بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
عبد الله، تخيل أنك عاينت الموت وسكرته، والقبر وضمته، والصراط وحدّته، وأنك ولدت من جديد، سألت الله تبارك وتعالى الرجعة والمهلة، فأُمهلت ورجعت .
تخيل وكأنك فُتحت لك صفحة جديدة، فماذا أنت فاعل؟ وماذا أنت صانع؟
تخيّل وكأن هذه اللحظة التي تعيشها هي لحظتك الأخيرة، وكأن النَّفَس الذي يتردد فيك الآن هو آخر نفس فماذا أنت صانع؟
تخيل ذلك، فإن {كل نفس ذائقة الموت} [آل عمران: 185]،
فقد قال سبحانه وتعالى - وعلينا أن نتذكر -
قال: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد، ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد، وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد، لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد، وقال قرينه هذا ما لدي عتيد، ألقيا في جهنم كل كفار عنيد، مناع للخير معتد مريب، الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد، قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد، قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد، يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد، وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب، ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود، لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} [ق: 19 - 35].
ذكّرنا ربنا جل وعلا، فالواجب علينا أن نتذكر، تخيل لو أنك ولدت من جديد، أنك قد سبق منك حياة عشت فيها حياة «العربدة» حياة التقصير والتفريط، تخيل نفسك وكأنك أفقت من سكرة المعاصي والذنوب،
فماذا أنت فاعل، وماذا أنت صانع؟
تخيل لو كانت هذه اللحظة هي اللحظة الأخيرة، هل ستُسرف على نفسك في الذنوب والمعاصي؟ البعض سأل ربه تبارك وتعالى المهلة، ونعوذ بالله من الخذلان، قال سبحانه وتعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} [الأنعام: 28]، كان هذا هو شأنهم لو أعادهم ربهم تبارك وتعالى إلى الحياة مرة ثانية .
فلك شأن ولهم شأن، أنت أخذت الدرس، أنت وُعظت فاتّعظت، وذُكّرتَ فتذكْرت، لك شأن آخر يختلف عن هؤلاء الكذابين، يختلف عن شأن إبليس الذي لما سأل ربه تبارك وتعالى النظرة والمهلة كان لمزيد من العربدة، ولمزيد من الإنحراف والاعوجاج، {قال أنظرني إلى يوم يبعثون} [الأعراف: 14] وكان سؤاله هذا لكي يمعن في انحراف البشر قال: {لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين } [الأعراف:17].
كان هذا هو غرضه من النظرة والمهلة لا ليتوب كما تاب آدم عليه السلام {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} [البقرة: 37]، {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 23] فنعوذ بالله من الخذلان .
ذكر ربنا عز وجل اللحظة الأخيرة لفرعون وهو يقول: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين } [يونس: 90] قيل له: {آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [يونس: 91]،
لم تُقبل توبته، وتُقبل توبة العبد ما لم يغرغر، فضاعت منه الفرصة؛ لأنه لم يستثمر لحظات العمر فقد ادَّعى الألوهية مع الله تبارك وتعالى {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]، فنعوذ بالله من الخذلان .
فقد حكى الله تبارك وتعالى صورة بعض المخذولين كقوم لوط لماذا لم يتوبوا إلى الله؟ لماذا لم يستعدوا للقاء الله؟ فما الذي ينتظرونه؟! هل ينتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنى مطغيًا، أو هرمًا مفندًا أو الدجال، أو الساعة والساعة أدهى وأمرّ .
مات أبو جهل، ومات أبو لهب، ولكنهم كانوا يصدون عن سبيل الله، كان هذا هو شأنهم، خرجوا يوم بدر بطرًا ورئاء الناس، ونعوذ بالله من الخذلان، ألم تكن فيهم هذه العقول الراجحة، فلماذا لم يلتمسوا الفرصة؟! ولماذا لم يؤمنوا بالله ربا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً ؟!.
حكى لنا سبحانه قول البعض ممن غلبت عليهم شقوتهم، قال جل في علاه في هؤلاء: {ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل} [فاطر: 37]، ويقولون: {يا حسرتنا على ما فرطنا فيها} [الأنعام: 31] .
ولكن أنت في الفرصة ، تخيل نفسك وكأنك ولدت من جديد، فُتحت لك صفحة جديدة،صفحة بيضاء، تخيّل ذلك كله، «فرصة» أمامها الدنيا بأسرها، وإلا فالحياة إلى موت، والمال إلى فوت، وكل نفس ذائقة الموت حتمًا لا محالة وتترك المال والمنصب الذي يشغلك، فإذا ما مات ابن آدم تبعه ماله وأهله وعمله، فيرجع ماله وأهله ويبقى عمله .
والإنسان منّا بحاجة إلى حسنة تثقّل الميزان، فهل تخيلت هذا المشهد، تخيل أقوامًا كتب ربهم لهم السعادة في لحظاتهم الأخيرة كحرصهم على الطاعات، فعند وقوعهم في الشدائد والكربات، ما أنجاهم إلا الإسلام وطاعة الله تبارك وتعالى، دخل الثلاثة الغار فأطبقت عليهم الصخرة، هلاكًا محققًا، فتوسل كل واحد منهم إلى الله تبارك وتعالى بعمله الذي أخلص فيه، فالأول توسل إلى ربه ببره لوالديه، والآخر توسل بعفته عن ابنة عمه عندما تمكن منها، والثالث توسل لربه تبارك وتعالى بغناه عن مال غيره فتدحرجت الصخرة وخرجوا جميعًا يمشون، وما تدحرجت الصخرة إلاّ بالإخلاص .
أسلم رجل فدخل المعركة فقُتل، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالخواتيم» .
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد، وأنت بغير زاد؟ محتاج أنت لحسنة قد تكون بها نجاتك غدًا، فلماذا لا تستثمر الفرصة، استثمر لنفسك بنفسك، وأنت تجد التجار من حولك حريصون كل الحرص على النجاة والكفاح، وأنت في لحظتك هذه من الممكن أن تشتري قرة عين لا تنقضي ونعيم لا ينفد، هذه هي فرصتك لو فاتتك وانقضى أجلك فستندم وإلا فطول الأمل .
فالواجب عليك أن تستحضر أجلك بين عينيك، وأن تستحي من الله حق الحياء قال سبحانه: {وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم} [الأعراف: 46]، رجال تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، منعهم الجهاد من دخول النار، ومنعهم عقوق الوالدين من دخول الجنة،ثم لم تكن لهم حسنة زائدة .
يقول تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} [فاطر: 32]،
فالظالم لنفسه: هو الذي غلبت سيئاته على حسناته، والمقتصد: هو الذي تساوت حسناته مع سيئاته. والسابق بالخيرات: هو الذي غلبت حسناته على سيئاته، وهذا يدخل الجنة لأول وهلة .
وإن لصغير الذرة عند ربك يوزن، لا يظن البعض أنها تضيع عليه، قال تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} [الأنبياء: 47]، وكما يقول ربنا لأهل الجنة بعدما دخلوا الجنة، وقد قاموا مقام الشفاعة - بإذن ربهم - : أخرجوا من قد عرفتم من النار فيخرجون أقوامًا في قلوبهم ما يزن مثقال ذرة من الإيمان، فيخرجونهم من النار، فلا تضيع عليك حسنة قد عملتها، فقد تكون حسنتك التي تأخذ بها كتابك بيمينك .
فمن الواجب عليك أن تتعظ وأن تأخذ الدرس والعبرة ذكّرك ربنا تبارك وتعالى: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} [الأنبياء: 1] .
فكان من الواجب عليك أن تنظر ربما لو غفل قلبك أن يستيقظ قبل فوات الأوان، وإلا فالنيران تُحيط بك من كل جانب، واطلب السلامة واطلب النجاة، فإما جنة وإما نار، والمبادرة بالتوبة إلى الله عز وجل، فإنما هي الأنفاس لو حبست انقطعت عنك أعمالك، إنك أصبحت في أجل منقوص، والموت في رقبتك، والنار بين يديك، فتوقع قضاء الله في كل يوم وليلة. لقد فضح الموت الدنيا، {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب} [البقرة: 197] .
إن الله لا يساوي المحسن بالمسيء، تخيل نفسك ولدت من جديد فماذا أنت صانع؟ وإنك في طلب الآخرة لابد من مسارعة، تقول: {وعجلت إليك رب لترضى} [طه: 84] .
هذه هي فرصتك، فالجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهل أسرعت إلى ربك؟ هل أديت شكره؟ هل شكرته على عمرك فقد قال الله تبارك وتعالى: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} [إبراهيم: 7]؟
فهل تبت إلى الله تبارك وتعالى من سالف أعمالك؟ .
تخيل أن هذا شريط عرض عليك {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا} [آل عمران: 30] .
قتل رجل تسعة وتسعين نفسًا، سأل الرجل : هل لي من توبة فقال له: لا. فقتله وكمل به المئة، لم ييأس ولم يقنط من رحمة الله، فسأل عالم فدلّه على طريق، وعندما انتصف الطريق توفي، فتشاجرت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقبضته ملائكة الرحمة، فتخيل نفسك هذا الشخص .
فلا تيأس من رحمة الله، تخيل نفسك وقد وضعت في قبر غير ممهد، ولا يكون معك فيه سوى عملك، فماذا تصنع بعد أن خلعت الأسلاب وفارقت الأحباب، ووجهت للحساب، فقيرًا إلى ما قدمت .
ولماذا قتل من قتل؟ ولماذا سرق من سرق؟، وأنت بحاجة إلى حسنة تثقل الميزان ويبكيك فلان وعلان، وكلهم يبكيك لنفسه ومن يبكيك لنفسك، {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 34 - 37]، {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} [الحج: 2] .
ولنأخذ درسًا من أنفسنا، هذه هي الفرصة، هذه هي المهلة، محتاجين لليقظة عباد الله، وأن نحسن المسير إلى الله، هذه هي الفرصة، أنفاسنا تعد، ورحالنا تُشد، والعارية تُرد، والتراب من بعد ذلك ينتظر الخد، وعلى أثر من سلف يمشي الخلف، {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} [آل عمران: 185]، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه .
عبد الله، كل منّا مطالب بمحاسبة نفسه قبل أن يحاسب، وأن يتخيل أنه وُلد من جديد، هذا الإنسان الذي فتح له صفحة بيضاء ليس له أن يخربش هذه الصفحة، فضلاً على أنه يصونها، وربنا سبحانه وتعالى أحق أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر، فماذا أنت صانع إذا وُلدت من جديد؟ هذا هو شأن الصالحين، صدقوا الله فصدقهم الله.
وكل خير في اتباع من سلـف وكل شر في ابتداع من خلف
{كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات: 17، 18].
وتخيل أنك ولدت من جديد فتطهر باطنك قبل ظاهرك، ستتعامل مع ربك مخلصًا، وهذه نعمة امتن بها ربك عليك فارتقِ إلى مستواها، فاعمل بإسلامك ولإسلامك، تخيل إذا ما انتهكت محارم الله، وإذا رأيت الزنادقة الملاحدة، والعصاة المذنبين يعملون ما هم عليه، ينشدون إقامة الباطل في دنيا الناس، فليكن شأنك الحفاظ على الإسلام وطاعة الله .
أنت بحاجة أن تسابق الريح في طاعة الله، قيل لبعض السلف: ما تشتهي؟ قال: أشتهي الجنة، قيل له: ما تشتكي؟ قال: أشتكي الذنوب .
كان هذا هو شأنهم رضوان الله عليهم أجمعين، كانوا فقهاء، والفقهاء سادة، ومجالستهم زيادة، هم السادة والقادة، رحمة الله عليهم أجمعين .
محتاجين أن نرتفع بارتفاع دعوة الإسلام، وكفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول، عندما سمع حنظلة النداء يوم عرسه خرج مسرعًا للجهاد، ورآه النّبيّ صلى الله عليه وسلم تغسله الملائكة، فسأل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم زوجته فقالت: كان جنبًا .
كن حذرًا من وساوس الشياطين، هذه فرصتك، إن ضاعت الفرصة لا تعوض، وأنت عبارة عن ساعة، وقيل: الحياة ساعة، فاجعلها طاعة، وقيل: النفس طماعة، فعلمها القناعة.
رب انصرنا ولا تنصر علينا، واهدنا واهدِ بنا .