من الأخلاق التي لابد أن يتصف بها العلماء الرحمة، فكثيرًا ما يضع العالِم حواجز كثيرة بينه وبين عموم الناس إذا لم يكن متصفًا بهذا الخلق العظيم: خلق الرحمة.
الرحمة لدى العلماء ضرورة
الناس عادةً تنفر من الإنسان غليظ الطباع، قاسي المشاعر؛ ولذلك قد يحوي عقل العالِم علمًا هائلاً لكنه لا يستطيع أن يُفيد الخلق به؛ لأنَّ قلبه ما حوى رحمةً ولا شفقة!!
لذلك على العالم أن يتعلَّم الرحمة تمامًا كما يتعلَّم العلم، ويباشر هذه الرحمة مع عباد الله تمامًا كما يباشر تجاربه وقواعده وأصوله العلمية.
ومن هنا نفهم لماذا قدّم الله عز وجل صفة الرحمة عنده سبحانه وتعالى على صفة العلم؛ فقال: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7].
فالملائكة يصفونه سبحانه بأنه وسع كل شيء رحمة وعلما، وقد قدموا قبل طلبهم وسؤالهم ودعائهم سبحانه للذين آمنوا -قدموا قبل ذلك رحمته تعالى ولم يقدموا علمه- في صورة إنما توحي باستئناسهم وارتياحهم وحاجتهم لهذه الرحمة أولًا.
بل إنه سبحانه قال يصف العبد الصالح الذي وُصِفَ بالعلم، والذي أرسل إليه موسى عليه السلام كي يتعلم منه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 65، 66].
فقد رزقه الله الرحمة أولاً وزوده بها، وذلك كي ييسر له التعامل مع الناس، ثم علَّمه عليه السلام من علمه بعد ذلك.
وهذا بعينه ما بدا واضحًا في بقية أحداث القصة في الآيات التي جاءت بعد ذلك، وكيف عامل العبد الصالح موسى عليه السلام، وكيف صبر على أسئلته التي أثارها رغم تعهداته.
رسول الله المعلم الرحيم
ومن أوضح الأمثلة العملية على ذلك، ما جسده رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في حياته، فكان نعم المعلِّم هو ونعم المربي هو، ونعم القدوة هو صلى الله عليه وسلم.
وانظر إلى تجسيد الصحابي الجليل معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه لهذه الرحمة في التعليم، وذلك حين يصف سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم معه؛ فيقول: "بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: "يَرْحَمُكَ اللَّهُ"، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إلي! فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ.
فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنَّ مِنَّا رِجَالاً يَأْتُونَ الْكُهَّانَ. قَالَ: فَلَا تَأْتِهِمْ. قَالَ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ. قَالَ: ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ.." [1].
ولعلنا نلحظ بوضوح في هذا الموقف أن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تمرَّ هكذا دون أن يلتفت إليها معاوية رضي الله عنه أو ينتبه إليها، لقد علَّق عليها، وذكر أنها من أجلِّ صفات المعلِّم وأحسنها، ثم لعلَّنا نلحظ أيضًا أن هذه الرحمة هي التي شجعت معاوية على أن يتقدم بأسئلة أخرى ليستفيد ويستزيد، ولو كان أسلوب المعلِّم غليظًا لامتنع السائل خشية التعرُّض للغلظة أو القسوة.
وإنَّ العجب بعد ذلك أن تجد علماء يستعملون هذه الغلظة في معاملتهم ودعوتهم، الأمر الذي ينفر الناس منهم، ويصدهم عن دعوتهم، فضلا عن الاقتداء بهم.
وقد حدث قريب من هذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان له معه موقف، فقد روى أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: "جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي -وَاللَّهِ - لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا! قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ، وَالضَّعِيفَ، وَذَا الْحَاجَةِ" [2].
وإن مثل ذلك الخلق يتطلبه المعلِّم في كل مكان وكل مجال، فيتطلبه الأب في البيت، والمدرس في المدرسة، والأستاذ في الجامعة، والطبيب في المستشفى أو العيادة، ويتطلبه بصفة خاصة الداعية والمربي في كل أحواله ومقاماته.
[1] مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة (537)، والنسائي (1218)، وأبو داود (930)، وأحمد (23813).
[2] البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود (670)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام (466)، والدارمي (1259)، وابن خزيمة (1605)، وابن حبان (2137)، والطبراني في الكبير (560)، وابن أبي شيبة (4657).
الرحمة لدى العلماء ضرورة
الناس عادةً تنفر من الإنسان غليظ الطباع، قاسي المشاعر؛ ولذلك قد يحوي عقل العالِم علمًا هائلاً لكنه لا يستطيع أن يُفيد الخلق به؛ لأنَّ قلبه ما حوى رحمةً ولا شفقة!!
لذلك على العالم أن يتعلَّم الرحمة تمامًا كما يتعلَّم العلم، ويباشر هذه الرحمة مع عباد الله تمامًا كما يباشر تجاربه وقواعده وأصوله العلمية.
ومن هنا نفهم لماذا قدّم الله عز وجل صفة الرحمة عنده سبحانه وتعالى على صفة العلم؛ فقال: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7].
فالملائكة يصفونه سبحانه بأنه وسع كل شيء رحمة وعلما، وقد قدموا قبل طلبهم وسؤالهم ودعائهم سبحانه للذين آمنوا -قدموا قبل ذلك رحمته تعالى ولم يقدموا علمه- في صورة إنما توحي باستئناسهم وارتياحهم وحاجتهم لهذه الرحمة أولًا.
بل إنه سبحانه قال يصف العبد الصالح الذي وُصِفَ بالعلم، والذي أرسل إليه موسى عليه السلام كي يتعلم منه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 65، 66].
فقد رزقه الله الرحمة أولاً وزوده بها، وذلك كي ييسر له التعامل مع الناس، ثم علَّمه عليه السلام من علمه بعد ذلك.
وهذا بعينه ما بدا واضحًا في بقية أحداث القصة في الآيات التي جاءت بعد ذلك، وكيف عامل العبد الصالح موسى عليه السلام، وكيف صبر على أسئلته التي أثارها رغم تعهداته.
رسول الله المعلم الرحيم
ومن أوضح الأمثلة العملية على ذلك، ما جسده رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في حياته، فكان نعم المعلِّم هو ونعم المربي هو، ونعم القدوة هو صلى الله عليه وسلم.
وانظر إلى تجسيد الصحابي الجليل معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه لهذه الرحمة في التعليم، وذلك حين يصف سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم معه؛ فيقول: "بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: "يَرْحَمُكَ اللَّهُ"، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إلي! فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ.
فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنَّ مِنَّا رِجَالاً يَأْتُونَ الْكُهَّانَ. قَالَ: فَلَا تَأْتِهِمْ. قَالَ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ. قَالَ: ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ.." [1].
ولعلنا نلحظ بوضوح في هذا الموقف أن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تمرَّ هكذا دون أن يلتفت إليها معاوية رضي الله عنه أو ينتبه إليها، لقد علَّق عليها، وذكر أنها من أجلِّ صفات المعلِّم وأحسنها، ثم لعلَّنا نلحظ أيضًا أن هذه الرحمة هي التي شجعت معاوية على أن يتقدم بأسئلة أخرى ليستفيد ويستزيد، ولو كان أسلوب المعلِّم غليظًا لامتنع السائل خشية التعرُّض للغلظة أو القسوة.
وإنَّ العجب بعد ذلك أن تجد علماء يستعملون هذه الغلظة في معاملتهم ودعوتهم، الأمر الذي ينفر الناس منهم، ويصدهم عن دعوتهم، فضلا عن الاقتداء بهم.
وقد حدث قريب من هذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان له معه موقف، فقد روى أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: "جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي -وَاللَّهِ - لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا! قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ، وَالضَّعِيفَ، وَذَا الْحَاجَةِ" [2].
وإن مثل ذلك الخلق يتطلبه المعلِّم في كل مكان وكل مجال، فيتطلبه الأب في البيت، والمدرس في المدرسة، والأستاذ في الجامعة، والطبيب في المستشفى أو العيادة، ويتطلبه بصفة خاصة الداعية والمربي في كل أحواله ومقاماته.
[1] مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة (537)، والنسائي (1218)، وأبو داود (930)، وأحمد (23813).
[2] البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود (670)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام (466)، والدارمي (1259)، وابن خزيمة (1605)، وابن حبان (2137)، والطبراني في الكبير (560)، وابن أبي شيبة (4657).