مدينة دمشق :
دمشق من المدن القديمة في بلاد الشام وقلعة من قلاع العلم والحضارة يشهد بذلك تاريخها القديم وقد توالى على دمشق كبير من الحكام فاهتموا بها وجعلوا منها قبلة للعلماء .
حكمها الآراميون – واليونانيون – والرومان ودخلها المسلمون فاتحين في عصر الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخها ولِتُسهم في بناء صرح الحضارة الإسلامية .
وعرفت دمشق العقائد الدينية المختلفة ففيها ظهرت الوثنية وفيها أيضاً المسيحية وحين تحولت إلى مدينة إسلامية عز فيها الإسلام وارتفع شأنه وازدادت أهمية دمشق حين غدت حاضره للخلافة الإسلامية في عهد الأمويين فشهدت بذلك نقلة تاريخية عظيمة وكان عصرها الذهبي فازدهرت حضارة الإسلام فيها وانطلقت منها إشعاعات فكرية ووفد عليها العلماء والفقهاء والمترجمون وارتفعت المباني الإسلامية الشامخة وعلى رأسها المسجد الأموي .
ودمشق بحكم موقعها الجغرافي ملتقى للحضارات فهي البوتقة التي انصهرت فيها حضارات الشرق القديم . من العراق ومن مصر وظل دورها المميز كمركز من مراكز الحضارة علامة بارزة في تاريخها .
ودخلها المسلمون صلحاً وكان بناء المسجد الأموي نقطة تحول في تاريخ المدينة إذا تحولت إلى واحدة من أهم المدن الإسلامية . ويعد المسجد الأموي أهم الآثار الإسلامية وهو من أشهر جوامع الإسلام حسناً وإتقان في بناؤه وغرابة صنعه .
وقد اختطه أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أحد قادة الفتح سنة 13هـ واستولى على النصف الشرقي للكنيسة المسيحية وصبره مسجداً وظل النصف الغربي بأيدي المسيحيين وذلك وفقاً لشروط الصلح .
ولما أراد الوليد بن عبد الملك بناء المسجد عرض على المسيحيين مبلغ من المال مقابلة شراء النصف الغربي من الكنيسة وبذلك هدمت الكنيسة وأقيم مكانها مع مسجد أبي عبيدة بن الجراح المسجد الأموي سنة 87هـ وتسمى هذه الكنيسة [ كنيسة القديس يوحنا ] .
وكان المسجد النبوي من أكبر المساجد في الإسلام وله طابعه الخاص . وقد كان موضع اهتمام الخلفاء والملوك والسلاطين والحكام فزادوا في ويحتل المسجد الأموي في دمشق مكانة بارزة في تاريخ الحضارة الإسلامية فهو الذي حول دمشق إلى مدينة تتجه إليها الأنظار ويؤمها العلماء والفقهاء ورجال الدين ويفد إليها طلال العلم من كل مكان وقد ظلت مدينة دمشق حاضر الشام عاصمة للخلافة الأموية حتى انتهت دولتهم سنة 132هـ .
3- مدينة القيروان :
عند فتح المسلمون العرب بلاد المغرب أراد " عقبة بن نافع " أن يقيم مدينة إسلامية تكون قاعدة للإسلام ومركزاً للحضارة الإسلامية . وأن تكون هذه المدينة في مأمن عن غارات الروم وأن لا تكون على الساحل فاختار موقعها داخلياً .
ولقد وفقه الله " عقبة " في اختيار موقع المدينة :
أ- بعدها عن البحر جعلها بمآمن عن غارات الروم وأساطيلها البحرية .
ب- كما أن موقعها الداخلي جعلها قريبة من المراعي التي يسهل على إبل ودواب المسلمين على ارتيادها .
ويذكر أن عقبة ركب وأتى وادياً وكان كثير الشجر كثير القطف تأوي إليه الوحوش والسباع ثم نادى بأعلى صوته يا أهل الوادي ارتحلوا رحمكم الله فإنا نازلون نادى بذلك ثلاثة أيام فلم يبقى من السباع والوحوش شيء إلا خرج .
وقد بدأ بناء القيروان سنة 50هـ وهي رابع مدينة إسلامية يؤسسها المسلمون وانتهى البناء سنة 55هـ .
وأول شيء اختطه عقبة بن نافع هو المسجد الجامع وقد ازدهرت المدينة حتى أصبحت عاصمة المغرب كله وتشتهر بعمارة مبانيها ورونقها وحُسن أسواقها ورواج تجارتها ويسار أهلها.
وتعتبر القيروان من المراكز الإسلامية التي أسهمت في نشر الإسلام في أفريقيا ومنها انتقل إلى أوروبا .
وفي عهد الدولة الأموية تعتبر القيروان قاعدة حضارية وإستراتيجية هامة وقد خشي الأمويين نفوذ أهل القيروان .
ثم عزل والي مصر مسلمة من مخلد الأنصاري " عقبة بن نافع " وعين أي المهاجرين بن دينار الذي أساء عزل عقبة فاشتكى " عقبة " إلى معاوية الذي وعده بإعادته إلى ولايته في بلاد المغرب إلا أن معاوية بن أبي سفيان توفي وتولى ابنه يزيد بن معاوية الذي أعاد " عقبة بن نافع " إلى بلاد المغرب سنة 62هـ وعندما مر بمصر عقبة اعتذر له والي مصر مخلد بن مسلمة عما بدر من أبي المهاجر ويقال أنه انتقم من أبي المهاجر فصادر أمواله وأوثقه في الحديد .
وقد عانت القيروان الإهمال في ولاية أبي المهاجر فقد أخليت من المعسكر ونقل أبي المهاجر الدوائر الحكومية إلى منطقة الجديدة مما أدى إلى ركود السياسة والإدارة والاقتصاد والناحية الاجتماعية .
ولكن بعودة عقبة بن نافع عاد للقيروان جمالها ورونقها فقام بتجديد المباني وترميمها وانتعشت الأحوال الاقتصادية والفكرية والاجتماعية واحي الجهاد .
ويذكر أن عقبة بن نافع ركب مع قومه وأصحاب رسول الله والتابعين ودار حول القيروان وقال يارب أملأها علماً وفقهاً وأملأها بالمطيعين لك وأجعلها عز لدينك وذلاً على من كفر بك .
وقد عاش القيروان أحداث وقتال المسلمين لاستكمال فتح بقية المغرب وصراعهم مع البربر وكيف تحالفوا مع الروم ضد المسلمين .
وفي القيروان لقي عقبة بن نافع ربه شهيداً مجاهداً في سبيل الله . ثم تراجعت القيروان إمام جيوش كسيله وغيره إلا أن زهير البلوي استرجعها لتواصل دورها الحضاري والفكري الذي ارتبط باسمها منذ أنشأها .
4- قرطبة :
تعتبر قرطبة من أقدم المدن في شبه الجزيرة الأيبيرية ولها شهرة واسعة في العصور القديمة . ولقد نالت حظاً كبيراً من قبل حكام المسلمين في الأندلس .
ولقد اتخذها المسلمون داراً للإمارة سنة 97هـ كما اهتم بها ولاة الأندلس والخلفاء الأمويين في الشام وذلك أن عمر بن عبد العزيز أمر بناء جسر قرطبة الشهير على النهر الأعظم بالمدينة .
وتعتبر ولاية عبد الرحمن للأندلس نقطة تحول في تاريخ المدينة فقد اهتم بها اهتماماً كبيراً حتى غدت من أهم مراكز العالم الإسلامي وتعتبر مركز إشعاع حضاري في أوروبا .
فقد ذكر أن دورها بلغ ثلاثون ألف ذراع وقد كثرت بها الحمامات والأسواق والبساتين والحصون .
وتشتهر بكثرة العيون وبها نهر وعليه قنطرة وهي إحدى غرائب الأرض في الصنعة والإتقان وبها الجامع الكبير .
وبها أشهر القصور مثل الكامل والزاهر والروضة والمعشوق والمبارك والتاج وقصر السرور وللمدينة سبعة أبواب باب القنطرة ويسمى باب الوادي وباب الجزيرة الخضراء على النهر .
وباب الحديد ويسمى باب سوقطه .
وباب طليطلة وباب لبون وباب الحديد وباب الجوز كما اشتهرت بالمنتزهات الجميلة أشهرها فحص السرادق والسد . وتبارى الشعراء عن روعة الطبيعة بها وجمالها وطيب هوائها .
فقرطبة منارة الفكر والعلم أسهم علمائها في الكثير من المجالات العلمية وكان لهم دور أساسي في تطوير العلم وانتقاله إلى أوروبا وظلت قرطبة تقوم بهذا الدور الحضاري إلى أن سقطت الخلافة واندثرت قرطبة باسترداد المسيحيين لبلاد الأندلس وقد حولوا مسجدها الكبير إلى كنيسة وتعرف بكنيسة الجامع .
المستشفيات والمعاهد الطبية :
من المبادئ التي قامت عليها حضارتنا جمعها بين حاجة الجسم وحاجة الروح .
ولتحقيق سعادة الإنسان لابد من الاهتمام والعناية بجسمه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ وإن لجسدك عليك حقاً ] .
ومن أهداف الإسلام حفظ الصحة وذلك عن طريق العبادات كالصلاة والصوم والحج لأنها تحفظ للجسم نشاطه وحيويته هذا بالإضافة لمقاومة الإسلام للأمراض وانتشارها وطلب العلاج ولذلك قامت الدولة الإسلامية بالاهتمام بإقامة المشافي والمعاهد الطبية .
عرف العرب مدرسة [ جنديسابور ] الطبية التي أنشأها " كسرى " في منتصف القرن السادس الميلادي وتخرج منها بعض أطبائهم " كالحارث بن كلدة " الذي عاصر عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يشير على أصحابه بالتداوي عنده حين تنتابهم الأمراض .
وفي عهد الوليد بن عبد الملك أنشئ أول مستشفى في الإسلام وهو خاص بالمجذوبين ، وعين في المستشفى أفضل الأطباء وأجرى لهم الأرزاق وأمر بحبسهم حتى لا ينتشر المرض .
كما أجرى الأرزاق على العميان .
ثم تتابع انتشار المشافي وتعرف باسم " البيمارستانات " أي دور المرضى .
وكانت المستشفيات نوعين :
1- نوع ثابت .
2- نوع متنقل .
أما النوع المتنقل فعرف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق عندما أصيـب " سعد بن معاذ " في " الكحلة " والأكحل عرق في الزراع يقصد " فقال صلى الله عليه وسلم أجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده عن قريب وهو أول مستشفى حربي متنقل في الإسلام .
ثم توسع فيه الخلفاء والوزراء حتى أصبح مجهزاً بجميع ما يحتاجه المرضي من علاج وأطعمه وأشربه وملابس وأطباء وصيادلة . فكان يجوب القرى وفي أماكن لم يكن بها مستشفيات ثابتة.
فكتب الوزير عيسى بن علي الجراح إلى سنان بن ثابت وكان المتولي في النظر على مستشفيات بغداد بأمره أن يجهز أطباء وخزانة أدوية وأشربة وأن يطوف بأرض السواد ويقيمون في كل منطقة فترة لعلاج الناس ثم ينتقلون إلى مكان آخر وهكذا .
وقد بلغت المستشفيات المتنقلة في عهد السلطان محمود السلجوقي حداً من الضخامة بحيث كان يحمل على أربعين بعيراً .
2- أما المستشفيات الثابتة :
فقد كانت تفيض بها المدن والعواصم ولم تخل بلدة صغيرة في العالم الإسلامي من مستشفى فأكثر حتى أن قرطبة كان بها خمسون مستشفى .
وقد تنوعت المستشفيات فهناك مستشفيات حربية خاصة للجيش يقوم عليها أطباء مختصون .
وهناك أطباء للخليفة والقواد والأمراء .
وأيضاً مستشفيات للمساجين يطوفوا عليهم الأطباء كل يوم فيعالجون مرضاهم بالأدوية اللازمة .
وهناك محطات للإسعاف تقام بقرب الجوامع والأماكن العامة التي يزدحم فيها الجمهور .
ويذكر أن ابن طولون عندما أسس جامعه المشهور وجعل في المؤخرة ميضأة وخزانة شراب أي " صيدلية " وجعل فيها كل الأدوية وعليها خدم وفيها طبيب جالس يوم الجمعة لمعالجة من يصابون بالأمراض من المصليين .
وهناك المستشفيات العامة التي تفتح أبوابها لمعالجة الجمهور وكانت تنقسم إلى قسمين :
قسم للذكور – وقسم للنساء .
وكل قسم يشتمل على قاعات متعددة كل قاعة تخص مرض معين قاعة للجراحة وقاعة للأمراض الداخلية وقاعة للعيون وقاعة للكسور والتجبير وقاعة للأمراض العقلية وهكذا .
وقسم الأمراض الداخلية كان مقسماً إلى غرف غرفة للحميات وغرف للإسهال ولكل قسم أطباء عليهم رئيس فرئيس للأمراض الباطنية ورئيس قسم الجراحة – ورئيس الكحالين أي أطباء العيون .
وكل الأقسام لها رئيس واحد يسمى [ ساعور ] .
وكان الأطباء يشتغلون بالتوبة ولكل طبيب وقت معين يلازم قاعاته التي يعالج فيها المرضى.
وفي كل مستشفى عدد من الممرضين والفراشين من الرجال والنساء لخدمة المستشفى ولهم رواتب معلومة .
وفي كل مستشفى صيدلية تسمى [ خزانة الشراب ] فيها أنواع الأشربة والمعاجين النقية وأصناف الأدوية والعطور الفائقة والآلات الجراحية والأواني الزجاجية والزبادي .
وفي كل مستشفى قاعة كبيرة لإلقاء المحاضرات يجلس بها كبار الأطباء ومعهم طلابهم وبجانبهم الآلات والكتب وتجري المناقشات الطبية بين الأطباء وطلابهم وكثيراً ما كان الأطباء يصطحبون تلامذتهم إلى داخل المستشفى لتطبيق الدروس العملية على المرضى بحضورهم .
ولا يسمح للطبيب بالانفراد بالمعالجة حتى يؤدي امتحاناً أمام كبير أطباء الدولة يتقدم برسالة في الفن الذي يريد أن يتخصص فيه ليحصل على الإجازة في تخصصه .
وتكون الرسالة من تآليفه أو تآليف أحد كبار علماء الطب وتكون عليها دراسات وشروح له ، فيختبر فيها ويسأله عن كل ما يتعلق بهذه الرسالة المقدم منه . فإذا أحسن الإجابة إجازة كبير الأطباء بمزاولة الطب والعلاج .
وحدث في عهد الخليفة المقتدر أن بعض الأطباء أخطاء في علاج رجل فمات فأمر الخليفة أن يجري اختبار لكل الأطباء في بغداد من جديد فاختبرهم [ سنان بن ثابت ] كبير أطباء بغداد فبلغ عددهم ثمانمائة طبيب ونيفاً وستين طبيباً هذا عدا عمن لم يمتحنوا من كبار الأطباء المشهورين وأيضاً الخليفة والوزراء والأمراء .
وكان يلحق بكل مستشفى مكتبة تكون ذاخرة بكل الكتب الطبية النفسية حتى أنه كان يوجد في مكتبة مستشفى ابن طولون بالقاهرة ما يزيد على مائة ألف كتاب في سائر العلوم .
أما نظام الدخول في المستشفيات فكان مجاناً للجميع لا فرق بين غني وفقير وبعيد وقريب.
يفحص المريض أولاً بالقاعة الخارجية فمن كان مرضه خفيف يصرف له العلاج من صيدلية المستشفى . ومن كانت حالته تستوجب الدخول للمستشفى كان يقيد اسمه ثم يدخل الحمام وتخلع ثيابه وتوضع في مخزن خاص ثم يلبس ملابس المستشفى ثم يدخل إلى القاعة المتخصصة له مع المرضى ثم يعطي الدواء الذي عينه له الطبيب مع الغذاء المناسب لصحته .
وكان غذاء المرضى يحتوي على لحوم الأغنام والأبقار والطيور والدجاج .
وعلامة الشفاء أن يأكل المريض رغيفاً واحداً مع اللحوم ، فإذا أصبح في دور النقاهة أدخل القاعة المخصصة للناقهين حتى أذا تم شفاؤه أعطي بدلة جديدة ومبلغاً من المال يكفيه على أن يصبح قادراً على العمل .
وكانت غرف المستشفى نظيفة تجري بها المياه ومفروشة بأحسن الأثاث وهناك مفتشون على النظافة . ومراقبون للقيوم المالية وكثيراً ما كان الخليفة أو الأمير يتفقد بنفسه المرضى ويشرف على حسن معاملاتهم .
هذا هو النظام السائد على كل مستشفيات العالم الإسلامي سواء في المشرق أو المغرب في بغداد – ودمشق – والقاهرة – ومكة والمدينة والقدس .
أهم المستشفيات :
1- المستشفى العضدي :
بناه عضد الدولة بن بويه سنة 371هـ بعد أن أختار الطبيب الرازي المشهور مكان المستشفى وذلك أن الرازي وضع أربعة قطع لحم في أنحاء بغداد ليلاً وعندما أصبح وجد أن أحسنها رائحة في المكان التي أقيمت فيه المستشفى وأنفق عليه مالاً عظيماً .
وعين فيه أربع وعشرين طبيباً وألحق به مكتبة وصيدلية ومطابخ ومخازن .
وفي سنة 449هـ جدد الخليفة القائم بأمر الله المستشفى وجمع فيه من الأشربة والأدوية والعقاقير كما أرسل إليه الفرش واللحف للمرضى والعطورات الطبية والأسِرّة والثلج والمستخدمين والأطباء والفراشين .
وكان للمستشفى بوابون وفراشين وحراس وفيه حمام وبجانبه بستان قد حوى كل أنوال الثمار والبقول ، وكان الأطباء يتناوبون على علاج المرضى .
2- مستشفى النوري الكبير بدمشق :
أنشأه السلطان الملك العادل نور الدين الشهيد سنة 549هـ من مال أخذه فدية من أحد ملوك الفرنج وكان من أحسن ما بني في المستشفيات في العالم الإسلامي وأن يكون للفقراء والمساكين في العالم الإسلامي . وأن يكون للفقراء والمساكين وإذا اضطر الأغنياء إلى الأدوية التي فيه يسمح لهم بها .
وكان الشراب والدواء مباحاً لكل مريض يقصده وقد دخله ابن جبير سنة 580هـ فوصف عناية الأطباء بالمرضى وتفقدهم لشؤونهم وإعداد ما يصلحهم من الأدوية والأغذية .
وكان به قسم خاص بالأمراض العقلية يوثق فيه المجانين بالسلاسل مع العناية بعلاجهم وغذائهم .
ويذكر بعض المؤرخين أنه زار دمشق سنة 831هـ رجل أعجمي من أهل الفضل والذوق فلما دخل المستشفى النوري ونظر إلى كثرة أطبائه وحُسن العناية بمرضاه وما يحتويه من المأكل والتحف واللطائف التي لا تحصى أراد أن يختبر معرفة أطبائه فتمارض وأقام به ثلاثة أيام ورئيس الأطباء يتردد عليه ليختبر ضعفه فلما جس نبضه عرف أنه ليس مريض وإنما أراد اختبار أطبائه فوصف له الأطعمة الحسنة والدجاج المسمنة والحلوى والأشربة والفواكه المتنوعة ثم بعد ثلاثة أيام كتب له ورقة يقول فيها " إن الضيافة عندنا ثلاثة أيام " فعرف العجمي أنهم عرفوا قصده واستمر هذا المستشفى يقوم بعمله العظيم حتى سنة 1317هـ حيث أنشأ مستشفى الغرباء وهو المستشفى التي تشرف عليه الآن كلية الطب في الجامعة السورية وأقفل المستشفى النوري ثم استعمل مدرسة أهلية .
3- المستشفى المنصوري الكبير :
المعروف بمارستان قلاوون وكان داراً لأحد الأمراء ثم حولها الملك المنصور سيف الدين قلاوون إلى مستشفى سنة 683هـ وأوقف عليه ما يغل ألف درهم كل عام والحق به مسجداً ومدرسة ومكتباً للأيتام .
وسبب البناء أن المنصور لما توجه لغزو الروم وهوامير في عهد الظاهر بيبرس سنة 1275م وأصابه بدمشق مرض فعالجه الأطباء بأدوية أخذت له من المستشفى النوري الكبير فبرأ وركب وشاهد المستشفى بنفسه فأعجب به ونذر لله إن أتاه الله الملك أن يبني مثله .
ولما صار سلطاناً أختار هذه الدار وحولها مشفى وجعلها لكافة الناس ذكراً أو أنثى وحر وعبد وملك ورعية وجعل لكل مريض عند خروجه كسوة ومن مات جهز وكفن ودفن .
وعين فيه الأطباء من جميع فروع الطب كما وظف الفراشين والخدم لخدمة المرضى وإصلاح أماكنهم وتنظيفهم وغسل ثيابهم وجعل لكل مريض سريراً وفرشاً خاصة به . وكان لكل مريض شخصان يقومان بخدمته .
وأفرد لكل طائفة من المرضى أماكن تختص بهم ورتب مكاناً يجلس فيه رئيس الأطباء لإلقاء دروس الطب على الطلبة .
ولم تقتصر الاستفادة منه على المرضى المقيمين به بل رتب لمن يطلب وهو في منزلة ما يحتاج إليه من الأشربة والعقاقير والأغذية .
وقد أدى هذا المستشفى عمله ولا يخرج منه المريض حتى يبرأ من مرضه ويعطى له كسوة ودراهم لنفقاته حتى لا يضطر إلى العمل الشاق فور خروجه .
ولا تستعمل أدوات الطعام لمريض آخر بل كانت خاصة لكل مريض أدوات له وأن تكون مغطاة خوفاً من تعرضها للجراثيم .
ومن أروع ما فيه أن المؤرقين من المرضى كانوا يعزلون في قاعة منفردة وذلك لإتاحة آذانهم بسماح ألحان الموسيقى الشجية أو يتسلون بسماع القصص الشيقة يلقيها عليهم القصاص.
وأما المرضى الذين في دور النقاهة فكانوا يقضون أوقاتهم بالروايات المضحكة أو الرقص البلدي .
كما أن المؤذنون بالمسجد يؤذنون في السحر قبل ميعاد الفجر بساعتين وينشدون الأناشيد بأصوات ندية تخفيفاً لآلام المرضى الذين يعانون من السهر طوال الليل وقد استمرت هذه العادة حتى دخول الحملة الفرنسية إلى مصر سنة 1798م فشاهد علماء الفرنسيون بأعينهم وكتبوا عنها.
4- مستشفى مراكش :
وهو الذي أنشأه أمير المؤمنين أبو يوسف من ملوك الموحدين بالمغرب اختار موقع فسيح وأمر البنائين بإتقان هذا البناء وأمر أن يغرس فيه الأشجار والمأكولات والمشمومات وأجرى فيه مياه كثيرة تدول على كل البيوت وأربع برك وسط إحداهما رخام أبيض .
ثم أمر فيها من الفرش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والقطن ، وأقيم فيه الصيادلة لعمل الأشربة والأدوية والأدهان والأكحال .
وأعطى لكل مريض ثياب للنهار للنوم وعند خروجه أمر له بمال إذا كان فقيراً حتى يعينه.
هذه نماذج أربعة من المستشفيات الموجودة في العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه بينما كانت أوروبا في ظلام دامس لا تعرف شيئاً عن هذه المستشفيات ودقتها ونظافتها .
كما أن مستشفيات أوروبا كانت تعاني من الظلمة وارتفاع الرطوبة ولا منافذ للتهوية فيها كما أن المرضى يفترشون الأرض وهم مكدسون بعضهم فوق بعض على كوم من القش وكانت العدوى تنتشر بينهم لعدم النظافة من الفضلات المنتشرة هنا وهناك كما أن كثيراً من المرضى كانوا يموتون جوعاً لقلة الطعام وربما مات كثير من المرضى من أثر الجوع .
وهذا يدل على مبلغ الانحطاط العلمي والجهل الفاضح بأصول المستشفيات وقواعد الصحة العامة .
ويجب أن نوضح هنا أن مستشفياتنا قامت على عاطفة إنسانية نبيلة لا مثيل لها في التاريخ ولا يعرفها الغربيون كما أن الموسيقى والضحك له أثر في شفاء المريض .
كما أن التكافل الاجتماعي له أثره حيث يجمع للمريض العلاج والغذاء والأدوية مجاناً هذا بالإضافة إلى المال الذي يعطى له حتى يصبح قادراً على العمل .
[ المكتبات الخاصة والعامة ]
من المؤسسات الخيرية في الإسلام :
المكتبات فقد كانت مؤسسات للتعليم وهي بمثابة مدارس للعلم والعلماء ينفق عليها الخلفاء والأمراء والأثرياء لنشر العلم بين الناس وخصوصاً في ذلك الزمن الذي لم يكن فيه الطباعة موجودة .
وكانت الكتب تنسخ على أيدي النساخين المتخصصين في هذا العمل ، فقد بلغ ثمن الكتاب حداً يتعذر على طالب العلم أو العالم الفقير شراؤه فكيف إذ أراد مجموعة من الكتب في تخصصه ومن هنا كان قيام المكتبات في المجتمع الإسلامي منبعثاً من العاطفة الإنسانية وعن نزعة علمية في وقت واحد .
لعل الأدب العربي هو أغنى الآداب العالمية القديمة بالتغني بالكتاب والولع به والرغبة فيه والتحدث عنه .
وقد كان بعض العلماء يفضلون مطالعة الكتب على غشيان الناس في مجالسهم ويرون الأنس بها أقرب إلى القلب من الأنس بالخليفة أو ذي سلطان ومثال على ذلك :
اعتزل محمد بن عبد الملك الزيات الوزير الأديب فترة من الزمن في بيته وأراد الجاحظ زيارته فرأى خير هدية إليه أن يهديه كتاب سيبويه إمام العربية وتسلم الوزير الهدية فرحاً وسروراً وقال للجاحظ والله ما أهديت لي شيئاً أحب إلي منه .
وطلب أحد الخلفاء بعض العلماء ليسامره فلما جاءه الخادم وجده يقرأ وحوله عدد من الكتب فقال له أن أمير المؤمنين يستدعيك فأجابه قل له عندي قوم من الحكماء أحادثهم فإذا فرغت منهم حضرت إليك فلما عاد الخادم إلى الخليفة وأخبره قال الخليفة ويحك من هؤلاء الحكماء الذين كانوا عنده قال الخادم والله يا أمير المؤمنين ما كان عنده أحد قال الخليفة فأحضره الساعة كيف كان فلما حضر العالم قال له الخليفة من هؤلاء الحكماء الذين كانوا عندك قال يا أمير المؤمنين :
هم جلسـاء ما تمل حديثهـم
أمينون مأمونون غيباً ومشـهداً
إذا ما خلونا كان خير حديثهم
معيناً على نفي الهموم ومؤيـداً
فعلم الخليفة أن الحكماء هم الكتب وهي كتب العلماء والحكماء .
وفضل الصاحب بن عباد أن يبقى بجانب مكتبته على أن يتولى أعظم المناصب في بلاط نوح بن منصور الساماني فكان مولع بمكتبته فلا يستطيع الذهب بعيداً عنها ولا يستطيع حملها .
بهذه الروح العلمية شغف علماؤنا وأغنياؤنا وأمراؤنا بالكتب وجمعها حتى أنهم كانوا يرون أن نكبتهم في أموالهم أيسر عليهم من نكبتهم في كتبهم .
وكانوا يتنافسون في شراء الكتب النفيسة من مؤلفيها عقب الانتهاء من تأليفها .
سمع الحكم أمير الأندلس بكتاب الأغاني المشهور في عالم الأدب للأصفهاني فأرسل إلى مؤلفه أبي الفرج الأصفهاني ألف دينار ذهباً ثمن نسخة واحدة فقرئ في الأندلس قبل أن يقرأ في موطنه العراق .
وقد نشأ عن هذه الروح العلمية انتشار المكتبات في أنحاء العالم الإسلامي . فنادراً ما تكون مدرسة ليس بجانبها مكتبة أما العواصم والمدن فكانت تغطي بدور الكتب بشكل لا مثيل له في تاريخ العصور الوسطى .
وكانت المكتبات نوعين :
أ- عام .
ب- خاص .
أ- المكتبات العامة :
كان ينشئها الخلفاء والأمراء والأثرياء والعلماء وكانت تشيد لها أبنية خاصة وأحياناً تلحق بالمساجد والمدارس الكبرى .
أما الأبنية الخاصة فكانت تشتمل على حجرات متعددة تربط بينهما أروقة فسيحة وكانت الكتب توضع على رفوف خشبية مثبتة على الجدران تخصص كل غرفة لفرع من فروع العلم .
فكتب الفقه غرفة ، وكتب الطب غرفة ، وكتب الرياضيات غرفة وهكذا وكان بها أروقة خاصة للمطالعين وغرف خاصة للنساخ الذين ينسخون الكتب وغرف للموسيقى يلجأ إليها المطالعون للترقية وتجديد النشاط .
وغرف للدراسة والنقاش العلمي بين رواد تلك المكتبات ، وكان في بعضها غرب لطعام روادها ، ومنامه للغرباء .
وكان علي بن يحيى المنجم له مكتبة بجانب قصره في قرية قريبة من بغداد وهذه المكتبة تسمى " خزانة الحكمة " يقصدها الناس من كل بلد فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم والأرزاق مفرقة عليهم وكل ذلك من مال علي بن يحيى .
وكان أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي قد أنشأ مكتبة سماها " دار العلم " وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفاً على كل طالب علم لا يمنع من دخولها وإذا جاءها غريب وكان معسراً يعطى ورقاً ونقوداً لأجل أن يطلب الأدب وكانت تفتح كل يوم .
وكان للمكتبات العامة موظفون يرأسهم خازن المكتبة وهو من أشهر علماء عصره وأيضاً مناولون يناولون الكتب للمطالعين ، ومترجمون ينقلون الكتب من غير العربية إلى العربية ونساخ يكتبون الكتب بخطوطهم الجميلة ومجلدون يجلدون الكتب حفظاً من التمزق والضياع .
وكان لكل مكتبة صغيرة أو كبيرة فهارس يرجع إليها لسهولة استعمال الكتب ، وهي مبوبة بحسب أبواب العلم .
وكان يوضع قائمة على كل دولاب تحتوي أسماء الكتب الموجودة في الدولاب .
وكان يسمح بالاستعارة الخارجية مقابل ضمان عن الكتاب لعامة الناس أما العلماء وذو الفضل فلم يؤخذ منهم ضمان .
ومن المكتبات الخاصة :
انتشرت المكتبات الخاصة في الشرق والغرب من العالم الإسلامي وأشهرها .
1- مكتبة الفتح بن خاقان : وكانت مكتبة واسعة عهد بها إلى رجل من خيرة رجال عصره أن يجمعها وهو علي بن يحيى المنجم حتى جمع له من كتب الحكمة ما لم يجتمع لأحد غيره .
2- مكتبة ابن الخشاب (ت567هـ) : وكان من أعلم الناس بالنحو وكانت له معرفة في التفسير والحديث والمنطق والفلسفة وكان مولعاً بالكتب لدرجة أنه سلك طرق غير محمودة لجمع الكتب .
3- مكتبة جمال الدين القفطي (ت646هـ) : جمع من الكتب ما لا يوصف وطاف الآفاق طمعاً في سخائه وكرمه وكان لا يريد من الدنيا سوى الكتب ورفض الزواج حتى لا يشغله الأهل والأولاد عن الكتب وأوصى بمكتبته للناصر وكانت تساوي خمسين ألف دينار .
4- مكتبة أبو الحسن بن أبي جرادة (ت548هـ) : وهم علماء طلب وكان له ثلاث خزائن خزانه له وخزانة لوالده أبي البركات وخزانة لابنه عبد الله وتحتوي على كثير من الكتب النفيسة .
5- مكتبة الموفق بن مطران الدمشقي (ت587هـ) : وكانت له همة عالية في جميع الكتب النفيسة وعندما توفي كانت في خزائنه من الكتب الطيبة عشرة آلاف مجلد وكان في خدمته ثلاث نساخ يكتبون له ويعطيهم رواتبهم وأرزاقهم .
وعندما نتحدث عن إنشاء هذه المكتبات وما تحتويه من كتب قيمة ونفيسة وما يصيبنا من حزن حين نعرف ونسمع ما تعرضت هذه المكتبات في العالم الإسلامي من نهب وحرق وكيف فقدها العالم الإسلامي إلى الأبد وهي من أثمن ما خلفه الفكر الإنساني في التاريخ .
وكانت أسوء النكبات لمكتبات العالم الإسلامي :
1- نكبة التتار : حين افتتحوا بغداد فقذفوا الكتب الثمينة في نهر دجلة حتى فاض النهر بالكتب النفيسة وكان يعبر الفارس عليها من ضفة إلى أخرى حتى تغير لون ماء النهر وأصبح أسود داكناً بمداد الكتب .
2- نكبة الغزو الصليبي : عندما دخلوا طرابلس والقدس وغزة وعسقلان وغيرها من المدن التي خربها الصليبيون وقد اتلفوا حوالي ثلاثة ملايين كتاب .
3- نكبة استيلاء الأسبان على الأندلس : التي أفقدتنا تلك المكتبات العظيمة التي يتحدث عنها التاريخ فقد احترقت بفعل المتدينين المتعصبين حتى أحرق في غرناطة مليون كتاب.
4- بالإضافة إلى الفتنة الداخلية في عهد الفاطميين عندما اعتدى عليها من غوغاء المماليك على مكتبة الخلفاء الفاطميين وأشعلوا فيها النار واتخذ العبيد من جلودها نعالاً لهم وألقي بعضهم في نهر النيل وحمل بعضها إلى سائر الأقطار .
5- وهناك مكتبة في حلب تسمى خزانة الصوفية نهبت ولم يبقى منها شيء بسبب فتنة بين الشيعة والسُنة أيام عاشوراء .
6- مكتبة الحاكم المستنصر بالأندلس : قد ضاعت بسبب الفتن الداخلية حين دخل البربر مدينة قرطبة فبيع كثير منها ونهب الباقي .
تم بحمد الله
دمشق من المدن القديمة في بلاد الشام وقلعة من قلاع العلم والحضارة يشهد بذلك تاريخها القديم وقد توالى على دمشق كبير من الحكام فاهتموا بها وجعلوا منها قبلة للعلماء .
حكمها الآراميون – واليونانيون – والرومان ودخلها المسلمون فاتحين في عصر الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخها ولِتُسهم في بناء صرح الحضارة الإسلامية .
وعرفت دمشق العقائد الدينية المختلفة ففيها ظهرت الوثنية وفيها أيضاً المسيحية وحين تحولت إلى مدينة إسلامية عز فيها الإسلام وارتفع شأنه وازدادت أهمية دمشق حين غدت حاضره للخلافة الإسلامية في عهد الأمويين فشهدت بذلك نقلة تاريخية عظيمة وكان عصرها الذهبي فازدهرت حضارة الإسلام فيها وانطلقت منها إشعاعات فكرية ووفد عليها العلماء والفقهاء والمترجمون وارتفعت المباني الإسلامية الشامخة وعلى رأسها المسجد الأموي .
ودمشق بحكم موقعها الجغرافي ملتقى للحضارات فهي البوتقة التي انصهرت فيها حضارات الشرق القديم . من العراق ومن مصر وظل دورها المميز كمركز من مراكز الحضارة علامة بارزة في تاريخها .
ودخلها المسلمون صلحاً وكان بناء المسجد الأموي نقطة تحول في تاريخ المدينة إذا تحولت إلى واحدة من أهم المدن الإسلامية . ويعد المسجد الأموي أهم الآثار الإسلامية وهو من أشهر جوامع الإسلام حسناً وإتقان في بناؤه وغرابة صنعه .
وقد اختطه أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أحد قادة الفتح سنة 13هـ واستولى على النصف الشرقي للكنيسة المسيحية وصبره مسجداً وظل النصف الغربي بأيدي المسيحيين وذلك وفقاً لشروط الصلح .
ولما أراد الوليد بن عبد الملك بناء المسجد عرض على المسيحيين مبلغ من المال مقابلة شراء النصف الغربي من الكنيسة وبذلك هدمت الكنيسة وأقيم مكانها مع مسجد أبي عبيدة بن الجراح المسجد الأموي سنة 87هـ وتسمى هذه الكنيسة [ كنيسة القديس يوحنا ] .
وكان المسجد النبوي من أكبر المساجد في الإسلام وله طابعه الخاص . وقد كان موضع اهتمام الخلفاء والملوك والسلاطين والحكام فزادوا في ويحتل المسجد الأموي في دمشق مكانة بارزة في تاريخ الحضارة الإسلامية فهو الذي حول دمشق إلى مدينة تتجه إليها الأنظار ويؤمها العلماء والفقهاء ورجال الدين ويفد إليها طلال العلم من كل مكان وقد ظلت مدينة دمشق حاضر الشام عاصمة للخلافة الأموية حتى انتهت دولتهم سنة 132هـ .
3- مدينة القيروان :
عند فتح المسلمون العرب بلاد المغرب أراد " عقبة بن نافع " أن يقيم مدينة إسلامية تكون قاعدة للإسلام ومركزاً للحضارة الإسلامية . وأن تكون هذه المدينة في مأمن عن غارات الروم وأن لا تكون على الساحل فاختار موقعها داخلياً .
ولقد وفقه الله " عقبة " في اختيار موقع المدينة :
أ- بعدها عن البحر جعلها بمآمن عن غارات الروم وأساطيلها البحرية .
ب- كما أن موقعها الداخلي جعلها قريبة من المراعي التي يسهل على إبل ودواب المسلمين على ارتيادها .
ويذكر أن عقبة ركب وأتى وادياً وكان كثير الشجر كثير القطف تأوي إليه الوحوش والسباع ثم نادى بأعلى صوته يا أهل الوادي ارتحلوا رحمكم الله فإنا نازلون نادى بذلك ثلاثة أيام فلم يبقى من السباع والوحوش شيء إلا خرج .
وقد بدأ بناء القيروان سنة 50هـ وهي رابع مدينة إسلامية يؤسسها المسلمون وانتهى البناء سنة 55هـ .
وأول شيء اختطه عقبة بن نافع هو المسجد الجامع وقد ازدهرت المدينة حتى أصبحت عاصمة المغرب كله وتشتهر بعمارة مبانيها ورونقها وحُسن أسواقها ورواج تجارتها ويسار أهلها.
وتعتبر القيروان من المراكز الإسلامية التي أسهمت في نشر الإسلام في أفريقيا ومنها انتقل إلى أوروبا .
وفي عهد الدولة الأموية تعتبر القيروان قاعدة حضارية وإستراتيجية هامة وقد خشي الأمويين نفوذ أهل القيروان .
ثم عزل والي مصر مسلمة من مخلد الأنصاري " عقبة بن نافع " وعين أي المهاجرين بن دينار الذي أساء عزل عقبة فاشتكى " عقبة " إلى معاوية الذي وعده بإعادته إلى ولايته في بلاد المغرب إلا أن معاوية بن أبي سفيان توفي وتولى ابنه يزيد بن معاوية الذي أعاد " عقبة بن نافع " إلى بلاد المغرب سنة 62هـ وعندما مر بمصر عقبة اعتذر له والي مصر مخلد بن مسلمة عما بدر من أبي المهاجر ويقال أنه انتقم من أبي المهاجر فصادر أمواله وأوثقه في الحديد .
وقد عانت القيروان الإهمال في ولاية أبي المهاجر فقد أخليت من المعسكر ونقل أبي المهاجر الدوائر الحكومية إلى منطقة الجديدة مما أدى إلى ركود السياسة والإدارة والاقتصاد والناحية الاجتماعية .
ولكن بعودة عقبة بن نافع عاد للقيروان جمالها ورونقها فقام بتجديد المباني وترميمها وانتعشت الأحوال الاقتصادية والفكرية والاجتماعية واحي الجهاد .
ويذكر أن عقبة بن نافع ركب مع قومه وأصحاب رسول الله والتابعين ودار حول القيروان وقال يارب أملأها علماً وفقهاً وأملأها بالمطيعين لك وأجعلها عز لدينك وذلاً على من كفر بك .
وقد عاش القيروان أحداث وقتال المسلمين لاستكمال فتح بقية المغرب وصراعهم مع البربر وكيف تحالفوا مع الروم ضد المسلمين .
وفي القيروان لقي عقبة بن نافع ربه شهيداً مجاهداً في سبيل الله . ثم تراجعت القيروان إمام جيوش كسيله وغيره إلا أن زهير البلوي استرجعها لتواصل دورها الحضاري والفكري الذي ارتبط باسمها منذ أنشأها .
4- قرطبة :
تعتبر قرطبة من أقدم المدن في شبه الجزيرة الأيبيرية ولها شهرة واسعة في العصور القديمة . ولقد نالت حظاً كبيراً من قبل حكام المسلمين في الأندلس .
ولقد اتخذها المسلمون داراً للإمارة سنة 97هـ كما اهتم بها ولاة الأندلس والخلفاء الأمويين في الشام وذلك أن عمر بن عبد العزيز أمر بناء جسر قرطبة الشهير على النهر الأعظم بالمدينة .
وتعتبر ولاية عبد الرحمن للأندلس نقطة تحول في تاريخ المدينة فقد اهتم بها اهتماماً كبيراً حتى غدت من أهم مراكز العالم الإسلامي وتعتبر مركز إشعاع حضاري في أوروبا .
فقد ذكر أن دورها بلغ ثلاثون ألف ذراع وقد كثرت بها الحمامات والأسواق والبساتين والحصون .
وتشتهر بكثرة العيون وبها نهر وعليه قنطرة وهي إحدى غرائب الأرض في الصنعة والإتقان وبها الجامع الكبير .
وبها أشهر القصور مثل الكامل والزاهر والروضة والمعشوق والمبارك والتاج وقصر السرور وللمدينة سبعة أبواب باب القنطرة ويسمى باب الوادي وباب الجزيرة الخضراء على النهر .
وباب الحديد ويسمى باب سوقطه .
وباب طليطلة وباب لبون وباب الحديد وباب الجوز كما اشتهرت بالمنتزهات الجميلة أشهرها فحص السرادق والسد . وتبارى الشعراء عن روعة الطبيعة بها وجمالها وطيب هوائها .
فقرطبة منارة الفكر والعلم أسهم علمائها في الكثير من المجالات العلمية وكان لهم دور أساسي في تطوير العلم وانتقاله إلى أوروبا وظلت قرطبة تقوم بهذا الدور الحضاري إلى أن سقطت الخلافة واندثرت قرطبة باسترداد المسيحيين لبلاد الأندلس وقد حولوا مسجدها الكبير إلى كنيسة وتعرف بكنيسة الجامع .
المستشفيات والمعاهد الطبية :
من المبادئ التي قامت عليها حضارتنا جمعها بين حاجة الجسم وحاجة الروح .
ولتحقيق سعادة الإنسان لابد من الاهتمام والعناية بجسمه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ وإن لجسدك عليك حقاً ] .
ومن أهداف الإسلام حفظ الصحة وذلك عن طريق العبادات كالصلاة والصوم والحج لأنها تحفظ للجسم نشاطه وحيويته هذا بالإضافة لمقاومة الإسلام للأمراض وانتشارها وطلب العلاج ولذلك قامت الدولة الإسلامية بالاهتمام بإقامة المشافي والمعاهد الطبية .
عرف العرب مدرسة [ جنديسابور ] الطبية التي أنشأها " كسرى " في منتصف القرن السادس الميلادي وتخرج منها بعض أطبائهم " كالحارث بن كلدة " الذي عاصر عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يشير على أصحابه بالتداوي عنده حين تنتابهم الأمراض .
وفي عهد الوليد بن عبد الملك أنشئ أول مستشفى في الإسلام وهو خاص بالمجذوبين ، وعين في المستشفى أفضل الأطباء وأجرى لهم الأرزاق وأمر بحبسهم حتى لا ينتشر المرض .
كما أجرى الأرزاق على العميان .
ثم تتابع انتشار المشافي وتعرف باسم " البيمارستانات " أي دور المرضى .
وكانت المستشفيات نوعين :
1- نوع ثابت .
2- نوع متنقل .
أما النوع المتنقل فعرف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق عندما أصيـب " سعد بن معاذ " في " الكحلة " والأكحل عرق في الزراع يقصد " فقال صلى الله عليه وسلم أجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده عن قريب وهو أول مستشفى حربي متنقل في الإسلام .
ثم توسع فيه الخلفاء والوزراء حتى أصبح مجهزاً بجميع ما يحتاجه المرضي من علاج وأطعمه وأشربه وملابس وأطباء وصيادلة . فكان يجوب القرى وفي أماكن لم يكن بها مستشفيات ثابتة.
فكتب الوزير عيسى بن علي الجراح إلى سنان بن ثابت وكان المتولي في النظر على مستشفيات بغداد بأمره أن يجهز أطباء وخزانة أدوية وأشربة وأن يطوف بأرض السواد ويقيمون في كل منطقة فترة لعلاج الناس ثم ينتقلون إلى مكان آخر وهكذا .
وقد بلغت المستشفيات المتنقلة في عهد السلطان محمود السلجوقي حداً من الضخامة بحيث كان يحمل على أربعين بعيراً .
2- أما المستشفيات الثابتة :
فقد كانت تفيض بها المدن والعواصم ولم تخل بلدة صغيرة في العالم الإسلامي من مستشفى فأكثر حتى أن قرطبة كان بها خمسون مستشفى .
وقد تنوعت المستشفيات فهناك مستشفيات حربية خاصة للجيش يقوم عليها أطباء مختصون .
وهناك أطباء للخليفة والقواد والأمراء .
وأيضاً مستشفيات للمساجين يطوفوا عليهم الأطباء كل يوم فيعالجون مرضاهم بالأدوية اللازمة .
وهناك محطات للإسعاف تقام بقرب الجوامع والأماكن العامة التي يزدحم فيها الجمهور .
ويذكر أن ابن طولون عندما أسس جامعه المشهور وجعل في المؤخرة ميضأة وخزانة شراب أي " صيدلية " وجعل فيها كل الأدوية وعليها خدم وفيها طبيب جالس يوم الجمعة لمعالجة من يصابون بالأمراض من المصليين .
وهناك المستشفيات العامة التي تفتح أبوابها لمعالجة الجمهور وكانت تنقسم إلى قسمين :
قسم للذكور – وقسم للنساء .
وكل قسم يشتمل على قاعات متعددة كل قاعة تخص مرض معين قاعة للجراحة وقاعة للأمراض الداخلية وقاعة للعيون وقاعة للكسور والتجبير وقاعة للأمراض العقلية وهكذا .
وقسم الأمراض الداخلية كان مقسماً إلى غرف غرفة للحميات وغرف للإسهال ولكل قسم أطباء عليهم رئيس فرئيس للأمراض الباطنية ورئيس قسم الجراحة – ورئيس الكحالين أي أطباء العيون .
وكل الأقسام لها رئيس واحد يسمى [ ساعور ] .
وكان الأطباء يشتغلون بالتوبة ولكل طبيب وقت معين يلازم قاعاته التي يعالج فيها المرضى.
وفي كل مستشفى عدد من الممرضين والفراشين من الرجال والنساء لخدمة المستشفى ولهم رواتب معلومة .
وفي كل مستشفى صيدلية تسمى [ خزانة الشراب ] فيها أنواع الأشربة والمعاجين النقية وأصناف الأدوية والعطور الفائقة والآلات الجراحية والأواني الزجاجية والزبادي .
وفي كل مستشفى قاعة كبيرة لإلقاء المحاضرات يجلس بها كبار الأطباء ومعهم طلابهم وبجانبهم الآلات والكتب وتجري المناقشات الطبية بين الأطباء وطلابهم وكثيراً ما كان الأطباء يصطحبون تلامذتهم إلى داخل المستشفى لتطبيق الدروس العملية على المرضى بحضورهم .
ولا يسمح للطبيب بالانفراد بالمعالجة حتى يؤدي امتحاناً أمام كبير أطباء الدولة يتقدم برسالة في الفن الذي يريد أن يتخصص فيه ليحصل على الإجازة في تخصصه .
وتكون الرسالة من تآليفه أو تآليف أحد كبار علماء الطب وتكون عليها دراسات وشروح له ، فيختبر فيها ويسأله عن كل ما يتعلق بهذه الرسالة المقدم منه . فإذا أحسن الإجابة إجازة كبير الأطباء بمزاولة الطب والعلاج .
وحدث في عهد الخليفة المقتدر أن بعض الأطباء أخطاء في علاج رجل فمات فأمر الخليفة أن يجري اختبار لكل الأطباء في بغداد من جديد فاختبرهم [ سنان بن ثابت ] كبير أطباء بغداد فبلغ عددهم ثمانمائة طبيب ونيفاً وستين طبيباً هذا عدا عمن لم يمتحنوا من كبار الأطباء المشهورين وأيضاً الخليفة والوزراء والأمراء .
وكان يلحق بكل مستشفى مكتبة تكون ذاخرة بكل الكتب الطبية النفسية حتى أنه كان يوجد في مكتبة مستشفى ابن طولون بالقاهرة ما يزيد على مائة ألف كتاب في سائر العلوم .
أما نظام الدخول في المستشفيات فكان مجاناً للجميع لا فرق بين غني وفقير وبعيد وقريب.
يفحص المريض أولاً بالقاعة الخارجية فمن كان مرضه خفيف يصرف له العلاج من صيدلية المستشفى . ومن كانت حالته تستوجب الدخول للمستشفى كان يقيد اسمه ثم يدخل الحمام وتخلع ثيابه وتوضع في مخزن خاص ثم يلبس ملابس المستشفى ثم يدخل إلى القاعة المتخصصة له مع المرضى ثم يعطي الدواء الذي عينه له الطبيب مع الغذاء المناسب لصحته .
وكان غذاء المرضى يحتوي على لحوم الأغنام والأبقار والطيور والدجاج .
وعلامة الشفاء أن يأكل المريض رغيفاً واحداً مع اللحوم ، فإذا أصبح في دور النقاهة أدخل القاعة المخصصة للناقهين حتى أذا تم شفاؤه أعطي بدلة جديدة ومبلغاً من المال يكفيه على أن يصبح قادراً على العمل .
وكانت غرف المستشفى نظيفة تجري بها المياه ومفروشة بأحسن الأثاث وهناك مفتشون على النظافة . ومراقبون للقيوم المالية وكثيراً ما كان الخليفة أو الأمير يتفقد بنفسه المرضى ويشرف على حسن معاملاتهم .
هذا هو النظام السائد على كل مستشفيات العالم الإسلامي سواء في المشرق أو المغرب في بغداد – ودمشق – والقاهرة – ومكة والمدينة والقدس .
أهم المستشفيات :
1- المستشفى العضدي :
بناه عضد الدولة بن بويه سنة 371هـ بعد أن أختار الطبيب الرازي المشهور مكان المستشفى وذلك أن الرازي وضع أربعة قطع لحم في أنحاء بغداد ليلاً وعندما أصبح وجد أن أحسنها رائحة في المكان التي أقيمت فيه المستشفى وأنفق عليه مالاً عظيماً .
وعين فيه أربع وعشرين طبيباً وألحق به مكتبة وصيدلية ومطابخ ومخازن .
وفي سنة 449هـ جدد الخليفة القائم بأمر الله المستشفى وجمع فيه من الأشربة والأدوية والعقاقير كما أرسل إليه الفرش واللحف للمرضى والعطورات الطبية والأسِرّة والثلج والمستخدمين والأطباء والفراشين .
وكان للمستشفى بوابون وفراشين وحراس وفيه حمام وبجانبه بستان قد حوى كل أنوال الثمار والبقول ، وكان الأطباء يتناوبون على علاج المرضى .
2- مستشفى النوري الكبير بدمشق :
أنشأه السلطان الملك العادل نور الدين الشهيد سنة 549هـ من مال أخذه فدية من أحد ملوك الفرنج وكان من أحسن ما بني في المستشفيات في العالم الإسلامي وأن يكون للفقراء والمساكين في العالم الإسلامي . وأن يكون للفقراء والمساكين وإذا اضطر الأغنياء إلى الأدوية التي فيه يسمح لهم بها .
وكان الشراب والدواء مباحاً لكل مريض يقصده وقد دخله ابن جبير سنة 580هـ فوصف عناية الأطباء بالمرضى وتفقدهم لشؤونهم وإعداد ما يصلحهم من الأدوية والأغذية .
وكان به قسم خاص بالأمراض العقلية يوثق فيه المجانين بالسلاسل مع العناية بعلاجهم وغذائهم .
ويذكر بعض المؤرخين أنه زار دمشق سنة 831هـ رجل أعجمي من أهل الفضل والذوق فلما دخل المستشفى النوري ونظر إلى كثرة أطبائه وحُسن العناية بمرضاه وما يحتويه من المأكل والتحف واللطائف التي لا تحصى أراد أن يختبر معرفة أطبائه فتمارض وأقام به ثلاثة أيام ورئيس الأطباء يتردد عليه ليختبر ضعفه فلما جس نبضه عرف أنه ليس مريض وإنما أراد اختبار أطبائه فوصف له الأطعمة الحسنة والدجاج المسمنة والحلوى والأشربة والفواكه المتنوعة ثم بعد ثلاثة أيام كتب له ورقة يقول فيها " إن الضيافة عندنا ثلاثة أيام " فعرف العجمي أنهم عرفوا قصده واستمر هذا المستشفى يقوم بعمله العظيم حتى سنة 1317هـ حيث أنشأ مستشفى الغرباء وهو المستشفى التي تشرف عليه الآن كلية الطب في الجامعة السورية وأقفل المستشفى النوري ثم استعمل مدرسة أهلية .
3- المستشفى المنصوري الكبير :
المعروف بمارستان قلاوون وكان داراً لأحد الأمراء ثم حولها الملك المنصور سيف الدين قلاوون إلى مستشفى سنة 683هـ وأوقف عليه ما يغل ألف درهم كل عام والحق به مسجداً ومدرسة ومكتباً للأيتام .
وسبب البناء أن المنصور لما توجه لغزو الروم وهوامير في عهد الظاهر بيبرس سنة 1275م وأصابه بدمشق مرض فعالجه الأطباء بأدوية أخذت له من المستشفى النوري الكبير فبرأ وركب وشاهد المستشفى بنفسه فأعجب به ونذر لله إن أتاه الله الملك أن يبني مثله .
ولما صار سلطاناً أختار هذه الدار وحولها مشفى وجعلها لكافة الناس ذكراً أو أنثى وحر وعبد وملك ورعية وجعل لكل مريض عند خروجه كسوة ومن مات جهز وكفن ودفن .
وعين فيه الأطباء من جميع فروع الطب كما وظف الفراشين والخدم لخدمة المرضى وإصلاح أماكنهم وتنظيفهم وغسل ثيابهم وجعل لكل مريض سريراً وفرشاً خاصة به . وكان لكل مريض شخصان يقومان بخدمته .
وأفرد لكل طائفة من المرضى أماكن تختص بهم ورتب مكاناً يجلس فيه رئيس الأطباء لإلقاء دروس الطب على الطلبة .
ولم تقتصر الاستفادة منه على المرضى المقيمين به بل رتب لمن يطلب وهو في منزلة ما يحتاج إليه من الأشربة والعقاقير والأغذية .
وقد أدى هذا المستشفى عمله ولا يخرج منه المريض حتى يبرأ من مرضه ويعطى له كسوة ودراهم لنفقاته حتى لا يضطر إلى العمل الشاق فور خروجه .
ولا تستعمل أدوات الطعام لمريض آخر بل كانت خاصة لكل مريض أدوات له وأن تكون مغطاة خوفاً من تعرضها للجراثيم .
ومن أروع ما فيه أن المؤرقين من المرضى كانوا يعزلون في قاعة منفردة وذلك لإتاحة آذانهم بسماح ألحان الموسيقى الشجية أو يتسلون بسماع القصص الشيقة يلقيها عليهم القصاص.
وأما المرضى الذين في دور النقاهة فكانوا يقضون أوقاتهم بالروايات المضحكة أو الرقص البلدي .
كما أن المؤذنون بالمسجد يؤذنون في السحر قبل ميعاد الفجر بساعتين وينشدون الأناشيد بأصوات ندية تخفيفاً لآلام المرضى الذين يعانون من السهر طوال الليل وقد استمرت هذه العادة حتى دخول الحملة الفرنسية إلى مصر سنة 1798م فشاهد علماء الفرنسيون بأعينهم وكتبوا عنها.
4- مستشفى مراكش :
وهو الذي أنشأه أمير المؤمنين أبو يوسف من ملوك الموحدين بالمغرب اختار موقع فسيح وأمر البنائين بإتقان هذا البناء وأمر أن يغرس فيه الأشجار والمأكولات والمشمومات وأجرى فيه مياه كثيرة تدول على كل البيوت وأربع برك وسط إحداهما رخام أبيض .
ثم أمر فيها من الفرش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والقطن ، وأقيم فيه الصيادلة لعمل الأشربة والأدوية والأدهان والأكحال .
وأعطى لكل مريض ثياب للنهار للنوم وعند خروجه أمر له بمال إذا كان فقيراً حتى يعينه.
هذه نماذج أربعة من المستشفيات الموجودة في العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه بينما كانت أوروبا في ظلام دامس لا تعرف شيئاً عن هذه المستشفيات ودقتها ونظافتها .
كما أن مستشفيات أوروبا كانت تعاني من الظلمة وارتفاع الرطوبة ولا منافذ للتهوية فيها كما أن المرضى يفترشون الأرض وهم مكدسون بعضهم فوق بعض على كوم من القش وكانت العدوى تنتشر بينهم لعدم النظافة من الفضلات المنتشرة هنا وهناك كما أن كثيراً من المرضى كانوا يموتون جوعاً لقلة الطعام وربما مات كثير من المرضى من أثر الجوع .
وهذا يدل على مبلغ الانحطاط العلمي والجهل الفاضح بأصول المستشفيات وقواعد الصحة العامة .
ويجب أن نوضح هنا أن مستشفياتنا قامت على عاطفة إنسانية نبيلة لا مثيل لها في التاريخ ولا يعرفها الغربيون كما أن الموسيقى والضحك له أثر في شفاء المريض .
كما أن التكافل الاجتماعي له أثره حيث يجمع للمريض العلاج والغذاء والأدوية مجاناً هذا بالإضافة إلى المال الذي يعطى له حتى يصبح قادراً على العمل .
[ المكتبات الخاصة والعامة ]
من المؤسسات الخيرية في الإسلام :
المكتبات فقد كانت مؤسسات للتعليم وهي بمثابة مدارس للعلم والعلماء ينفق عليها الخلفاء والأمراء والأثرياء لنشر العلم بين الناس وخصوصاً في ذلك الزمن الذي لم يكن فيه الطباعة موجودة .
وكانت الكتب تنسخ على أيدي النساخين المتخصصين في هذا العمل ، فقد بلغ ثمن الكتاب حداً يتعذر على طالب العلم أو العالم الفقير شراؤه فكيف إذ أراد مجموعة من الكتب في تخصصه ومن هنا كان قيام المكتبات في المجتمع الإسلامي منبعثاً من العاطفة الإنسانية وعن نزعة علمية في وقت واحد .
لعل الأدب العربي هو أغنى الآداب العالمية القديمة بالتغني بالكتاب والولع به والرغبة فيه والتحدث عنه .
وقد كان بعض العلماء يفضلون مطالعة الكتب على غشيان الناس في مجالسهم ويرون الأنس بها أقرب إلى القلب من الأنس بالخليفة أو ذي سلطان ومثال على ذلك :
اعتزل محمد بن عبد الملك الزيات الوزير الأديب فترة من الزمن في بيته وأراد الجاحظ زيارته فرأى خير هدية إليه أن يهديه كتاب سيبويه إمام العربية وتسلم الوزير الهدية فرحاً وسروراً وقال للجاحظ والله ما أهديت لي شيئاً أحب إلي منه .
وطلب أحد الخلفاء بعض العلماء ليسامره فلما جاءه الخادم وجده يقرأ وحوله عدد من الكتب فقال له أن أمير المؤمنين يستدعيك فأجابه قل له عندي قوم من الحكماء أحادثهم فإذا فرغت منهم حضرت إليك فلما عاد الخادم إلى الخليفة وأخبره قال الخليفة ويحك من هؤلاء الحكماء الذين كانوا عنده قال الخادم والله يا أمير المؤمنين ما كان عنده أحد قال الخليفة فأحضره الساعة كيف كان فلما حضر العالم قال له الخليفة من هؤلاء الحكماء الذين كانوا عندك قال يا أمير المؤمنين :
هم جلسـاء ما تمل حديثهـم
أمينون مأمونون غيباً ومشـهداً
إذا ما خلونا كان خير حديثهم
معيناً على نفي الهموم ومؤيـداً
فعلم الخليفة أن الحكماء هم الكتب وهي كتب العلماء والحكماء .
وفضل الصاحب بن عباد أن يبقى بجانب مكتبته على أن يتولى أعظم المناصب في بلاط نوح بن منصور الساماني فكان مولع بمكتبته فلا يستطيع الذهب بعيداً عنها ولا يستطيع حملها .
بهذه الروح العلمية شغف علماؤنا وأغنياؤنا وأمراؤنا بالكتب وجمعها حتى أنهم كانوا يرون أن نكبتهم في أموالهم أيسر عليهم من نكبتهم في كتبهم .
وكانوا يتنافسون في شراء الكتب النفيسة من مؤلفيها عقب الانتهاء من تأليفها .
سمع الحكم أمير الأندلس بكتاب الأغاني المشهور في عالم الأدب للأصفهاني فأرسل إلى مؤلفه أبي الفرج الأصفهاني ألف دينار ذهباً ثمن نسخة واحدة فقرئ في الأندلس قبل أن يقرأ في موطنه العراق .
وقد نشأ عن هذه الروح العلمية انتشار المكتبات في أنحاء العالم الإسلامي . فنادراً ما تكون مدرسة ليس بجانبها مكتبة أما العواصم والمدن فكانت تغطي بدور الكتب بشكل لا مثيل له في تاريخ العصور الوسطى .
وكانت المكتبات نوعين :
أ- عام .
ب- خاص .
أ- المكتبات العامة :
كان ينشئها الخلفاء والأمراء والأثرياء والعلماء وكانت تشيد لها أبنية خاصة وأحياناً تلحق بالمساجد والمدارس الكبرى .
أما الأبنية الخاصة فكانت تشتمل على حجرات متعددة تربط بينهما أروقة فسيحة وكانت الكتب توضع على رفوف خشبية مثبتة على الجدران تخصص كل غرفة لفرع من فروع العلم .
فكتب الفقه غرفة ، وكتب الطب غرفة ، وكتب الرياضيات غرفة وهكذا وكان بها أروقة خاصة للمطالعين وغرف خاصة للنساخ الذين ينسخون الكتب وغرف للموسيقى يلجأ إليها المطالعون للترقية وتجديد النشاط .
وغرف للدراسة والنقاش العلمي بين رواد تلك المكتبات ، وكان في بعضها غرب لطعام روادها ، ومنامه للغرباء .
وكان علي بن يحيى المنجم له مكتبة بجانب قصره في قرية قريبة من بغداد وهذه المكتبة تسمى " خزانة الحكمة " يقصدها الناس من كل بلد فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم والأرزاق مفرقة عليهم وكل ذلك من مال علي بن يحيى .
وكان أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي قد أنشأ مكتبة سماها " دار العلم " وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفاً على كل طالب علم لا يمنع من دخولها وإذا جاءها غريب وكان معسراً يعطى ورقاً ونقوداً لأجل أن يطلب الأدب وكانت تفتح كل يوم .
وكان للمكتبات العامة موظفون يرأسهم خازن المكتبة وهو من أشهر علماء عصره وأيضاً مناولون يناولون الكتب للمطالعين ، ومترجمون ينقلون الكتب من غير العربية إلى العربية ونساخ يكتبون الكتب بخطوطهم الجميلة ومجلدون يجلدون الكتب حفظاً من التمزق والضياع .
وكان لكل مكتبة صغيرة أو كبيرة فهارس يرجع إليها لسهولة استعمال الكتب ، وهي مبوبة بحسب أبواب العلم .
وكان يوضع قائمة على كل دولاب تحتوي أسماء الكتب الموجودة في الدولاب .
وكان يسمح بالاستعارة الخارجية مقابل ضمان عن الكتاب لعامة الناس أما العلماء وذو الفضل فلم يؤخذ منهم ضمان .
ومن المكتبات الخاصة :
انتشرت المكتبات الخاصة في الشرق والغرب من العالم الإسلامي وأشهرها .
1- مكتبة الفتح بن خاقان : وكانت مكتبة واسعة عهد بها إلى رجل من خيرة رجال عصره أن يجمعها وهو علي بن يحيى المنجم حتى جمع له من كتب الحكمة ما لم يجتمع لأحد غيره .
2- مكتبة ابن الخشاب (ت567هـ) : وكان من أعلم الناس بالنحو وكانت له معرفة في التفسير والحديث والمنطق والفلسفة وكان مولعاً بالكتب لدرجة أنه سلك طرق غير محمودة لجمع الكتب .
3- مكتبة جمال الدين القفطي (ت646هـ) : جمع من الكتب ما لا يوصف وطاف الآفاق طمعاً في سخائه وكرمه وكان لا يريد من الدنيا سوى الكتب ورفض الزواج حتى لا يشغله الأهل والأولاد عن الكتب وأوصى بمكتبته للناصر وكانت تساوي خمسين ألف دينار .
4- مكتبة أبو الحسن بن أبي جرادة (ت548هـ) : وهم علماء طلب وكان له ثلاث خزائن خزانه له وخزانة لوالده أبي البركات وخزانة لابنه عبد الله وتحتوي على كثير من الكتب النفيسة .
5- مكتبة الموفق بن مطران الدمشقي (ت587هـ) : وكانت له همة عالية في جميع الكتب النفيسة وعندما توفي كانت في خزائنه من الكتب الطيبة عشرة آلاف مجلد وكان في خدمته ثلاث نساخ يكتبون له ويعطيهم رواتبهم وأرزاقهم .
وعندما نتحدث عن إنشاء هذه المكتبات وما تحتويه من كتب قيمة ونفيسة وما يصيبنا من حزن حين نعرف ونسمع ما تعرضت هذه المكتبات في العالم الإسلامي من نهب وحرق وكيف فقدها العالم الإسلامي إلى الأبد وهي من أثمن ما خلفه الفكر الإنساني في التاريخ .
وكانت أسوء النكبات لمكتبات العالم الإسلامي :
1- نكبة التتار : حين افتتحوا بغداد فقذفوا الكتب الثمينة في نهر دجلة حتى فاض النهر بالكتب النفيسة وكان يعبر الفارس عليها من ضفة إلى أخرى حتى تغير لون ماء النهر وأصبح أسود داكناً بمداد الكتب .
2- نكبة الغزو الصليبي : عندما دخلوا طرابلس والقدس وغزة وعسقلان وغيرها من المدن التي خربها الصليبيون وقد اتلفوا حوالي ثلاثة ملايين كتاب .
3- نكبة استيلاء الأسبان على الأندلس : التي أفقدتنا تلك المكتبات العظيمة التي يتحدث عنها التاريخ فقد احترقت بفعل المتدينين المتعصبين حتى أحرق في غرناطة مليون كتاب.
4- بالإضافة إلى الفتنة الداخلية في عهد الفاطميين عندما اعتدى عليها من غوغاء المماليك على مكتبة الخلفاء الفاطميين وأشعلوا فيها النار واتخذ العبيد من جلودها نعالاً لهم وألقي بعضهم في نهر النيل وحمل بعضها إلى سائر الأقطار .
5- وهناك مكتبة في حلب تسمى خزانة الصوفية نهبت ولم يبقى منها شيء بسبب فتنة بين الشيعة والسُنة أيام عاشوراء .
6- مكتبة الحاكم المستنصر بالأندلس : قد ضاعت بسبب الفتن الداخلية حين دخل البربر مدينة قرطبة فبيع كثير منها ونهب الباقي .
تم بحمد الله