الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فإن التفقه في الدين من أفضل الأعمال، وهو علامة الخير؛ قال : من يرد اللهُ به خيرا، يُفَقِّهْهُ في الدين. متفق عليه؛ وذلك لأن التفقه في الدين يحصل به العلم النافع الذي يقوم عليه العمل الصالح.
والعلم في الإسلام يسبق العمل، فلا عمل إلا بعلم كما قال سبحانه:فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. [محمد: 19].
وقد حذّر الله كل مسلم من القول بلا علم فقال سبحانه: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا. [الإسراء: 36].
قال الشيخ العلامة بن باز رحمه الله في تفسيره لهذه الأية:
على ظاهرها فالله ينهى عن كون الإنسان يتكلم فيما لا يعلم (ولا تَقْفُ) يعني لا تقل في شيء ليس لك به علم، بل تثبت، (إن السمع) يقول: سمعت كذا، وهو ما سمع وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا الإنسان مسئول عن سمعه وقلبه وبصره، فالواجب عليه أن لا يقول: سمعت كذا إلا عن بصيرة، ولا يقول: نظرت كذا إلا عن بصيرة، ولا يعتقد بقلبه شيء إلى عن بصيرة، لا بد، فهو مسئول، فالواجب عليه أن يتثبت وأن يعتني حتى لا يتكلم إلا عن علم، ولا يفعل إلا عن علم، ولا يعتقد إلا عن علم، ولهذا قال جل وعلا: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً، فالإنسان يتثبت في الأمور والله يقول -جل وعلا-: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[الأعراف: 33] فجعل القول على الله بغير العلم فوق هذه الأشياء كلها، فالواجب على الإنسان يتعلم حتى يكون على علم، ويتبصر فلا يقول: سمعت، ولا يقول: رأيت، ولا يقول: كذا وكذا إلا عن بصيرة عن علم.انتهى
وتنويهاً بمقام العلم والعلماء استشهد الله العلماء على وحدانيته فقال سبحانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[آل عمران: 18].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
شهد تعالى وكفى به شهيداً، وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم، وأصدق القائلين: أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ أي المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأنَّ الجميع عبيده وخلقه، والفقراء إليه، وهو الغني عما سواه.
وقال أيضا:
ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال: شَهِدَ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام. انتهى.
ومعرفة الله وخشيته تتم بمعرفة آياته ومخلوقاته، والعلماء هم الذين يعلمون ذلك؛ قال تعالى:
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر: 28]. فهذه الآية آية عظيمة وهي تدل على أن العلماء بالله وبدينه وبكتابه وسنة رسوله الكريم هم أشد الناس خشية لله، وأكملهم خوفاً منه سبحانه، وعلى رأسهم الرسل والأنبياء؛ فهم أكمل الناس خشية لله سبحانه ثم خلفاؤهم العلماء بالله وبدينه. وهم على مراتب في ذلك متفاوتة؛ فكلما زاد العلم زادت الخشية لله، وكلما نقص العلم نقصت الخشية لله. (مأخوذ من كلام العلامة بن باز رحمه الله تعالى).
وللعلماء في الإسلام منزلة شريفة تعلو من سواهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى:يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11].
قال الطبري رحمه الله تعالى:
يقول - تعالى ذكره - : يرفع الله المؤمنين منكم - أيها القوم - بطاعتهم ربهم، فيما أمرهم به من التفسح في المجلس إذا قيل لهم تفسحوا، أو بنشوزهم إلى الخيرات إذا قيل لهم انشزوا إليها، ويرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين الذين لم يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات، إذا عملوا بما أمروا به... انتهى.
وقال أيضاً:
عن قتادة قوله: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ إنّ بالعلم لأهله فضلاً وإنّ له على أهله حقّاً ، ولعمري للحق عليك أيها العالم فضل، والله معطي كل ذي فضل فضله .انتهى.
ولأهمية العلم أمر الله رسوله أن يطلب المزيد منه؛ فقال سبحانه: وقل رب زدني علماً [طه: 114].
وقد مدح الله العلماء وأثنى عليهم؛ قال تعالى: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب [الزمر: 9].
والإسلام يدعو إلى طلب العلم، وقد جعل الرسول طلب العلم فريضة على كل مسلم وبيّن فضل العالم؛ فقال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78].
وعَنْ أبي الدرداء قال: قال رسول الله : مَن سلك طريقا يطلب فيه علماً، سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإنّ العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإنّ فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنّ الأنبياء لم يُوَرِّثوا ديناراً ولا درهماً، ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر. رواه ابو داود والترمذي وابن ماجه وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع.
يقول الإمام أحمد رحمه الله:
يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيَوْه، وكم من ضال تائه قد هدَوْه، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. انتهى.
وأخبر عليه الصلاة والسلام أنّ طلب العلم طريق إلى الجنة و قد جاء في طلبه، والحث عليه، والترغيب فيه أحاديث كثيرة، وحسبك قوله :من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة.رواه مسلم عن أبي هريرة.
وفي الختام أذَكّر نفسي وإخواني بأهمية القرآن العظيم تعلماً وتعليماً، يقول الرسول : خيركم من تعلّم القرآن وعلمه. أخرجه البخاري؛ فإن المسلم لا يستغني عن القرآن؛ فبه حياة قلبه ونور بصره وهداية طريقه. منه يستمد عقيدته، وبه يعرف عبادته وما يرضي ربه، وفيه ما يحتاج إليه من الإرشادات في الأخلاق والمعاملات. قال تعالى:إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء: 9]. وقد توعّد اللهُ المعرضَ عن كتابه الذي يهجر القرآن فلا يقرأه ولا يلتفت إليه، والذي لا يهتدي بهذا الكتاب، بأن يضيع عمره ويمشي في ظلمات الجهل والضياع.. بالشقاء والتعاسة في الدنيا والآخرة؛ فقال عزّ من قائل:وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طـه: 124].
وروي عن الحسن البصري ـ رحمه الله قوله: " إنما أنزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملاً ".
قال ابن مسعود : " إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع ".
وقال مالك بن دينار: " ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن ؟!! إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض ".
إنّ من تدبر القرآن الكريم حق التدبر حصَّل من المنافع والمصالح الدنيوية والأخروية، ما لا يعلمه إلا الله.
قال ابن القيم رحمه الله في (مدارج السالكين 1/451): ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته: من تدبر القرآن وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته.
قال الإمام السعدي رحمه الله في تفسيره (1/ 189):
تدبُّرُ كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير، وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته؛ فإنه يعرِّف بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال، وما ينزه عنه من سمات النقص، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب. وكلما ازداد العبد تأملاً فيه ازداد علماً وعملاً وبصيرة. انتهى
إنّ لتدبر القرآن صفات وعلامات ذكرها الله في كتابه قال سبحانه : وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ[ المائدة: 83].
وقال أيضاً:إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2].
وقال أيضا: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124].
وقال أيضا: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء: 107- 109].
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
كتبه الشيخ أبو إسلام سليم بن علي بن عبد الرحمن الجزائري
حفظه الله ..
وبعد:
فإن التفقه في الدين من أفضل الأعمال، وهو علامة الخير؛ قال : من يرد اللهُ به خيرا، يُفَقِّهْهُ في الدين. متفق عليه؛ وذلك لأن التفقه في الدين يحصل به العلم النافع الذي يقوم عليه العمل الصالح.
والعلم في الإسلام يسبق العمل، فلا عمل إلا بعلم كما قال سبحانه:فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. [محمد: 19].
وقد حذّر الله كل مسلم من القول بلا علم فقال سبحانه: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا. [الإسراء: 36].
قال الشيخ العلامة بن باز رحمه الله في تفسيره لهذه الأية:
على ظاهرها فالله ينهى عن كون الإنسان يتكلم فيما لا يعلم (ولا تَقْفُ) يعني لا تقل في شيء ليس لك به علم، بل تثبت، (إن السمع) يقول: سمعت كذا، وهو ما سمع وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا الإنسان مسئول عن سمعه وقلبه وبصره، فالواجب عليه أن لا يقول: سمعت كذا إلا عن بصيرة، ولا يقول: نظرت كذا إلا عن بصيرة، ولا يعتقد بقلبه شيء إلى عن بصيرة، لا بد، فهو مسئول، فالواجب عليه أن يتثبت وأن يعتني حتى لا يتكلم إلا عن علم، ولا يفعل إلا عن علم، ولا يعتقد إلا عن علم، ولهذا قال جل وعلا: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً، فالإنسان يتثبت في الأمور والله يقول -جل وعلا-: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[الأعراف: 33] فجعل القول على الله بغير العلم فوق هذه الأشياء كلها، فالواجب على الإنسان يتعلم حتى يكون على علم، ويتبصر فلا يقول: سمعت، ولا يقول: رأيت، ولا يقول: كذا وكذا إلا عن بصيرة عن علم.انتهى
وتنويهاً بمقام العلم والعلماء استشهد الله العلماء على وحدانيته فقال سبحانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[آل عمران: 18].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
شهد تعالى وكفى به شهيداً، وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم، وأصدق القائلين: أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ أي المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأنَّ الجميع عبيده وخلقه، والفقراء إليه، وهو الغني عما سواه.
وقال أيضا:
ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال: شَهِدَ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام. انتهى.
ومعرفة الله وخشيته تتم بمعرفة آياته ومخلوقاته، والعلماء هم الذين يعلمون ذلك؛ قال تعالى:
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر: 28]. فهذه الآية آية عظيمة وهي تدل على أن العلماء بالله وبدينه وبكتابه وسنة رسوله الكريم هم أشد الناس خشية لله، وأكملهم خوفاً منه سبحانه، وعلى رأسهم الرسل والأنبياء؛ فهم أكمل الناس خشية لله سبحانه ثم خلفاؤهم العلماء بالله وبدينه. وهم على مراتب في ذلك متفاوتة؛ فكلما زاد العلم زادت الخشية لله، وكلما نقص العلم نقصت الخشية لله. (مأخوذ من كلام العلامة بن باز رحمه الله تعالى).
وللعلماء في الإسلام منزلة شريفة تعلو من سواهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى:يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11].
قال الطبري رحمه الله تعالى:
يقول - تعالى ذكره - : يرفع الله المؤمنين منكم - أيها القوم - بطاعتهم ربهم، فيما أمرهم به من التفسح في المجلس إذا قيل لهم تفسحوا، أو بنشوزهم إلى الخيرات إذا قيل لهم انشزوا إليها، ويرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين الذين لم يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات، إذا عملوا بما أمروا به... انتهى.
وقال أيضاً:
عن قتادة قوله: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ إنّ بالعلم لأهله فضلاً وإنّ له على أهله حقّاً ، ولعمري للحق عليك أيها العالم فضل، والله معطي كل ذي فضل فضله .انتهى.
ولأهمية العلم أمر الله رسوله أن يطلب المزيد منه؛ فقال سبحانه: وقل رب زدني علماً [طه: 114].
وقد مدح الله العلماء وأثنى عليهم؛ قال تعالى: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب [الزمر: 9].
والإسلام يدعو إلى طلب العلم، وقد جعل الرسول طلب العلم فريضة على كل مسلم وبيّن فضل العالم؛ فقال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78].
وعَنْ أبي الدرداء قال: قال رسول الله : مَن سلك طريقا يطلب فيه علماً، سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإنّ العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإنّ فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنّ الأنبياء لم يُوَرِّثوا ديناراً ولا درهماً، ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر. رواه ابو داود والترمذي وابن ماجه وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع.
يقول الإمام أحمد رحمه الله:
يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيَوْه، وكم من ضال تائه قد هدَوْه، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. انتهى.
وأخبر عليه الصلاة والسلام أنّ طلب العلم طريق إلى الجنة و قد جاء في طلبه، والحث عليه، والترغيب فيه أحاديث كثيرة، وحسبك قوله :من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة.رواه مسلم عن أبي هريرة.
وفي الختام أذَكّر نفسي وإخواني بأهمية القرآن العظيم تعلماً وتعليماً، يقول الرسول : خيركم من تعلّم القرآن وعلمه. أخرجه البخاري؛ فإن المسلم لا يستغني عن القرآن؛ فبه حياة قلبه ونور بصره وهداية طريقه. منه يستمد عقيدته، وبه يعرف عبادته وما يرضي ربه، وفيه ما يحتاج إليه من الإرشادات في الأخلاق والمعاملات. قال تعالى:إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء: 9]. وقد توعّد اللهُ المعرضَ عن كتابه الذي يهجر القرآن فلا يقرأه ولا يلتفت إليه، والذي لا يهتدي بهذا الكتاب، بأن يضيع عمره ويمشي في ظلمات الجهل والضياع.. بالشقاء والتعاسة في الدنيا والآخرة؛ فقال عزّ من قائل:وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طـه: 124].
وروي عن الحسن البصري ـ رحمه الله قوله: " إنما أنزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملاً ".
قال ابن مسعود : " إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع ".
وقال مالك بن دينار: " ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن ؟!! إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض ".
إنّ من تدبر القرآن الكريم حق التدبر حصَّل من المنافع والمصالح الدنيوية والأخروية، ما لا يعلمه إلا الله.
قال ابن القيم رحمه الله في (مدارج السالكين 1/451): ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته: من تدبر القرآن وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته.
قال الإمام السعدي رحمه الله في تفسيره (1/ 189):
تدبُّرُ كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير، وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته؛ فإنه يعرِّف بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال، وما ينزه عنه من سمات النقص، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب. وكلما ازداد العبد تأملاً فيه ازداد علماً وعملاً وبصيرة. انتهى
إنّ لتدبر القرآن صفات وعلامات ذكرها الله في كتابه قال سبحانه : وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ[ المائدة: 83].
وقال أيضاً:إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2].
وقال أيضا: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124].
وقال أيضا: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء: 107- 109].
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
كتبه الشيخ أبو إسلام سليم بن علي بن عبد الرحمن الجزائري
حفظه الله ..