يصعب القول أيهما وجد قبل الآخر، شيء يشبه قصة البيضة والدجاجة. ولكن من دون الدخول في حوار غير مجد، سنقول إن الجوارير وقطع الأثاث ولدت في وقت واحد. توأمان؟ قد تكون المفردة المناسبة لوصفهما دون أجحاف بحق أي منهما.
الجوارير وقطع الأثاث منذ ولادتها، كان التنافس بينها على النجومية ودور البطولة ولكل من الطرفين صولات وجولات توثقها التصاميم البديعة والصياغات المبتكرة، والأشكال الطريفة حيناً والغريبة حيناً آخر والرصينة في أحيان كثيرة.
على أن الجولة الأخيرة للجوارير، لا تخلو من التميز والجاذبية... أشكالها وأحجامها وألوانها المختلفة.
كبيرة وصغيرة، غامضة وصريحة، كلاسيكية ومعاصرة... تحتل فضاءات الأمكنة، وترفد المساحات بحضورها الجذاب ووظيفتها الخاصة، فتجعل من عملية التخزين والتنظيم مسألة بالغة السهولة والطواعية، فتوفر للحياة اليومية بكل نشاطاتها وميولها كل ما تحتاجه من أجل ترتيب العناصر والأشياء.
وفي هذه الجولة، تُزايد الجوارير على قطع الأثاث وتسرق منها نجوميتها، بكل ما تكشف عنه من تصاميم جميلة وجسورة، بصياغات انيقة، مثيرة، بطرافتها وغرابتها وتطرفها أحياناً، فهذه المبتكرات الجميلة يسميها البعض جيوب الأثاث، لما تحتضنه داخلها من أشياء مهمة أو أقل أهمية يحفظ بعضها الأسرار، ويشي الآخر ببعض من سلوك حياة الفرد وأساليب عيشه وطبيعة ميوله.
قديمة هي الجوارير عادت إلينا من عصور ماضية، مطرزة منقوشة بالزخارف مطعمة وملبّسة بالمعادن والمواد النبيلة الساحرة، تبوح أشكالها وأحجامها ببعض من الأسرار لمهارات حرفية فنية قديمة اكتسبت عبر العصور قيماً زخرفية جديدة، لترتقي بها إلى مستوى التحفة.
فهذه العلب الجميلة التي احتضنتها دائما قطع الأثاث، وأخذت من رحمها أحجاماً متعددة صغيرة وكبيرة أو متوسطة، كانت تلبي دائماً حاجات مختلفة من أنواع التخزين الموقت أو الدائم، بين الحلي والملابس والمقتنيات الخاصة، إلى الأوراق الرسمية والرسائل لتكون حافظة أسرار الكثيرين داخل غرف النوم في المنازل أو فضاءات المكاتب.
شاركت قطع الأثاث في بنيتها وجعلت من بعضها أكثر فائدة وذات طابع عملي نجدها تتخطى الزمن ولا تشيخ، بل تستمد من إيقاع نبضه حيوية متجددة، تكشف ملامح وجهها من حين الى آخر مواكبة حركة التغيير في كل مجتمع، لتساهم من خلال صياغاتها في تجديد بعض ملامحه وتطويره، مثمنة المهارات التقليدية البارعة أو الغريبة والتي تحمل في روحها مناخات الحداثة ورونق الألوان.
التراثيّ والعصريّ
عشاق التراث والأثاث التقليدي القديم يجدون في تصاميم بعض الجوارير ما يلبي حاجاتهم في التنظيم والتخزين دون أن يفقد المناخ الداخلي للصالات والغرف شيئاً من جاذبيته.
والحاجة إليها ضاعفت تنامي أساليب الصياغة والتصميم وتطويرها، فبالإضافة الى أنها تراعي مسائل التخزين وتمنحه أبعاداً جديدة مثالية من حيث المظاهر الجمالية، التقنية الحديثة والطابع العملي، فإنها تستجيب بشكل كبير إلى مختلف طرز أساليب العيش في كل وقت ومجتمع.
وإذا كان بعض المصممين يحاولون استعادة أمجاد الماضي من خلال ما يبتكرونه من الجوارير، فإن كثراً منهم حرروا هذه الصياغات من أشكالها المعروفة لاستخدامه في أساليب هندسة الديكور، لتندمج في أجوائه أو تتفرد بصياغات مثيرة وبحضور عصري جميل يضيف إلى عالم الديزاين لمسة من الحلم والطرافة، وذلك بإيقاعات وألوان مؤكسدة ورسوم مطبوعة مدعومة بمقترحات عديدة من الصور التي يشكل بعضها اقتباساً لأجواء زخرفية تاريخية، أو تعيد الى الذاكرة أجواء مكتبات علماء الطبيعة والنبات وأدراجهم، وذلك بتسليط الضوء على بعض ما أبدعه الفن الزخرفي الفرنسي من قيم جمالية ومبتكرات فنية حرفية يتم فيها تنفيذ تلك التصاميم وفقا لأساليب النجارة التقليدية.
على أن هذه العملية لا تتوقف عند هذا النمط من الإبداع، بل تتعداه، وصولاً الى أساليب اخرى تخص الطبيعة باهتمامها وذلك من خلال استعادات للمواد المدوّرة والأشياء المهملة، وإعادة صياغتها لتصبح جوارير طريفة ومبتكرة يمكن اعتبارها مثل «باتشوورك» يجمع بين نماذج وأشكال طريفة من بقايا الخشب ومخلّفات قطع الأثاث والجوارير القديمة التي يتم فيها الالتفاف على العناصر التي تشكل قطعة الأثاث بأحجامها المختلفة لتلبيس واجهاتها بتلك القطع بأسلوب منظم او عشوائي يضم أشكالاً متنوعة من الأفاريز الغريبة الأشكال.
وكل هذه الجوارير التي تستمد ملامحها من الماضي او تساير في تصاميمها المزاج العصري الحديث في كل اتجاهاته، أو تلك التي تذهب بعيداً في التطرف نحو ابتكار نماذج من الجوارير لا تخطر في بال والتي يقارب بعضها في تكوينه أجواء التحف الفنية النادرة، فهي جميعها وعلى اختلاف مواصفاتها تخدم المطلوب من حفظ لمحتويات منزلية او شخصية او مكتبية او اوراق شخصية، كما تشارك في الوقت ذاته في تزيين المكان وتخدم هوية مظهره وترفده بأناقة خاصة.
فيليب ستارك
في جملة ما تشهده الجوارير من أساليب التجديد والتطوير والتي تتخذ اليوم سياقاً مميزاً، خصوصاً بعد تحرير تلك العلب الجميلة من أطر الأثاث التقليدية وإعطائها فرصة فريدة لكي تطل منفردة على المسرح الزخرفي، بجسم يرتدي حلة أنيقة وبهيكل ذي خطوط سلسة واضحة نقية تثير الاهتمام، نتوقف عند التصاميم الأخيرة التي ابتكرها المصمم العالمي فيليب ستارك في معالجاته المدهشة للجوارير التي أخذت طابعاً عصرياً لافتاً بألوان ثمرية شهية وحامضة تناهض في تشكيلها كل الأساليب التقليدية التي نعرفها عن أشكال الجوارير التي يمنحها ستارك بعداً مثيراً بكل مقاييسه الجمالية والعملية، لتضيء بحضورها وأنماطها الجديدة أجواء الديزاين وتملأها بنفحة من البهجة والفرح.
أنماط جديدة لم يسبق لنا رؤيتها بتصاميمها الطريفة وألوانها المرحة وأحجامها الممشوقة كالأبراج والتي تبدو في مجملها كأنها منحوتات عصرية ساحرة بحيوية ألوانها وتفاصيلها المتقنة التي تتكامل مع تقنية استخدامها ووظائفها.
فهذا المصمم البارع كان من الأوائل الذين قاربوا هذا الموضوع برؤية مختلفة ونظرة مستقبلية تخطت أساليب الإبتكار الأولى والتي حددت يومها هذا النوع من قطع الأثاث المعروف من الجميع بعناصره التقليدية، والتي تشكل الجوارير نواة الخلفية والجانبين، إضافة الى نظام الأنزلاق المتوازي عند الجانبين والواجهة الأمامية للجارور، وكذلك اسلوب فتحه ومن جهة واحدة.
نظام اختفى لمصلحة التصميم الجديد الذي طرحه ستارك بابتكار أبراج من الجوارير المستقلة، كل جارور منها يختلف بلونه وحجمه واتجاهاته عن الآخر، ليكون في النتيجة تصميماً يجمع بشكل طريف تركيبة متمايزة من الأدراج الفاتنة المظهر وغير المنتظمة، والتي تشكل بمظهرها الفريد نوعاً من التصميم الذي يتمتع بتوازن كامل حتى وإن كان مزدحما بطبقات من تلك الجوارير الجميلة.
ارتكز ستارك على موضوع حرية الحركة لأن كل جارور يمكن فتحه باتجاهين مختلفين بحيث يمكن سحبه الى الأمام او دفعه الى الخلف.
يمكن تنسيق هذه الجوارير قبالة جدار أو في وسط غرفة حيث يثير الانتباه، ويتغير ويتجدد مظهر هذه الجوارير حسب الزاوية التي ننظر اليها منها. ويصل عددها إلى ما بين 8 و13 جارورا و يصل إرتفاعها الى 187 سم، كما يمكن تنفيذها من مواد مختلفة مثل خشب البلوط والمعدن.