جرير بن عطية الكلبي اليربوعي التميمي (33 هـ - 110 هـ/ 653 - 728 م)
شاعر من بني كليب بن يربوع من قبيلة بني تميم وهي قبيلة في نجد، ولد في بادية نجد من أشهر شعراء العرب في فن الهجاء وكان بارعًا في المدح أيضًا.
كان جرير أشعر أهل عصره، ولد ومات في نجد، وعاش عمره كله يناضل شعراء زمنه ويساجلهم فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل.
كان عفيفاً، وهو من أغزل الناس شعراً. بدأ حياتة الشعرية بنقائض ضد شعراء محليين ثم تحول إلى الفرزدق "ولج الهجاء بينهما نحوا من أربعين سنة" و إن شمل بهجائة أغلب شعراء زمانه
مدحبني أمية ولازم الحجاج زهاء العشرين سنة ووصلت أخباره و أشعاره الأفاق وهو لايزال حيا
، و أشتغلت مصنفات النقد و الأدب به و أقترن ذكرة بالفرزدق و الأخطل .
اسمه ونسبه
هو أبو حرزة : جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب
بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن إد بن طابخة بن إلياس
بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، الكلبي اليربوعي التميمي.
نشأة جرير
كان له نسب كريم ، وكان والده على قدر كبير من الفقر،
ولكن جده حذيفة بن بدر الملقب بالخطفي كان يملك قطيع كبير من الجمال و الغنم
وكان ينظم الشعر وكذلك كانت أمه أيضًا
عندما ولد جرير وضعته أمه لسبعة أشهر من حملها،
ورأت رؤيا مفزغة فذهبت إلي العراف حتي يفسر الرؤيا فعادت تقول:
نشأ جرير في بادية نجد وعاش فيها وتعلم الشعر مبكرًا على لسان جده حذيفة بن بدر،
وقد نشأ في العصر الأموي الذي تعددت فيه الأحزاب فكان لكل حزب شعراؤه الذين يتحدثون باسمه ويذودون عنه.
وكان على جرير أن يذود عن شرف وكرامة قبيلته فاضطر أن يفني عمره في مصارعة الشعراء وهجاءهم حتي قيل أنه هجي وهزم ثمانين شاعرًا في عصره، ولم يثبت منهم إلا الأخطل والفرزدق
شعر جرير
شاع أن جريرا من الذين "هجوا فوضعوا من قدر من هجوا" شأن زهير والطرفة والأعشى والنابغة
. لذلك لم يرفع بنو نمير رأسا بعد بيت جرير الإ نكس بهذا البيت
وصنعت الأخبار في مايجد خصمه من العناء و الموت أحيانا [9]
لنجاعة شعره وعميق أثره في الناس وجرت أشعاره مجرى الأحاجي [10]
و تمثلوا بها في تصاريف حياتهم و وضعت فيها الأصوات ونسبت إلي آراء في المغنين [11]،
وجعل رواية لأخبارهم،[12] ومورثهم الشعر [13]، وأتصل بهم وسافر إليهم لينصت إلا ماوضعوا في أشعاره من أصوات [14]،
ولذلك سارت أشعاره في كتب الأخبار والتاريخ وجرت فيها مصادر معرفة وأقيسة في الإفتاء : أمر الحجاج بن يوسف (ت95هـ) بأن تضرب عن سعيد بن جبير وقد نكث ببيعتين لأمير المؤمنين ، وجعل مرجعة في هذا الأمر . قول جرير :
و أعرض الخليفة المنصور (ت158هـ) عن الزواج بأخت هشام بن عمر والتغلبي ، لبيت قاله جرير في بني تغلب :
قال : «""فأخاف ان تلد لي ولدا فيعبر بهذا البيت"".» [16]
شاعت إذن الأخبار في شعر جرير وسيرة في الناس ، وشاعت الأخبار التي تنزل جرير منزلة الناقد في تقدير مراتب الشعراء والحكم بينهم. [17] وشبهت منزلته من شعراء الإسلام بمنزلة الأعشى من شعراء الجاهلية ، فهو أستاذهم [18] لذلك أقر الراعي النميري (خصم جرير) بأن : «"الإنس و الجن لو أجتمعت ما أغنوا فيه شيئا".»[19]
ولذلك أيضا قال أبومهدي الباهلي ، وهو من علماء العرب : «"لا يزال الشعراء موقوفين يوم القيامة حتى يجئ جرير فيحكم بينهم".» [20]
جرير يرثي زوجته
وهي من أعظم المراثي العربية :
ففي هذه الأبيات نري نفثه حزينة حين يرثي الشاعر زوجته المتوفاة . ونراه فيها يقع بين صراع تفرضه عليه العادات والتقاليد، وبين آلامه وأحزانه ومحبته لزوجته .. إنه الآن قد فقد زوجته، أم أولاده، وقد أصبح متقدما في سنه، فقد كبر وكاد أن يتحطم، فهو بعد وفاة زوجته أصبح مسؤولا عن تربية أطفاله الصغار ورعايتهم بعد رحيل أمهم عنهم.. ثم ينتهي إلي التسليم بأمر الله ثم يدعو لها أن ترعاها الملائكة، لأنها كانت زوجة وفية صالحة .
رثاء جرير للفرزدق
تفوق جرير
1 - قال اعرابي في مجلس الخليفة عبد الملك بن مروان وكان عنده جرير: «"بيوت الشعر اربع (مدح وفخر وغزل وهجاء) وفي كلها غلب جرير".»
فبره جرير ناقة ومئة دينار وبره الخليفة مثلها.
2 - وقالت العرب في المفاضلة بين جرير والفرزدق :
و ذلك دلالة علي أن شعر جرير ذو طابع رقيق منساب بينما كان شعر الفرزدق يتميز بالفخامة وكثرة التنقيح والتدبيج.
3 - وقال الفرزدق في هذا الصدد :
جرير والراعي النميري
تبادل جرير والفرزدق الهجاء أكثر من أربعين سنة ، وكان كثير من الشعراء ينزلق في هذه المناظرة مؤيدا شاعرا علي الاخر، وهذا ما حدث للراعي النميري حيث انحاز إلى الفرزدق علي حساب جرير حيث قال :
فلم يمهله جرير كثيرا بل اعد له في اليوم التالي قصيدة تتكوم من97 بيت من الشعر، فأتي سوق المربد بعد أن احتل الناس مراكزهم واسرج ناقته عند مجلس الفرزدق والراعي النميري وألقي قصيدته, وهذه بعض ابياتها :
شعره
اتفق علماء الأدب، وأئمة نقد الشعر، علي انه لم يوجد في الشعراء الذين نشؤوا في ملك الإسلام أبلغ من جرير والفرزدق والأخطل، وانما اختلفوا في أيهم أشعر، ولكل هوي وميل في تقديمه صاحبه، فمن كان هواه في رقة النسيب، وجودة الغزل والتشبيب، وجمال اللفظ ولين الأسلوب، والتصرف في أغراض شتي فضّل جريراً، ومن مال إلي إجادة الفخر، وفخامة اللفظ، ودقة المسلك وصلابة الشعر، وقوّة أسره فضّل الفرزدق، ومن نظر بُعد بلاغة اللفظ، وحُسن الصوغ إلي إجادة المدح والإمعان في الهجاء واستهواه وصف الخمر واجتماع الندمان عليها، حكم للأخطل، وإن لجرير في كل باب من الشعر ابياتاً سائرة، هي الغاية التي يضرب بها المثل، ومن ذلك قوله في الفخر:
ومن قوله يمدح عمر بن عبد العزيز :
ومن قوله في التهكم :
وقوله في مدح عبد الملك بن مروان:
وقوله في هجاء الراعي النميري:
وقوله في الغزل:
وقوله في صدق النفس:
بعض قصائد جرير
قصيدة بان الخليط
المديح عند جرير
لقد أكثر جرير من المديح، وخصوصا لبني امية وكان مديحه لهم يشيد بمجدهم التليد ويروي مآثرهم ومكارمهم ، و إذا مدح الحجاج أو الأمويين بالغ في وصفهم بصفات الشرف وعلو المنزلة والسطوة وقوة البطش، ويلح إلحاحا شديدا في وصفهم بالجود والسخاء ليهز أريحيتهم، وقد يسرف في الاستجداء وما يعانيه من الفاقة ، كما تكثر في أماديحه لهم الألفاظ الإسلامية والاقتباسات القرآنية
جرير مفاخرًا هاجيًا
عاصر الشاعر "عبيد الراعي" الشاعرين جريرًا والفرزدق، فقيل إن الراعي الشاعر كان يسأل عن هذين الشاعرين فيقول: «"الفرزدق أكبر منهما وأشعرهما.".»
فمرة في الطريق رآه الشاعر جرير وطلب منه أن لا يدخل بينه وبين الفرزدق ، فوعده بذلك ، ولكن الراعي هذا لم يلبث أن عاد إلي تفضيل الفرزدق على جرير، فحدث أن رآه ثانية، فعاتبه فأخذ يعتذر إليه، وبينما هما علي هذا الحديث، أقبل ابن الراعي وأبي أن يسمع اعتذار أبيه لجرير، حيث شتم ابن الراعي الشاعر جريرًا وأساء إليه .
كما ان الهجاء عند جرير شديد الصلة بالفخر، فهو إذا هجا افتخر، وجعل من الفخر وسيلة لإذلال خصمه. أما موضوع فخره فنفسه وشاعريته، ثم قومه وإسلامه.
فإذا هجا الفرزدق اصطدم بأصل الفرزدق الذي هو أصله، فكلاهما من"تميم"، وإذا هجا الأخطل فخر بإسلامه ومضريته، وفي مضر النبوة والخلافة:
غزل جرير
لم يكن غزل جرير فنا مستقلا في شعره، فقد مزج فيه أسلوب الغزل الجاهلي بأسلوب الغزل العذري . فهو يصف المرأة ويتغزل بها، ثم يتنقل من ذلك إلي التعبير عن دواخل نفسه، فيصور لنا لوعته وألمه وحرمانه، كما يحاول رصد لجات نفسه فيقول:
رثاء خاص
هذا وقد رثي جرير نفسه حين رثي خصمه الفرزدق وحاول أن يقول فيه كلمة حلوة في أواخر عمره، ومما قال:
أسلوب جرير
يتميز اسلوبه بسهولة الألفاظ وهي ظاهرة في جميع شعره ، وبها يختلف عن منافسيه الفرزدق والأخطل الذين كانت ألفاظهما أميل إلي الغرابة والتوعر والخشونة ، وقد أوتي جرير موهبة شعرية ثرة، وحسا موسيقيا، ظهر أثرهما في هذه الموسيقي العذبة التي تشيع في شعره كله ، وكان له من طبعه الفياض خير معين للإتيان بالتراكيب السهلة التي لا تعقيد فيها ولا التوا.. فكأنك تقرأ نثرا لا شعرا.
إن اعتماد جرير علي الطبع وانسياقه مع فطرته الشعرية من الأمور التي أدت أيضا إلي سهولة شعره وسلاسة أسلوبه ورقة ألفاظه، إذ كان لشعره موسيقي تطرب لها النفس، ويهتز لها حس العربي الذي يعجب بجمال الصيغة والشكل، ويؤخذ بأناقة التعبير وحلاوة الجرس أكثر مما يؤخذ بعمق الفكرة والغوص علي المعاني.
ولهذا أبدع جرير في أبواب الشعر التي تلائمها الرقة والعذوبة، كالنسيب والرثاء..
وكان لحياة جرير البدوية أثرها الكبير في شعره، كما كان لها أثرها في نفسه .. فتأثير النشأة البدوية واضح من جزالة ألفاظه ورقتها وسهولتها، إلا أن شعر جرير لم يخلص لأثر البادية وحدها، فقد كان للقرآن الكريم أثره في شعره، إذ لطف فيه من طابع البداوة، وكان له أثره في رقة ألفاظه وسهولة أسلوبه، كما كان له أثر في معانيه وأفكاره ، كما ان جرير لا يكثر من الصور البيانية في قصائدة .. ففي شعره يظهر الأسلوب البدوي، فهو قريب التناول جميل التعبير.
خصائص أشعار جرير
يتميز شعره بملامح فنه أبرزها أنه في شعره يجول في ساحات واسعة الأرجاء، متعددة الجوانب، فقد طرق أكثر الأغراض الشعرية المعروفة وأجاد فيها، وأعانته علي ذلك طبيعته الخاصة المواتية. و كانت معاني الشاعر جرير في شعره فطرية،كما إن الصور والأخيلة جاءت متصلة بالباديةالتي ارتبطت بها حياته أشد الارتباط و لجرير بعد ذلك قدرته علي انتقاء اللفظ الجزل، ومتانة النسج، وحلاوة العبارة، والجرس الموسيقي المؤثر ... وخاصة في غزله حيث العاطفة الصادقة التي تتألم وتتنفس في تعبير رقيق لين.
شاعر من بني كليب بن يربوع من قبيلة بني تميم وهي قبيلة في نجد، ولد في بادية نجد من أشهر شعراء العرب في فن الهجاء وكان بارعًا في المدح أيضًا.
كان جرير أشعر أهل عصره، ولد ومات في نجد، وعاش عمره كله يناضل شعراء زمنه ويساجلهم فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل.
كان عفيفاً، وهو من أغزل الناس شعراً. بدأ حياتة الشعرية بنقائض ضد شعراء محليين ثم تحول إلى الفرزدق "ولج الهجاء بينهما نحوا من أربعين سنة" و إن شمل بهجائة أغلب شعراء زمانه
مدحبني أمية ولازم الحجاج زهاء العشرين سنة ووصلت أخباره و أشعاره الأفاق وهو لايزال حيا
، و أشتغلت مصنفات النقد و الأدب به و أقترن ذكرة بالفرزدق و الأخطل .
اسمه ونسبه
هو أبو حرزة : جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب
بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن إد بن طابخة بن إلياس
بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، الكلبي اليربوعي التميمي.
نشأة جرير
كان له نسب كريم ، وكان والده على قدر كبير من الفقر،
ولكن جده حذيفة بن بدر الملقب بالخطفي كان يملك قطيع كبير من الجمال و الغنم
وكان ينظم الشعر وكذلك كانت أمه أيضًا
عندما ولد جرير وضعته أمه لسبعة أشهر من حملها،
ورأت رؤيا مفزغة فذهبت إلي العراف حتي يفسر الرؤيا فعادت تقول:
قصصتُ رؤياي علي ذاك الرّجل | فقال لي قولاً، وليت لم يقل | |
لـتَلِدنّ عـضلة مـن الــعضل | ذا منـطق جزلٍ إذا قال فصل |
نشأ جرير في بادية نجد وعاش فيها وتعلم الشعر مبكرًا على لسان جده حذيفة بن بدر،
وقد نشأ في العصر الأموي الذي تعددت فيه الأحزاب فكان لكل حزب شعراؤه الذين يتحدثون باسمه ويذودون عنه.
وكان على جرير أن يذود عن شرف وكرامة قبيلته فاضطر أن يفني عمره في مصارعة الشعراء وهجاءهم حتي قيل أنه هجي وهزم ثمانين شاعرًا في عصره، ولم يثبت منهم إلا الأخطل والفرزدق
شعر جرير
شاع أن جريرا من الذين "هجوا فوضعوا من قدر من هجوا" شأن زهير والطرفة والأعشى والنابغة
. لذلك لم يرفع بنو نمير رأسا بعد بيت جرير الإ نكس بهذا البيت
وصنعت الأخبار في مايجد خصمه من العناء و الموت أحيانا [9]
لنجاعة شعره وعميق أثره في الناس وجرت أشعاره مجرى الأحاجي [10]
و تمثلوا بها في تصاريف حياتهم و وضعت فيها الأصوات ونسبت إلي آراء في المغنين [11]،
وجعل رواية لأخبارهم،[12] ومورثهم الشعر [13]، وأتصل بهم وسافر إليهم لينصت إلا ماوضعوا في أشعاره من أصوات [14]،
ولذلك سارت أشعاره في كتب الأخبار والتاريخ وجرت فيها مصادر معرفة وأقيسة في الإفتاء : أمر الحجاج بن يوسف (ت95هـ) بأن تضرب عن سعيد بن جبير وقد نكث ببيعتين لأمير المؤمنين ، وجعل مرجعة في هذا الأمر . قول جرير :
يا ربّ ناكث بيعتين تركته | وخضاب لحيته دم الأوداج [15] |
لا تطلبنّ خؤّولة في تغلب | فالزنج اكرم منهم أخوالا |
شاعت إذن الأخبار في شعر جرير وسيرة في الناس ، وشاعت الأخبار التي تنزل جرير منزلة الناقد في تقدير مراتب الشعراء والحكم بينهم. [17] وشبهت منزلته من شعراء الإسلام بمنزلة الأعشى من شعراء الجاهلية ، فهو أستاذهم [18] لذلك أقر الراعي النميري (خصم جرير) بأن : «"الإنس و الجن لو أجتمعت ما أغنوا فيه شيئا".»[19]
ولذلك أيضا قال أبومهدي الباهلي ، وهو من علماء العرب : «"لا يزال الشعراء موقوفين يوم القيامة حتى يجئ جرير فيحكم بينهم".» [20]
جرير يرثي زوجته
وهي من أعظم المراثي العربية :
لولا الحياء لهاجني استــعبارُ | ولزرت قبركِ والحـبيبُ يزارُ | |
ولقد نظرتُ وما تمتعُ نظــرةٌ | في اللحدِ حيث تمكنُ المحفارُ | |
فجزاكِ ربكِ في عشيركِ نظرةٌ | وسقي صداك مجلجل مدرارُ | |
ولَّهتِ قلبي إذ علتني كــــبرةٌ | وذوو التمائم من بنيك صغارُ | |
أرعي النجومَ وقد مضـتْ غوريةٌ | عصبُ النجومِ كأنهنَ صوارُ | |
نعم القرينُ وكنتِ عــلق مضنةٍ | واري بنعف بلية ،الأحجـارُ | |
عمرت مكرمةَ المساكِ وفارقتْ | ما مسها صلفٌ ولا إقتارُ |
ففي هذه الأبيات نري نفثه حزينة حين يرثي الشاعر زوجته المتوفاة . ونراه فيها يقع بين صراع تفرضه عليه العادات والتقاليد، وبين آلامه وأحزانه ومحبته لزوجته .. إنه الآن قد فقد زوجته، أم أولاده، وقد أصبح متقدما في سنه، فقد كبر وكاد أن يتحطم، فهو بعد وفاة زوجته أصبح مسؤولا عن تربية أطفاله الصغار ورعايتهم بعد رحيل أمهم عنهم.. ثم ينتهي إلي التسليم بأمر الله ثم يدعو لها أن ترعاها الملائكة، لأنها كانت زوجة وفية صالحة .
رثاء جرير للفرزدق
لعمري لقد أشجي تميمـاً وهده | علي نكبات الدهر موت الفرزدق | |
عشيـة راحـوا للفـراق بنعشه | إلي جدثٍ في هوة الأرض معمـقِ | |
لقد غادروا في اللحد من كان ينتمي | إلي كل نجم فـي السمـاء محلـقِ | |
ثوي حامل الأثقال عن كل مُغـرمٍ | ودامغ شيطان الغشـوم السملـقِ | |
عمـاد تميـم كلهـا ولسانـهـا | وناطقها البذاخ فـي كـل منطـقِ | |
فمن لذوي الأرحام بعد ابن غالبٍ | لجارٍ وعانٍ في السلاسـل موثـقِ | |
ومن ليتيم بعد موت ابـن غالـب | وأم عـيـال ساغبـيـن ودردقِ | |
ومن يطلق الأسري ومن يحقن الدما | يداه ويشفي صدر حـران مُحنَـقِ | |
وكم من دمٍ غـالٍ تحمـل ثقلـه | وكان حمولاً في وفـاءٍ ومصـدقِ | |
وكم حصن جبار هُمـامٍ وسوقـةٍ | إذا مـا أتـي أبوابـه لـم تغلـق | |
تفتـح أبـواب الملـوك لوجهـه | بغيـر حجـاب دونـه أو تملُـقِ | |
لتبكِ عليه الأنس والجن إذ ثـوي | فتي مُضرٍ في كل غـربٍ ومشـرقِ | |
فتيً عاش يبني المجد تسعيـن حجـةً | وكان إلي الخيرات والمجـد يرتقـي | |
فما مات حتي لـم يُخلـف وراءه | بحيـة وادٍ صولـةً غيـر مصعـقِ |
1 - قال اعرابي في مجلس الخليفة عبد الملك بن مروان وكان عنده جرير: «"بيوت الشعر اربع (مدح وفخر وغزل وهجاء) وفي كلها غلب جرير".»
- ففي الفخر قال :
إذا غضبت عليك بنو تميم | حسبت الناس كلهم غضابا |
- وفي المدح قال :
ألستم خير من ركب المطايا | وأندى العالمين بطون راح |
- وقوله في الغزل :
إن العيون التي في طرفها حور | قتلننا ثم لم يحين قتلانا |
- وفي الهجاء قوله :
فغض الطرف انك من نمير | فلا كعبًا بلغت ولا كلابا |
2 - وقالت العرب في المفاضلة بين جرير والفرزدق :
| جرير يغرف من بحر والفرزدق بنحت في الصخر | |
3 - وقال الفرزدق في هذا الصدد :
| ما أحوج جرير مع غفته إلي صلابة شعري، وأحوجني مع قجوري إلي رقة شعرة | |
جرير والراعي النميري
تبادل جرير والفرزدق الهجاء أكثر من أربعين سنة ، وكان كثير من الشعراء ينزلق في هذه المناظرة مؤيدا شاعرا علي الاخر، وهذا ما حدث للراعي النميري حيث انحاز إلى الفرزدق علي حساب جرير حيث قال :
يا صاحبي دنا الرواح فسيرا | غلب الفرزدق في الهجاء جريرا |
أعد الله للشعراء مني | صواعق يخضعون لها الرقابا | |
أنا البازي المدل علي نمير | اتحت من السماء لها انصبابا | |
إذا علقت مخالبه بقرن | اصاب القلب أو هتك الحجابا | |
تري الطير العتاق تظل منه | جوانح للكلاكل ان تصابا | |
فلا صلي الإله علي نمير | ولا سقيت قبورهم السحابا | |
ولو وزنت حلوم بني نمير | علي الميزان ما بلغت ذبابا | |
ستهدم حائطي قرماء مني | قواف لا اريد بها عتابا | |
أعد لهم مواسم حاميات | فيشفي حر شعلتها الجرابا | |
فغض الطرف انك من نمير | فلا كعب بلغت ولا كلابا | |
أتعدل دمنة قلت وخبثت | إلي فرعين قد كثرا وطابا | |
اذا غضبت عليك بنو تميم | حسبت الناس كلهم غضابا | |
لنا البطحاء تفعمها السواقي | ولم يكن سيل أوديتي شعابا | |
ستعلم من اعز حمي بنجد | وأعضمنا بغائرها هضابا | |
شياطين البلاد يخفن زأري | وحية أريحاء لي استجابا | |
اليك اليك عبد بني نمير | ولما تقتدح مني شهابا |
اتفق علماء الأدب، وأئمة نقد الشعر، علي انه لم يوجد في الشعراء الذين نشؤوا في ملك الإسلام أبلغ من جرير والفرزدق والأخطل، وانما اختلفوا في أيهم أشعر، ولكل هوي وميل في تقديمه صاحبه، فمن كان هواه في رقة النسيب، وجودة الغزل والتشبيب، وجمال اللفظ ولين الأسلوب، والتصرف في أغراض شتي فضّل جريراً، ومن مال إلي إجادة الفخر، وفخامة اللفظ، ودقة المسلك وصلابة الشعر، وقوّة أسره فضّل الفرزدق، ومن نظر بُعد بلاغة اللفظ، وحُسن الصوغ إلي إجادة المدح والإمعان في الهجاء واستهواه وصف الخمر واجتماع الندمان عليها، حكم للأخطل، وإن لجرير في كل باب من الشعر ابياتاً سائرة، هي الغاية التي يضرب بها المثل، ومن ذلك قوله في الفخر:
إذا غَضِبَتْ عليكَ بنو تميم | حَسِبْت الناس كلَّهُم غِضابا |
إنــا لنرجـو إذا مـا الغيـث أخلفنـا | مـن الخليفـة مـا نرجـو مـن المطر | |
نــال الخلافـة إذ كـانت لـه قـدرا | كمـا أتـى ربـه موسـى على قدر |
زعــم الفـرزدق أن سـيقتل مربعـا | أبشــر بطــول سـلامة يـا مـربع |
ألـَسْتُم خَيَرَ مَنْ ركب المطايا | وأندي العالمين بطونَ راحٍ |
اعد الله للشعراء مني | قصائد يخضعون لها الرقابا | |
انا البازي المدل علي نمير | اتحت من السماء لها انصبابا | |
فلا صلي الاله علي نمير | ولا سقيت قبورهم السحابا | |
فغُض الطرفَ إنك من نمير | فلا كعب بلغتَ ولا كِلابا |
إن العيون التي في طرفها حَـوَرٌ | قَتَلْننـا ثـم لـم يحييـن قتلانـا | |
يصرعنَ ذا اللُّبِّ حتي لا حراكَ بهِ | وَهُنَّ أضعـفُ خلـقِ الله أركانـا |
إني لأرجو منك خيرا عاجلا | والنفس مولعة بحب العاجل |
قصيدة بان الخليط
بان الخليط ولو طوعت ما بان | وقطعو من حبال الصرم اقرانا | |
حي المنازل إذ لا نبتغي بدلا | بالدار دار ولا الجيران جيرانا | |
قد كنت في اثر الاظعان ذا طرب | مروعا من حذار البين محزانا | |
يا رب مكتئب لو قد نعيت له | باك واخر مسرور بمنعانا | |
لو تعلمبن الذي نلقا أويت لنا | أو تسمعين إلي ذي العرش شكوانا | |
كصاحب الفلك إذ مالت سفينته | يدعوا إلي الله اسرارا واعلانا | |
يا أيها الراكب مزجي مطيته | بلغ تحياتنا قد بلغت حملانا | |
بلغ قصائد عنا خف محملها | علي قلائص لم يحملن حيرانا | |
كيما نقول إذ بلغت حاجتنا | انت الامين إذا مستأمن خانا |
لقد أكثر جرير من المديح، وخصوصا لبني امية وكان مديحه لهم يشيد بمجدهم التليد ويروي مآثرهم ومكارمهم ، و إذا مدح الحجاج أو الأمويين بالغ في وصفهم بصفات الشرف وعلو المنزلة والسطوة وقوة البطش، ويلح إلحاحا شديدا في وصفهم بالجود والسخاء ليهز أريحيتهم، وقد يسرف في الاستجداء وما يعانيه من الفاقة ، كما تكثر في أماديحه لهم الألفاظ الإسلامية والاقتباسات القرآنية
|
عاصر الشاعر "عبيد الراعي" الشاعرين جريرًا والفرزدق، فقيل إن الراعي الشاعر كان يسأل عن هذين الشاعرين فيقول: «"الفرزدق أكبر منهما وأشعرهما.".»
فمرة في الطريق رآه الشاعر جرير وطلب منه أن لا يدخل بينه وبين الفرزدق ، فوعده بذلك ، ولكن الراعي هذا لم يلبث أن عاد إلي تفضيل الفرزدق على جرير، فحدث أن رآه ثانية، فعاتبه فأخذ يعتذر إليه، وبينما هما علي هذا الحديث، أقبل ابن الراعي وأبي أن يسمع اعتذار أبيه لجرير، حيث شتم ابن الراعي الشاعر جريرًا وأساء إليه .
كما ان الهجاء عند جرير شديد الصلة بالفخر، فهو إذا هجا افتخر، وجعل من الفخر وسيلة لإذلال خصمه. أما موضوع فخره فنفسه وشاعريته، ثم قومه وإسلامه.
فإذا هجا الفرزدق اصطدم بأصل الفرزدق الذي هو أصله، فكلاهما من"تميم"، وإذا هجا الأخطل فخر بإسلامه ومضريته، وفي مضر النبوة والخلافة:
|
لم يكن غزل جرير فنا مستقلا في شعره، فقد مزج فيه أسلوب الغزل الجاهلي بأسلوب الغزل العذري . فهو يصف المرأة ويتغزل بها، ثم يتنقل من ذلك إلي التعبير عن دواخل نفسه، فيصور لنا لوعته وألمه وحرمانه، كما يحاول رصد لجات نفسه فيقول:
يا ام عمـرو جـزاك الله مغفـرة | ردي علـي فـؤادي مثلمـا كانـا | |
لقد كتمت الهـوي حتـي تهيمنـي | لا أستطيـع لهـذا الحـب كتمانـا | |
إن العيون التي في طرفهـا حـور قتلننـا | ثـم لـم يحييـن قتلانـا | |
يصرعن ذا اللب حتي لا حراك به | وهـن أضعـف خلـق الله إنسانـا |
رثاء خاص
هذا وقد رثي جرير نفسه حين رثي خصمه الفرزدق وحاول أن يقول فيه كلمة حلوة في أواخر عمره، ومما قال:
لتبك عليه الإنس والجن إذ ثـوي فتي مضر | في كل غرب ومشرق | |
فتي عاش يبني المجد تسعين حجة | وكان إلي الخير والمجـد يرتقـي |
يتميز اسلوبه بسهولة الألفاظ وهي ظاهرة في جميع شعره ، وبها يختلف عن منافسيه الفرزدق والأخطل الذين كانت ألفاظهما أميل إلي الغرابة والتوعر والخشونة ، وقد أوتي جرير موهبة شعرية ثرة، وحسا موسيقيا، ظهر أثرهما في هذه الموسيقي العذبة التي تشيع في شعره كله ، وكان له من طبعه الفياض خير معين للإتيان بالتراكيب السهلة التي لا تعقيد فيها ولا التوا.. فكأنك تقرأ نثرا لا شعرا.
إن اعتماد جرير علي الطبع وانسياقه مع فطرته الشعرية من الأمور التي أدت أيضا إلي سهولة شعره وسلاسة أسلوبه ورقة ألفاظه، إذ كان لشعره موسيقي تطرب لها النفس، ويهتز لها حس العربي الذي يعجب بجمال الصيغة والشكل، ويؤخذ بأناقة التعبير وحلاوة الجرس أكثر مما يؤخذ بعمق الفكرة والغوص علي المعاني.
ولهذا أبدع جرير في أبواب الشعر التي تلائمها الرقة والعذوبة، كالنسيب والرثاء..
وكان لحياة جرير البدوية أثرها الكبير في شعره، كما كان لها أثرها في نفسه .. فتأثير النشأة البدوية واضح من جزالة ألفاظه ورقتها وسهولتها، إلا أن شعر جرير لم يخلص لأثر البادية وحدها، فقد كان للقرآن الكريم أثره في شعره، إذ لطف فيه من طابع البداوة، وكان له أثره في رقة ألفاظه وسهولة أسلوبه، كما كان له أثر في معانيه وأفكاره ، كما ان جرير لا يكثر من الصور البيانية في قصائدة .. ففي شعره يظهر الأسلوب البدوي، فهو قريب التناول جميل التعبير.
خصائص أشعار جرير
يتميز شعره بملامح فنه أبرزها أنه في شعره يجول في ساحات واسعة الأرجاء، متعددة الجوانب، فقد طرق أكثر الأغراض الشعرية المعروفة وأجاد فيها، وأعانته علي ذلك طبيعته الخاصة المواتية. و كانت معاني الشاعر جرير في شعره فطرية،كما إن الصور والأخيلة جاءت متصلة بالباديةالتي ارتبطت بها حياته أشد الارتباط و لجرير بعد ذلك قدرته علي انتقاء اللفظ الجزل، ومتانة النسج، وحلاوة العبارة، والجرس الموسيقي المؤثر ... وخاصة في غزله حيث العاطفة الصادقة التي تتألم وتتنفس في تعبير رقيق لين.