أبصرتها في الخمس و العشر | فرأيت أخت الرئم و البدر |
عذراء ليس الفجر والدها | و كأنّها مولودة الفجر |
بسّامة في ثغرها درر | يهفو إليها الشاعر العصري |
و لها قوام لو أشبّهه | بالغصن باء الغصن بالفخر |
مثل الحمامة في وداعتها | و كزهرة انّسرين في الطهر |
مثل الحمامة غير أنّ لها | صوت الهزار و لفتة الصقر |
... | |
شاهدتها يوما وقد جلست | في الرّوض بين الماء و الزهر |
ويد الفتى " هنري " تطوّقها | فحسدت ذاك الطّوق في الخصر |
و حسدت مقلته و مسمعه | لجمالها و كلامها الدرّي |
أغمضت أجفاني على مضض | و طويت أحشائي على الجمر |
و خشيت أنّ الوجد يسلبني | حلمي ، و يغلبني على أمري |
فرجعت أدراجي أغالبه | باليأس آونة و بالصّبر |
ثمّ انقضى عام و أعقبه | ثان و ذاك السرّ في صدري |
فعجبت ، منّي كيف أذكرها | و قد انقضى حولان من عمري |
خلت اللّيالي في تتابعها | تزري بها عندي فلم تزر |
زادت ملاحتها فزدت بها | كلفا ، و موجدة على " هنري " |
... | |
و سئمت داري و هي واسعة | فتركتها و خرجت في أمر |
فرأيت فتيان الحمى انتظموا | كالعقد ، أو كالعسكر المجر |
يتفكّهون بكلّ نادرة | و على الوجوه علائم البشر |
ساروا فأعجبني تدفّقهم | فتبعتهم أدري و لا أدري |
ما بالهم ؟ و لأية وقفوا ؟ | لمن البناء يلوح كالقصر |
أوّاه ! هذي دار فاتنتي | من قال ما للشمس من خدر |
و عرفت من " فرجين " جارتها | ما زادني ضرّا على ضرّ |
قد كان هذا يوم خطبتها | يا أرض ميدي ! يا سما خرّي |
و رأيت ساعدها بساعده | فوددت لو غيّبت في قبر |
و شعرت أن الأرض واجفة | تحتى ، و أنّ النار في صدري |
و خشيت أنّ الوجد يسلبني | حلمي و يغلبني على أمري |
فرجعت أدراجي أغالبه | اليأس آونة و بالصّبر |
... | |
قالوا : الكنيسة خير تعزية | لمن ابتلي في الحبّ بالهجر |
فنذرت أن أقضي الحياة بها | و قصدتها كيما أفي نذري |
لازمتها بدرين ما التفتت | عيني إلى شمس و لا بدر |
أتلو أناشيد النبيّ ضحى | و أطالع الإنجيل في العصر |
حينا مع الرهبان ، آونة | وحدي ، و أحيانا مع الحبر |
في الغاب فوق العشب مضطجعا | في السّفح مستندا إلى الصّخر |
في غرفتي ، و الريح راكدة | بين المغارس ، و الصّبا تسري |
حتى إذا ما القلب زايلة | تبريحه ، و صحوت من سكري |
و سلوتها و سلوت خاطبها | و ألفت عيش الضنك و العسر |
عاد القضاء إلى محاربتي | ورجعت للشكوى من الدهر |
... | |
في ضحوة وقف النسيم بها | متردّدا في صفحة النهر |
كالشاعر الباكي على طلل | أو قاريء حيران في سفر |
و الشمس ساطعة و لامعة | تكسو حواشي النهر بالتبر |
و الأرض حالية جوانبها | بالزّهر من قان و مصفرّ |
فكأنّها بالعشب كاسية | حسناء في أثوابها الخضر |
و علا هتاف الطير إذ أمنت | بأس العقاب و صوله النسر |
تتلو على أهل الهوى سورا | ليست بمنظوم و لا نثر |
يحنو الهزار على أليفته | و يداعب القمريّة القمري |
و انساب كلّ مصفّق عذب | و اهتزّ كلّ مهفهف نضر |
فتذكّرت نفسي صبابتها | ما أولع المهجور بالذّكر |
أرسلت طرفي رائد فجرى | و جرى على آثاره فكري |
حتى دوى صوت الرئيس بنا | فهرعت و الرهبان في إثري |
و إذا بنا نلقى كنيستنا | بالوافدين تموج كالبحر |
و إذا " بها " و إذا الفتى هنري | في حلّة بيضاء كالفجر |
تمشي بين ذي أدب | حلو ، و بين مليحة بكر |
رفع الرئيس عليها يده | و أنا أرى و يدي على صدري |
يا قلب ذب ! يا مهجتي انفطري | يا طرف فض بالأدمع الحمر |
أغمضت أجفاني على مضض | و طويت أحشائي على الجمر |
و خشيت أنّ الوجد يسلبني | حلمي ، و يغلبني على أمري |
فرجعت أدراجي أغالبه | باليأس آونة و بالصبر |
و خرجت لا ألوي على أحد | و رضيت بعد الزّهد بالكفر |
... | |
أشفقت من همّي على كبدي | و خشيت من دمعي على نحري |
فكلفت بالصهباء أشربها | في منزلي ، في الحان ، في القفر |
أبغي الشفاء من الهموم بها | فتزيدني وقرا على وقر |
و تزيدني و لعا بها و هوى | و تزيدني حقدا على هنري |
قال الطبيب و قد رأى سقمي : | لله من فعل الهوى العذري |
ما لي بدائك يا فتى قبل | السحر محتاج إلى سحر |
و مضى يقلّب كفّه أسفا | و لبثت كالمقتول في الوكر |
ما أبصرت عيناي غانية | إلاّ ذكرت إلى الدمى فقري |
... | |
و سئمت داري و هي واسعة | فتركتها و خرجت في أمر |
فرأيتها في السوق واقفة | و دموعها تنهلّ كالقطر |
في بردة كاللّيل حالكة | لهفي على أثوابها الحمر |
فدنوت أسألها وقد جزعت | نفسي ، وزلزل حزنها ظهري |
قالت : قضى هنري ! فقلت : قضى | من كاد لي كيدا و لم يدر |
لا تكرهوا شرّا يصيبكم | فلربّ خير جاء من شرّ |
رهفا هواها بي فقلت لها : | قد حلّ هذا الموت من أسري |
قالت : و من أسري ! فقلت : إذن | لي أنت ؟ قالت : أنت ذو الأمر |
فأدرت زندي حول منكبها | و لثمتها في النحر و الثّغر |
و شفيت نفسي من لواعجها | و تأرت بالتصريح من سرّي |
ثمّ انثنيت بها على عجل | باب الكنيسة جاعلا شطري |
و هناك باركني و هنّأني | من هنّأوا قبلي الفتى هنري |
... | |
من بعد شهر مرّ لي معها | أبصرت وضح الشيب في شعري |
ما كنت أدري قبل صحبتها | أنّ المشيب يكون في شهر |
فكرت في هنري و كيف قضى | فوجدت هنري واضح العذر |
يا طالما قد كنت أحسده | و اليوم أحسده على القبر |