي: الملازم له في أحوال كثيرة، المقيم فيه، والمستقر في المسجد، والساكن بمكة؛ لأنَّ الساكن بمكة يعكف كثيرًا في المسجد الحرام، وفي ذكر العكوف تعريض بأنهم لا يستحقون بسكنى مكة مزية على غيرهم، وبأنهم حين يمنعون الخارجين عن مكة من الدخول للكعبة قد ظلموهم باستئثارهم بمكة.
{ وَالبَادِ }؛ أي: القادم إليه والبعيد عنه إذا دخله، ومنهم أهل البادية ومَن يقدم عليهم، فقد جعله الله شرعًا؛ سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك، لا فرق فيه بين المقيم فيه الحاضر، والنائي عنه البعيد الدار منه، فليس أهل مكة أحق من النازح إليه.
لذلك؛ يُقال للذين يحجزون الأماكن لحسابهم في بيت الله الحرام خاصة، وفي بيوت الله عامة: أريحوا أنفسكم، فالمكان محجوز عند الله لمن سبق، لا لمن وضع سجادته، وشغل بها المكان.
وهناك من أهل العلم من قال: لا يجوز تأجير البيوت في مكة، فمَنْ أراد أن ينزل في بيت ينزل فيه دون أجرة حتى يستوي المقيم والغريب، وهذا الرأي مرْدُود عليه بأن البيوت مكان ومكين، وأرض مكة كانتْ للجميع حين كان المكان حُرًّا يبني فيه مَن أراد، أمَّا بعد أن بَنَى بيتًا وسكنه، أصبح مكينًا فيه، لا يجوز لأحد دخوله إلا بإذنه وإرادته.
ويؤيده قول الشافعي - رحمه الله -: لو كان الأمر كذلك، لما قال - سبحانه - في المهاجرين: { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } [الحشر: 8]، فنَسب الديار إليهم، ولَمَا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل مكة: ( وهل ترك لنا عقيل من دار أو من ربع؟ )، وكوْنُ عقيل يبيع دُورهم بعد أن هاجروا، فهذا دليل على ملكيتهم لها.
{ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ }:
والإلحاد في اللغة أصله: الميل، والمراد بالإلحاد في الآية: الانحراف عن الاستقامة وسواء الأمور، وأن يحيد عن دِين الله الذي شرَعه، ويعمُّ ذلك كلَّ ميلٍ وحيدة عن الدين، ويدخل في ذلك دخولاً أوليًّا الكفرُ بالله، والشركُ به في الحَرَم، وفعلُ شيءٍ مما حرَّمه، وتركُ شيء مما أوجبه، ومن أعظم ذلك: انتهاكُ حُرُمات الحرم.
والباء في "بإلحاد" للتوكيد؛ أي: من يُرد إلحادًا وبُعدًا عن الحق والاستقامة، وذلك صدهم عن زيارته.
وقوله: { بِظُلْمٍ }؛ أي: عامدًا قاصدًا أنه ظلم، ليس بمتأوّل، وعن ابن عباس: هو التعمُّد، وعنه أيضًا: { بِظُلْمٍ }: بشرك، وقال مجاهد: أن يعبد فيه غير الله، وكذا قال قتادة، وغير واحد، وقال العوفي: عن ابن عباس: { بِظُلْمٍ }: هو أن تَستحلَّ من الحرم ما حَرَّم الله عليك من لسان أو قتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك، فإذا فَعَلَ ذلك، فقد وجب له العذابُ الأليم.
وقال مجاهد: { بِظُلْمٍ }: يعمل فيه عملاً سيئًا.
والظلم يُطلَق على الإشراك، وعلى المعاصي؛ لأنها ظلم للنفس، والباء في "بظلم" للملابسة، فالظلم: الإشراك؛ لأن المقصود تهديدُ المشركين الذين حمَلَهم الإشراكُ على مناوأة المسلمين، ومنعِهم من زيارة المسجد الحرام.
والمراد: من يرد في المسجد الحرام الميْلَ عن الحق ظلمًا، فيَعْصِ الله فيه، نُذِقْه مِن عذابٍ أليم موجع.
فالمُلحد في المسجد الحرام قد خالف بإلحاده فيه ما أراده الله من تطهيره، حتى أمر ببنائه، والتخلُّص من ذلك إلى إثبات ظلم المشركين، وكفرانهم نعمةَ الله في إقامة المسجد الحرام وتشريع الحج.
بل جاء المعنى على مجرد الهمِّ فيه، وهذا من دقائق التعبير؛ ففيه التهديد والوعيد على مجرد الإرادة؛ زيادةً في التحذير، ومبالغة في التوكيد؛ حيث قال - تعالى -: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } [الحج: 25]؛ أي: يَهُمّ فيه بأمرٍ فظيع من المعاصي الكبار، فمجردُ إرادة الظلم والإلحاد في الحرم موجبٌ للعذاب، وإن كان غيره لا يُعاقَب العبدُ عليه إلا بعمل الظلم، فكيف بمن أتى فيه أعظمَ الظلم، من الكفر والشرك، والصدِّ عن سبيله، ومنعِ من يريده بزيارة؟! فما ظنكم أن يفعل الله بهم؟!
وفي هذه الآية الكريمة: وجوبُ احترام الحرم، وشدةُ تعظيمه، والتحذير من إرادة المعاصي فيه وفعلها.
وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقَب البادي فيه الشر، إذا كان عازمًا عليه، وإن لم يوقعْه، كما جاء عن ابن مسعود في قوله: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ }، قال: لو أن رَجُلاً أراد فيه بإلحاد بظلم، وهو بعَدَن أبينَ، أذاقه الله من العذاب الأليم.
وقال سعيد بن جُبَير: شتم الخادم ظلمٌ فما فوقَه، وقيل: احتكار الطعام فيه، وقيل غير ذلك.
وقيل: المراد: من لجأ إلى الحرم بإلحاد؛ يعني: بميل عن الإسلام.
وهذه الآثار، وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد، ولكنْ هُو أعم من ذلك؛ بل فيها تنبيهٌ على ما هو أغلظ منها؛ ولهذا لما همَّ أصحاب الفيل بتخريب البيت، أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل، { تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} (الفيل)؛ أي: دمَّرهم وجعلهم عِبرة ونكالاً لكل من أراده بسوء؛ ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يغزو هذا البيتَ جيشٌ، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض، خُسِف بأولهم وآخرهم ) الحديث.
وفي الآية أيضًا بيانٌ لشناعة ما عليه المشركون الكافرون بربِّهم، وأنهم جمعوا بين الكفْر بالله ورسوله، وبين الصدِّ عن سبيل الله، ومنعِ الناس من الإيمان، والصد أيضًا عن المسجد الحرام، الذي ليس ملكًا لهم ولا لآبائهم؛ بل الناس فيه سواء: المقيم فيه، والطارئ عليه؛ بل صَدوا عنه أفضل الخلق محمدًا وأصحابه، والحال أن هذا المسجد الحرام - من حرمته، واحترامه، وعظمته -: أن من يرد فيه بإلحاد بظلم، نذقْه من عذاب أليم.
وكلمة "حرام" يُستفاد منها أنه مُحرَّم أنْ تفعل فيه خطأ، أو تهينه، أو تعتدي فيه، وكلمة ( الحَرَام ) وصف بها بعض المكان وبعض الزمان، وهي خمسة أشياء: نقول: البيت الحرام، وهو الكعبة، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، ثم المشعر الحرام، ثم الشهر الحرام، الذي قال الله فيه: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } [البقرة: 217]، وحُرْمة الزمان والمكان هنا لحكمةٍ أرادها الخالق - سبحانه - لأنه رَبٌّ رحيم بخَلْقه، يريد أن يجعل لهم فرصة لِستْر كبريائهم، والحدِّ من غرورهم.
لذلك جعل الله - سبحانه - لهذه الأماكن والأزمنة حُرْمةً؛ لتكون ستارًا لهذا الكبرياء الزائف، ولهذه العزة البغيضة، وكل حَدَث يحتاج إلى زمان، وإلى مكان، فحرَّم الله القتال في الأشهر الحرم، حتى إذا ما استعرتْ بينهم حربٌ، جاء شهر حرام، فأنقذ الضعيفَ من قبضة القوي دون أنْ يجرح كبرياءه، وربما هَزَّ رأسه قائلاً: لولا الشهر الحرام، كنت فعلتُ بهم كذا وكذا.
فهذه إذًا رحمةٌ من الله بعباده، وستار يحميهم من شرور أنفسهم ونزواتها، ويَحْقِن دماءهم.
فلعلَّهم حين تأتي شهور التحريم، أو يأتي مكانه، يستريحون من الحرب، فيدركون لذَّة السلام، وأهمية الصلح، فيقضون على أسباب النزاع بينهم دون حرب، فسُعَار الحرب يجُرُّ حربًا، ولذةُ السلام، وراحة الأمن، والشعور بهدوء الحياة، تَجُرُّ مَيْلاً للتصالح وفضِّ مثل هذه المنازعات بالطرق السلمية.
والمتأمل في هذه الأماكن التي حرَّمها الله يجدها على مراتب، وكأنها دوائرُ مركزُها بيتُ الله الحرام، وهو الكعبة، ثم المسجد الحرام حولها، ثم البلد الحرام، وهي مكة، ثم المشعر الحرام، الذي يأخذ جزءًا من الزمن فقط في أيام الحج.
أما الكعبة، فليست كما يظنُّ البعض أنها هذا البناء الذي نراه، الكعبة هي المكان، أما هذا البناء، فهو المكين، فلو نقضْتَ هذا البناء القائم الآن، فمكان البناء هو البيت، هذا مكانه إنْ نزلْتَ في أعماق الأرض، أو صعدْتَ في طبقات السماء.
إذًا؛ فبيت الله الحرام هو هذه البقعة من الأرض حتى السماء، أَلاَ ترى الناس يُصَلُّون في الأدوار العليا، وهم أعلى من هذا البناء بكثير؟! إنهم يواجهون جَوَّ الكعبة، لا يواجهون الكعبة ذاتها، لماذا؟ لأن الكعبة ممتدة في الجو إلى ما شاء الله.
وهذه خاصية للمسجد الحرام، فكُلُّ المساجد في أي مكان بيوت الله، لكن هناك فَرْق بين بيت الله باختيار الله، وبيت الله باختيار عباد الله؛ لذلك جُعل بيتُ الله باختيار الله (البيت الحرام) هو القِبْلة التي تتَّجه إليها كل بيوت الله في الأرض.
{ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }:
و{ مِن } في قوله: { مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } للتوكيد؛ أي: نذقه عذابًا من عذاب أليم.
فإنهم سيذوقون العذاب المؤلم الشديد الموجع بأمرٍ من الله - عز وجل - وذلك هو العذاب المهين، والذوق هو الإحساس بالمطعوم، شرابًا كان أو طعامًا، إلا أنه يتعدَّى إلى كل ما يحس، ولو لم يكن مطعومًا أو مشروبًا؛ قال - عز وجل -: { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [الدخان: 49]؛ أي: ذق الإهانة والمذلَّة، لا مما يُطعم أو مما يُشرب، ولكن بالإحساس؛ فالإذاقة تتعدى إلى كل البدن، فالأنامل تذوق، والرِّجْل تذوق، والصدر يذوق، والرقبة تذوق، وهذا اللون من إذاقة الذلِّ والإهانة في الدنيا لهؤلاء مجردُ نموذج بسيط لشدة عقاب الله، وعذاب الآخرة سيكون مهولاً، والعذاب هو إيلام الحس.
أي: يا أيها الناس، احذروا عقاب الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فإنَّ ما يحدث عند قيام الساعة من أهوال، وحركة شديدة للأرض، تَتَصَدَّع منها كلُّ جوانبها - شيءٌ عظيم، لا يقدِّر قدره، ولا يبلغ كُنهه، ولا يعلم كيفيَّته إلا ربُّ العالمين.
يوم ترون قيام الساعة تنسَى الوالدةُ رضيعَها، الذي ألقمته ثديها؛ لِمَا نزل بها منَ الكرْب، وتُسْقط الحامل حملها من الرُّعب، وتغيب عقول الناس، فهم كالسُّكارى من شدَّة الهَوْل والفزَع، وليسوا بسكارى منَ الخمر، ولكن شدة العذاب أَفْقدتهم عُقُولهم وإدراكهم.
ثم بَيَّن - سبحانه - النِّهاية السعيدة لِمَن اتَّقى واستجاب لربِّه الرحمن، الذي أعَدَّ لعباده المؤمنين منَ النعيم المُقيم الشيءَ العظيم في دار رحمته؛ حيث قال - تبارك وتعالى -: { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج: 23].
إن الله - تعالى - يُدخل أهل الإيمان والعمل الصالح جنات نعيمُها دائم، تجْري مِن تحت أشجارها الأنهار، يُزَيَّنون فيها بأساور الذهب وباللؤلؤ، ولباسهم المعتاد في الجنة الحرير، رجالاً ونساءً؛
{ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } [الحج: 24].
لقد هداهم الله في الدُّنيا إلى طيب القول، من كلمة التوحيد، وحَمْد الله، والثناء عليه، وفي الآخرة إلى حمده على حُسن العاقبة، كما هداهم من قبلُ إلى طريق الإسلام المحمود الموصل إلى الجنة.
وكذلك هو الحال بحُجَّاج بيت الله الحرام، قد ساروا إلى الله بإيمان وعمل صالح زادهم، ولباسهم هو التقوى، وطيب أقوالهم وألسنتهم ذِكْر الله والدعاء، قد جدُّوا واجتهدوا؛ ( والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ).
وهو - سبحانه - الحكيمُ الحميد الذي لا يرتضي الظُّلم في أرضه، وقد حرَّمه - تعالى - بين عباده؛ { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة: 114].
فإذا كان الأمر كذلك، فالويل لمن وقف في طريق عباد الرحمن السائرين إلى الله، والوافدين إلى بيته الأمين؛ { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الحج: 25].
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }: فكما كان سبب استحقاق المؤمنين ذلك النعيم اتباعهم صراط الله؛ { وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } [الحج: 24]، كذلك كان سبَبُ استحقاق المشركين ذلك العذَاب هو أنهم كفروا بالله، وكذبوا بما جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنهم يمنعون غيرهم من الدخول في دين الله، ويصدون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين عن المسجد الحرام كما في عام (الحديبية).
والصد عن سبيل الله ناشئ عن الكفر، وما يزال صدُّهم مستمرًّا؛ كقوله - تعالى -:
{ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ } [البقرة: 217]، وقوله - تعالى -:
{ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [الفتح: 25]، وقوله - تعالى -:
{ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا } [المائدة: 2].
وفي هذا بيان لحقِّ المسلمين في المسجد الحرام، وتهويل أمْر الإلحاد فيه، والتنويه به، وتنزيهه عن أن يكونَ مأوى للشِّرْك، ورِجْس الظلْم والعُدوان.
لذا جاء التأكيد بـ{ إنَّ }؛ للاهتمام به، وجاء قوله: { كَفَرُوا } بصيغة الماضي؛ لأنَّ فعلهم صار كاللقب لهم، وجاء الفعل {يصدُّون} بصيغة المضارع؛ للدلالة على تكرر ذلك منهم، وأنه دأبهم، وهذا التركيب في هذه الآية كقوله - تعالى -: { الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28]؛ أي: ومِن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله.
{ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }: وسبيل الله هو الإسلام، الذي هو دين الله وسبيله الواصل إليه، وهو طريقه الذي شرعه للناس، ونهجه الذي اختاره للعباد، وقد صدّوا المسلمين عن دخول المسجد الحرام والطواف بالبيت بعد الهجرة، ومن ذلك ما صنعوه يوم الحديبية، والصد: هو المنْع، فصدهم عنه هو الذي حقَّق لهم عذاب النار، كما حقق اهتداءُ المؤمنين إليه بأن لهم نعيمَ الجنة.
وخبر { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } محذوف، تقديره: نُذيقهم من عذاب أليم، دلَّ عليه قولُه في الجملة الآتية: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }.
{ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }، وخصَّ الصد عن المسجد الحرام بالذِّكْر؛ للاهتمام به، ولينتقل منه إلى التنويه بالمسجد الحرام، وذِكْر بنائه، وشرع الحج له من عهد إبراهيم، وهو الذي جعله الله للناس منطقة أمان ودار سلام، وواحة اطمئنان، فهو بيتُ الله الذي يتساوَى فيه عباد الله، فلا يملكه أحدٌ منهم، ولا يمتاز فيه أحدٌ منهم، فيه تُحقن الدِّماء، ويجد كل أحد فيه مأمنه ومأواه، لا تفضُّلاً مِن أحد، ولكن حقًّا يتساوى فيه الجميع؛ فإن الله جعلَه لجميع المؤمنين.
والمسجد الحرام، قيل: إنه المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن، لأنه لم يذكر غيره، وقيل: الحرم كله؛ لأن المشركين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجًا عنه؛ قال الله - تعالى -: { وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [الفتح: 25]، وقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [الإسراء: 1].
{ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء }؛ أي: للصلاة والطواف والعبادة، وهو كقوله - تعالى -: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 96].
فهم يصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفْس الأمر؛ لذلكيقول - تعالى - مُنكرًا على الكفَّار في صَدِّهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام، وقضاء مناسكهم فيه، ودعواهم أنهم أولياؤه: { وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [الأنفال: 34].
{ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ }، ولا خلاف بين المسلمين في أنَّ الناس سواء في أداء المناسك بالمسجد الحرام وما يتبعه؛ إلاّ ما منعته الشريعة - كطواف الحائض بالكعبة - فيستوي في أحقية التعبّد به {العَاكِفُ فِيهِ}؛ أي: الملازم له في أحوال كثيرة، المقيم فيه، والمستقر في المسجد، والساكن بمكة؛ لأنَّ الساكن بمكة يعكف كثيرًا في المسجد الحرام، وفي ذكر العكوف تعريض بأنهم لا يستحقون بسكنى مكة مزية على غيرهم، وبأنهم حين يمنعون الخارجين عن مكة من الدخول للكعبة قد ظلموهم باستئثارهم بمكة.
{ وَالبَادِ }؛ أي: القادم إليه والبعيد عنه إذا دخله، ومنهم أهل البادية ومَن يقدم عليهم، فقد جعله الله شرعًا؛ سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك، لا فرق فيه بين المقيم فيه الحاضر، والنائي عنه البعيد الدار منه، فليس أهل مكة أحق من النازح إليه.
لذلك؛ يُقال للذين يحجزون الأماكن لحسابهم في بيت الله الحرام خاصة، وفي بيوت الله عامة: أريحوا أنفسكم، فالمكان محجوز عند الله لمن سبق، لا لمن وضع سجادته، وشغل بها المكان.
وهناك من أهل العلم من قال: لا يجوز تأجير البيوت في مكة، فمَنْ أراد أن ينزل في بيت ينزل فيه دون أجرة حتى يستوي المقيم والغريب، وهذا الرأي مرْدُود عليه بأن البيوت مكان ومكين، وأرض مكة كانتْ للجميع حين كان المكان حُرًّا يبني فيه مَن أراد، أمَّا بعد أن بَنَى بيتًا وسكنه، أصبح مكينًا فيه، لا يجوز لأحد دخوله إلا بإذنه وإرادته.
ويؤيده قول الشافعي - رحمه الله -: لو كان الأمر كذلك، لما قال - سبحانه - في المهاجرين: { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } [الحشر: 8]، فنَسب الديار إليهم، ولَمَا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل مكة: ( وهل ترك لنا عقيل من دار أو من ربع؟ )، وكوْنُ عقيل يبيع دُورهم بعد أن هاجروا، فهذا دليل على ملكيتهم لها.
{ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ }:
والإلحاد في اللغة أصله: الميل، والمراد بالإلحاد في الآية: الانحراف عن الاستقامة وسواء الأمور، وأن يحيد عن دِين الله الذي شرَعه، ويعمُّ ذلك كلَّ ميلٍ وحيدة عن الدين، ويدخل في ذلك دخولاً أوليًّا الكفرُ بالله، والشركُ به في الحَرَم، وفعلُ شيءٍ مما حرَّمه، وتركُ شيء مما أوجبه، ومن أعظم ذلك: انتهاكُ حُرُمات الحرم.
والباء في "بإلحاد" للتوكيد؛ أي: من يُرد إلحادًا وبُعدًا عن الحق والاستقامة، وذلك صدهم عن زيارته.
وقوله: { بِظُلْمٍ }؛ أي: عامدًا قاصدًا أنه ظلم، ليس بمتأوّل، وعن ابن عباس: هو التعمُّد، وعنه أيضًا: { بِظُلْمٍ }: بشرك، وقال مجاهد: أن يعبد فيه غير الله، وكذا قال قتادة، وغير واحد، وقال العوفي: عن ابن عباس: { بِظُلْمٍ }: هو أن تَستحلَّ من الحرم ما حَرَّم الله عليك من لسان أو قتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك، فإذا فَعَلَ ذلك، فقد وجب له العذابُ الأليم.
وقال مجاهد: { بِظُلْمٍ }: يعمل فيه عملاً سيئًا.
والظلم يُطلَق على الإشراك، وعلى المعاصي؛ لأنها ظلم للنفس، والباء في "بظلم" للملابسة، فالظلم: الإشراك؛ لأن المقصود تهديدُ المشركين الذين حمَلَهم الإشراكُ على مناوأة المسلمين، ومنعِهم من زيارة المسجد الحرام.
والمراد: من يرد في المسجد الحرام الميْلَ عن الحق ظلمًا، فيَعْصِ الله فيه، نُذِقْه مِن عذابٍ أليم موجع.
فالمُلحد في المسجد الحرام قد خالف بإلحاده فيه ما أراده الله من تطهيره، حتى أمر ببنائه، والتخلُّص من ذلك إلى إثبات ظلم المشركين، وكفرانهم نعمةَ الله في إقامة المسجد الحرام وتشريع الحج.
بل جاء المعنى على مجرد الهمِّ فيه، وهذا من دقائق التعبير؛ ففيه التهديد والوعيد على مجرد الإرادة؛ زيادةً في التحذير، ومبالغة في التوكيد؛ حيث قال - تعالى -: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } [الحج: 25]؛ أي: يَهُمّ فيه بأمرٍ فظيع من المعاصي الكبار، فمجردُ إرادة الظلم والإلحاد في الحرم موجبٌ للعذاب، وإن كان غيره لا يُعاقَب العبدُ عليه إلا بعمل الظلم، فكيف بمن أتى فيه أعظمَ الظلم، من الكفر والشرك، والصدِّ عن سبيله، ومنعِ من يريده بزيارة؟! فما ظنكم أن يفعل الله بهم؟!
وفي هذه الآية الكريمة: وجوبُ احترام الحرم، وشدةُ تعظيمه، والتحذير من إرادة المعاصي فيه وفعلها.
وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقَب البادي فيه الشر، إذا كان عازمًا عليه، وإن لم يوقعْه، كما جاء عن ابن مسعود في قوله: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ }، قال: لو أن رَجُلاً أراد فيه بإلحاد بظلم، وهو بعَدَن أبينَ، أذاقه الله من العذاب الأليم.
وقال سعيد بن جُبَير: شتم الخادم ظلمٌ فما فوقَه، وقيل: احتكار الطعام فيه، وقيل غير ذلك.
وقيل: المراد: من لجأ إلى الحرم بإلحاد؛ يعني: بميل عن الإسلام.
وهذه الآثار، وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد، ولكنْ هُو أعم من ذلك؛ بل فيها تنبيهٌ على ما هو أغلظ منها؛ ولهذا لما همَّ أصحاب الفيل بتخريب البيت، أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل، { تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} (الفيل)؛ أي: دمَّرهم وجعلهم عِبرة ونكالاً لكل من أراده بسوء؛ ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يغزو هذا البيتَ جيشٌ، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض، خُسِف بأولهم وآخرهم ) الحديث.
وفي الآية أيضًا بيانٌ لشناعة ما عليه المشركون الكافرون بربِّهم، وأنهم جمعوا بين الكفْر بالله ورسوله، وبين الصدِّ عن سبيل الله، ومنعِ الناس من الإيمان، والصد أيضًا عن المسجد الحرام، الذي ليس ملكًا لهم ولا لآبائهم؛ بل الناس فيه سواء: المقيم فيه، والطارئ عليه؛ بل صَدوا عنه أفضل الخلق محمدًا وأصحابه، والحال أن هذا المسجد الحرام - من حرمته، واحترامه، وعظمته -: أن من يرد فيه بإلحاد بظلم، نذقْه من عذاب أليم.
وكلمة "حرام" يُستفاد منها أنه مُحرَّم أنْ تفعل فيه خطأ، أو تهينه، أو تعتدي فيه، وكلمة ( الحَرَام ) وصف بها بعض المكان وبعض الزمان، وهي خمسة أشياء: نقول: البيت الحرام، وهو الكعبة، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، ثم المشعر الحرام، ثم الشهر الحرام، الذي قال الله فيه: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } [البقرة: 217]، وحُرْمة الزمان والمكان هنا لحكمةٍ أرادها الخالق - سبحانه - لأنه رَبٌّ رحيم بخَلْقه، يريد أن يجعل لهم فرصة لِستْر كبريائهم، والحدِّ من غرورهم.
لذلك جعل الله - سبحانه - لهذه الأماكن والأزمنة حُرْمةً؛ لتكون ستارًا لهذا الكبرياء الزائف، ولهذه العزة البغيضة، وكل حَدَث يحتاج إلى زمان، وإلى مكان، فحرَّم الله القتال في الأشهر الحرم، حتى إذا ما استعرتْ بينهم حربٌ، جاء شهر حرام، فأنقذ الضعيفَ من قبضة القوي دون أنْ يجرح كبرياءه، وربما هَزَّ رأسه قائلاً: لولا الشهر الحرام، كنت فعلتُ بهم كذا وكذا.
فهذه إذًا رحمةٌ من الله بعباده، وستار يحميهم من شرور أنفسهم ونزواتها، ويَحْقِن دماءهم.
فلعلَّهم حين تأتي شهور التحريم، أو يأتي مكانه، يستريحون من الحرب، فيدركون لذَّة السلام، وأهمية الصلح، فيقضون على أسباب النزاع بينهم دون حرب، فسُعَار الحرب يجُرُّ حربًا، ولذةُ السلام، وراحة الأمن، والشعور بهدوء الحياة، تَجُرُّ مَيْلاً للتصالح وفضِّ مثل هذه المنازعات بالطرق السلمية.
والمتأمل في هذه الأماكن التي حرَّمها الله يجدها على مراتب، وكأنها دوائرُ مركزُها بيتُ الله الحرام، وهو الكعبة، ثم المسجد الحرام حولها، ثم البلد الحرام، وهي مكة، ثم المشعر الحرام، الذي يأخذ جزءًا من الزمن فقط في أيام الحج.
أما الكعبة، فليست كما يظنُّ البعض أنها هذا البناء الذي نراه، الكعبة هي المكان، أما هذا البناء، فهو المكين، فلو نقضْتَ هذا البناء القائم الآن، فمكان البناء هو البيت، هذا مكانه إنْ نزلْتَ في أعماق الأرض، أو صعدْتَ في طبقات السماء.
إذًا؛ فبيت الله الحرام هو هذه البقعة من الأرض حتى السماء، أَلاَ ترى الناس يُصَلُّون في الأدوار العليا، وهم أعلى من هذا البناء بكثير؟! إنهم يواجهون جَوَّ الكعبة، لا يواجهون الكعبة ذاتها، لماذا؟ لأن الكعبة ممتدة في الجو إلى ما شاء الله.
وهذه خاصية للمسجد الحرام، فكُلُّ المساجد في أي مكان بيوت الله، لكن هناك فَرْق بين بيت الله باختيار الله، وبيت الله باختيار عباد الله؛ لذلك جُعل بيتُ الله باختيار الله (البيت الحرام) هو القِبْلة التي تتَّجه إليها كل بيوت الله في الأرض.
{ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }:
و{ مِن } في قوله: { مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } للتوكيد؛ أي: نذقه عذابًا من عذاب أليم.
فإنهم سيذوقون العذاب المؤلم الشديد الموجع بأمرٍ من الله - عز وجل - وذلك هو العذاب المهين، والذوق هو الإحساس بالمطعوم، شرابًا كان أو طعامًا، إلا أنه يتعدَّى إلى كل ما يحس، ولو لم يكن مطعومًا أو مشروبًا؛ قال - عز وجل -: { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [الدخان: 49]؛ أي: ذق الإهانة والمذلَّة، لا مما يُطعم أو مما يُشرب، ولكن بالإحساس؛ فالإذاقة تتعدى إلى كل البدن، فالأنامل تذوق، والرِّجْل تذوق، والصدر يذوق، والرقبة تذوق، وهذا اللون من إذاقة الذلِّ والإهانة في الدنيا لهؤلاء مجردُ نموذج بسيط لشدة عقاب الله، وعذاب الآخرة سيكون مهولاً، والعذاب هو إيلام الحس.