أبصرتها ، و الشمس عند شروقها | فرأيتها مغمورة بالنار
|
و رأيتها عند الغروب غريقه | في لجّة من سندس و نضار
|
و رأيتها تحت الدجى ، فرأيتها | في بردتين : سكينة ووقار
|
فتنبّهت في النفس أحلام الصبى | و غرقت في بحر من التّذكار
|
...
|
نفسي لها من جنّة خلّابة | نسجت غلائلها يد الأمطار
|
أنّى مشيت نشقت مسكا أزفرا | في أرضها و سمعت صوت هزار
|
...
|
ذات الجبال الشّامخات إلى العلا | يا ليت في أعلى جبالك داري
|
لأرى الغزالة قبل سكان الحمى | و أعانق النّسمات في الأسحار
|
لأرى رعاتك في المروج و في الربى | و الشّاء سارحة مع الأبقار
|
لأرى الطيور الواقعات على الثرى | و النحل حائمة على الأزهار
|
لأساجل الورقاء في تغريدها | و تهزّ روحي نفحة المزمار
|
لأسامر الأقمار في أفلاكها | تحت الظّلام إذا غفا سمّاري
|
لأراقب " الدلوار " في جريانه | و أرى خيال البدر في " الدلوار "
|
...
|
بئس المدينة إنّها سجن النّهى | و ذوي النّهى ، و جهنّم الأحرار
|
لا يملك الإنسان فيها نفسه | حتّى يروّعه ضجيج قطار
|
وجدت بها نفسي المفاسد و الأذى | في كلّ زاوية و كلّ جدار
|
لا يخدعنّ الناظرين برجها | تلك البروج مخابيء للعار
|
لو أنّ حاسد أهلها لاقى الذي | لاقيت لم يحسد سوى " بشّار "
|
غفرانك اللّهم ما أنا كافر | فلم تعذّب مهجتي بالنّار ؟
|
...
|
لله ما أشهى القرى و أحبّها | لفتى بعيد مطارح الأفكار
|
إن شئت تعرى من قيودك كلّها | فانظر إلى صدر السّماء العاري
|
و امش على ضوء الصّباح ، فإن خبا | فامش على ضوء الهلال السّاري
|
عش في الخلا تعش خليّا هانئا | كالطّير ... حرا ، كالغدير الجاري
|
عش في الخلاء كما تعيش طيوره | الحرّ يأبى العيش تحت ستار !
|
...
|
شلّال " ملفرد " لا يقرّ قراره | و أنا لشوقي لا يقرّ قراري
|
فيه من السيف الصقيل بريقه | و له ضجيج الجحفل الجرّار
|
أبدا يرش صخوره بدموعه | أتراه يغسلها من الأوزار ؟
|
فاذا تطاير ماؤه متناثرا | أبصرت حول السفح شبه غبار
|
كالبحر ذي التّيار يدفع بعضه | و يصول كالضرغام ذي الأظفار
|
من قمّة كالنهد ، أيّ فتى رأى | نهدا يفيض بعارض مدرار ؟
|
فكأنّما هي منبر و كأنّه | " ميراب " بين عصائب الثوّار
|
من لم يشاهد ساعة و ثباته | لم يدر كيف تغطرس الجبّار
|
ما زلت أحسب كلّ صمت حكمة | حتّى بصرت بذلك الثرثار
|
أعددت ، قبل أراه ، وقفة عابر | لاه فكانت وقفة استعبار ! ..
|
...
|
يا أخت دار الخلد ؛ يا أم القرى ، | يا ربّة الغابات و الأنهار
|
لله يوم فيك قد قضّيته | مع عصبة من خيرة الأنصار
|
نمشي على تلك الهضاب ودوننا | بحر من الأغراس و الأشجار
|
تنساب فيه العين بين جداول | و خمائل و مسالك و ديار
|
آنا على جبل مكين راسخ | راس ، و آنا فوق جرف هار
|
تهوي الحجارة تحتنا من حالق | و نكاد أن نهوي مع الأحجار
|
لو كنت شاهدنا نهرول من عل | لضحكت منّا ضحكة استهتار
|
الريح ساكنة و نحن نظنّنا | للخوف مندفعين مع إعصار
|
و الأرض ثابتة و نحن نخالها | تهتزّ مع دفع النسيم السّاري
|
مازال يسند بعضنا بعضا كما | يتماسك الروّاد في الأسفار
|
ويشدّ هذا ذاك من أزراره | فيشدّني ذيّاك من أزراري
|
حتى رجعنا سالمين و لم نعد | لو لم يمدّ الله في الأعمار
|
و لقد وقفت حيال نهرك بكرة | و الطير في الركنات و الأوكار
|
متهيّبا فكأنّني في هيكل | و كأنّه سفر من الأسفار
|
ما كنت من يهوى السكوت و إنّما | عقلت لساني رهبة الأدهار
|
مرّ النسيم به فمرّت مقلتي | منه بأسطار على أسطار
|
فالقلب مشتغل بتذكاراته | و الطرف مندفع مع التيّار
|
حتى تجلّت فوق هاتيك الربى | شمس الصباح تلوح كالدّينار
|
فعلى جوانبه وشاح زبرجد | و على غراربه و شاح بهار
|
لو أبصرت عيناك فيه خيالها | لرأيت مرآة بغير إطار
|
يمّمته سحرا و أسراري معي | و رجعت في أعماقه أسراري ! ..
|
...
|
إنّي حسدت على القرى أهل القرى | و غبطت حتّى نافخ المزمار
|
ليل و صبح بين إخوان الصّفا | ما كان أجمل ليلتي و نهاري ! |