كم بين طيّات القرون الخالية | عظة لأبناء الدهور الآتية
|
عبر اللّيالي كاللّيالي جمّة | لكنّما النزر القلوب الواعية
|
الدّهر يفنينا و نحسب أنّه | يفني بنا أيّامه و لياليه
|
فاذا مشى فينا الفناء فراعنا | خلق الخيال لنا الحياة الثانية
|
إنّ الحياة قصيدة ، أبياتها | أعمارنا ، و الموت فيها القافية
|
كم تعشق الدنيا و تنكر صدّها | أنسيت أنّ الخلف طبع الغانية ؟
|
و تودّ لو يبقى عليك نعيمها | أجهلت أن عيك ردّ العارية ؟
|
خلذ الغرور بما لديك فإنّما | دنياك زائلة و نفسك فانية
|
إنّ الألى وطئت نعالهم السّهى | و طئت جباههم نعال الماشية
|
لو أنّ حيّا خالد فوق الثّرى | ما مات " هارون " و زال " معاوية "
|
أو كان عزّ دائما ما أصبحت | " بغداد " في عدد الطلول البالية
|
أخنت عليها النائبات، فدروها | خرب تعاودها الرياح السّافية
|
يأوى إليها البوم غير مروّع | من كلّ نعّاب أحمّ الخافيه
|
نزل القضاء فما حماها سورها | ولطالما ردّ الجيوش الغازية
|
و اجتاح مجتاح العروش ملوكها | فكأنهم أعجاز نخل خاوية
|
أين القصور الشاهقات و أهلها | باد الجميع ، فما لهم من باقية
|
درست معالمها و غيّرها البلى | و لقد ترى حلل المحاسن كاسية
|
أيّام لا دوح المعارف ذابل | ذاو ، و لا دور الصّناعة خالية
|
أيّام لا لغة " الكتاب " غريبة | فيها و لا همم الأعارب وانية
|
أيّام كان العلم يغبط أهله | أهل الثراء ، ذوو البرود الضافية
|
أيّام كان لكلّ حسن شاعر | كلف به و لكلّ شعر راويه
|
أيّام " دجلة " مطمئن هاديء | جذلان يهزأ بالبحور الطامية
|
" النيل " خادمه الأمين ، و عبده | " نهر الفرات " و كلّ عين " جارية "
|
تهوى الكواكب أنّها حصباؤه | أو أنّها شجر عليه حانيه
|
و تودّ كلّ سحابة مرّت به | لو أنّه سحب عليها هامية
|
و ترى الغزاله طيفها عند الضحى | في سطحه فتبيت عطشى راوية
|
أيّام كان الشرق مرهوب اللوا | يكسو الجلال سهوله و روابيه
|
أيّام تحسدها العواصم مثلما | حسد العواطل أختهنّ الحالية
|
و لطالما كانت تعزّ بعزّها | " مصر " و يحمي ذكرها " أنطاكيه "
|
***
|
أيّام " هارون " يدير شؤونها | يا عصر هارون " عليك سلاميه
|
ملك أدال من الجهالة علمه | و أذلّ صارمه الملوك العاتيه
|
ومشت تطوّف في البلاد هباته | تغشى حواضرها و تغشى البادية
|
ملأ البلاد عوارفا و معارفا | و الأرض عدلا و النفوس رفاهيه
|
فتحضّر البادون في أيّامه | و استأنست حتّى الوحوش الضارية
|
و تسربلت " بغداد " ثوب مهابة | ليست تراه أو " تراه " ثانيه
|
هاتيك أيّام تلاشت مثلما تمحو | من الرقّ الحروف الماحية
|
لم يبق إلاّ ذكرها يا حسنها | ذكرى تهشّ لها العظام الباليه
|
لو أنّ هذا الدهر سفر كنت يا | عصر الحضارة متنه و الحاشية
|
عصر لئن جاء البشير بعودة | فلأخلعنّ على البشير شبابيه !..
|
***
|
إيه " أبا المأمون " ذكرك آبد | في الأرض مثل الشامخات الراسيه
|
باق على مرّ العصور بقاءها | و كذاك ذكر ذوي النفوس السامية
|
إن لم يكن لك من مثال بيننا | فلأنّ روحك كلّ حين دانيه
|
هي في الخمائل زهرة فيّاحة | هي في الكواكب شمسها المتلالية
|
إنّي لأعجب كيف متّ و في الورى | حيّ و كيف طوتك هذي الطاوية
|
ومن الزمان يهدّ ما شيّدته | ويح الزمان أما تهيّب بانيه ؟
|
تشكو إليك اليوم نفسي شجوها | فلأنت مفزع كلّ نفس شاكية
|
أتراك تعلم أنّ دارك بدّلت | من صوت " إسحق " بصوت النّاعية ؟
|
أتراك تعلم أنّ ما أثلته | قد ضيّعته الأنفس المتلاهية ؟
|
يا ويح هذا الشرق بعدك إنّه | للضعف بات على شفير الهاوية
|
ما كان يقنع بالنجوم وسائدا | و اليوم يقنع أهله بالعافية !
|
مسترسلون إلى الذهول كأنّما | سحروا أو اصطرعوا ببنت الخابية
|
مستسلمون إلى القضاء كأنّما | أخذوا و لمّا يؤخذوا بالغاشية
|
المجد إدراك النفيس ، و عندهم | ما المجد إلاّ شادن أو شادية
|
يهوى الحياة الناس طوع نفوسهم | و هم يريدون الحياة كما هيه
|
صغرت نفوسهم فبات عزيزهم | يخشى الجبان كما يخاف الطاغية
|
حملوا المغارم ساكتين كأنّما | كبرت على أحناكهم لا الناهية
|
لم تسمع الدنيا بقوم قبلهم | ماتوا و ما برحوا الديار الفانية
|
الله لو حرصوا على أمجادهم | فلتلك عنوان الشعوب الراقية
|
ملك " العلوج " أمورهم و متاعهم | حتّى سوامهم و حتّى الآنية
|
وا خجلة العربيّ من أجداده | صارت عبيدهم الطغاة موالية !..
|
***
|
أبني الغطارفة الجبابرة الألى | و طئوا " اللّوار " و دوّخوا " إسبانية "
|
من حولكم و أمامكم تاريخهم | فاستخبروه فذاك أصدق راويه
|
قادوا الجيوش فكلّ سهل ضيّق | ورموا المعاقل فهي أرض داحيه
|
و سطوا فأسقطت العروش ملوكها | رعبا و أجفلت الصروح العالية
|
و مشوا على هام النجوم فلم تزل | في اللّيل من وجل تحدّق ساهية
|
وردت خيولهم المجرّة شزّبا | و الشهب من حول المجرّة صادية
|
أعطاهم صرف الزمان زمامه | أمنوا و ما أمن الزمان دواهيه
|
لا أستفزّكم لمثل فتوحهم لكن | إلى حفظ البقايا الباقية
|
أتذلّ آناف الملوك جدودكم | و تسومكم خسفا رعاة الماشية ؟
|
كم تصبرون على الهوان كأنّكم | في غبطة و الذّلّ نار حامية
|
يا للرجال ! أما علمتم أنّكم | إن لم تثوروا ، أمّة متلاشية ؟
|
***
|
" دار السّلام " تحيّة من شاعر | حسدت مدامعه عليك قوافية
|
فأراق ماء شؤونه و لو أنّه | في الغاديات أراق ماء الغادية
|
لو كان مجدك مستردا بالبكا | قطرت محاجره الدماء القانية
|
فعليك تذهب كلّ نفس حسرة | و لمثل خطبك تستعار الباكية !! |