دعاء بهاء الدين – ريم سليمان –سبق – جدة:
انتشرت الواسطة كالسرطان في المجتمع، وباتت تهدد بانقراض المواهب
والكفاءات، فندر ظهور الموهوبين وقفز على السطح أنصاف الأكفاء والموهوبين،
وبات هناك شبكة من العلاقات المتشعبة تقوم بدفع من لا يستحق على حساب
الآخرين، وصارت الكفاءة والعدالة الاجتماعية مفاهيم بالية لا تتناسب مع
قانون "الواسطة والمحسوبية "، مما دعا مختصين للتحذير من مخاطرها وتعطيلها
لتكافؤ الفرص وتحقيق العالة الاجتماعية.
"كليات عائلية"
تحدث لـ" سبق" أستاذ مساعد بإحدى الجامعات قائلاً: الطالب الذي لديه واسطة
يعامل معاملة استثنائية من الأساتذة، فهو دائماً يحظى باهتمامهم، ويحصل على
معدل فوق 95%، مضيفاً أما بعد التخرج فهناك توصية من اللجنة بتعيينه محاضر
بالجامعة حتى لو مهاراته أقل من زملائه، كما يمكن أن يكون الاختبار شكليا
فقط مع المعرفة المسبقة بصاحب التعيين.
وتابع: أيضا بالنسبة للابتعاث فإنهم يختارون لصاحب الواسطة جامعات أكثر
تميزاً من مثيلاتها، ويُستثنى من شروط معينة، لافتا على حد قوله إلى وجود
كليات "عائلية" يسيطر عليها أبناء وأقارب مسئولين بالجامعة، كما تمتد
المحسوبية أيضا إلى تولي المناصب، فيوضع الشخص الغير مناسب في المكان غير
المناسب.
ولفت إلى تأثير المحسوبية على سير العمل، واتخاذ القرارات العملية، مبدياً
آسفة لحدوث عداءات بين رئيس القسم "المعين بواسطة" والأساتذة المميزين،
وقال: رئيس القسم يستبعد الخبرات المميزة من المشاركة في تطوير القسم، حتى
لا يفتضح قصوره العلمي، كما لفت إلى امتداد المحسوبية إلى تقييم الإنتاج
العلمي، واختيار الأبحاث العلمية، وحضور المؤتمرات الدولية، فمن لديه واسطة
يتحمسون لنشر بحثه، وإظهاره بشكل مميز.
بطالة دراسات العليا
وعبّر محاضر بإحدى الجامعات عن معاناته قائلاً: كنت مبتعثاً في برنامج خادم
الحرمين، وعند عودتي للمملكة ظللت أبحث عن عمل بالجامعة لمدة 8 أشهر،
ولأني بلا واسطة، فقد تأخر تعييني، مبدياً آسفه لتعيين أقارب مسئولي
الجامعة في وظائف تدريسية أو إدارية، ولفت إلى معاناة زملائه الحاصلين على
ماجستير ودكتوراه ويعانون من بطالة؛ لأنهم ليس لديهم واسطة، واقترح أن
تشارك الخدمة المدنية الجامعة في اختيار المحاضرين والإداريين، أو تقوم
بعمل مسابقة للوظائف الشاغرة بالجامعة، عن طريق تقديم الخريجين أوراقهم
للخدمة المدنية وتختار الأصلح وترسله للجامعة.
واسطة قوية
وتحدث محمد صالح الشمراني عن معاناة زوجته في الحصول على وظيفة قائلاً:
زوجتي تخرجت من عام 1426 في كلية اقتصاد منزلي تخصص "نسيج وخياطة" تقدير
جيد، ولم تجد عملاً حتى الآن، مبيناً أن زميلتها بنفس الكلية ونفس التخصص
تم تعيينها بالتعليم الحكومي، لوجود قريب لها يعمل بالخدمة المدنية، وأعرب
عن أسفه لتجاهل زوجته في التعيين، مع احتياجهم لراتب الوظيفة، وقال: هناك
زميلة لها تخرجت العام الماضي، وتم تعيينها معلمة في جازان، ورحب بتعيين
زوجته في أي منطقة بالمملكة مبدئياً، ثم نقلها فيما بعد إلى جدة.
فندق خمس نجوم
وبكل مرارة تحدث محمد العلاقي عن معاناة ابنته الصحية قائلاً: ابنتي تعرضت
لحادث سيارة منذ عام، وتطلب علاجها في الخارج، ونظراً لظروفنا المادية، فقد
عجزنا عن تدبير نفقات العلاج، موضحاً أنه قدم الشهادات الطبية لابنته
لإحدى المدن الطبية بالرياض منذ رمضان الماضي، بيد أنهم اعتذروا عن قبولها
دون إبداء الأسباب، ولفت أن 50% ممن يتم قبولهم بالمدينة الطبية لديهم
"واسطة" قوية، وقال: من لديهم واسطة يعاملون كأنهم في فندق خمس نجوم،
ويتحمس الأطباء لهم، ويرسلون لهم التذاكر للسفر سريعاً، مبديا أسفه لتجاهل
المستشفى لابنته؛ لأنها ليس لديها واسطة.
وجاهة اجتماعية
ولفت أستاذ الاجتماع والجريمة المساعد بكلية الملك فهد الأمنية الدكتور عبد
الله الشعلان إلى أن الواسطة ظاهرة اجتماعية متفشية في المجتمع، تفرض
نفسها على الناس، ولا يجد المجتمع مفراً من التعامل معها، فتارة يذمونها
وتارة يفرحون بها، مبيناً آن السر في استمرارية هذه الظاهرة أنها قد تحولت
إلى ثقافة، وأصبح الناس يألفونها ويتوقعونها عند كل موقف يتطلب قضاء حاجة
لدى القطاعين العام والخاص، وأبدى تعجبه لتفاخر الناس بها قائلاً: إن
الواسطة ترسخت في الأعراف الاجتماعية، وأصبح الناس يتباهون بخرق النظام،
واللجوء إليها باعتبارها أحد مظاهر الوجاهة الاجتماعية.
ورداً على سؤال حول الآثار الاجتماعية للواسطة أجاب الشعلان: تشير بعض
الدراسات إلى أن من الآثار الاجتماعية للواسطة هو تعطيل مبدأ تكافؤ الفرص،
وإعاقة تحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمع، لافتاً إلى أن هذا يُوجِد
الشعور بالظلم بين الناس؛ لسلب حقوقهم وإعطائها لمن لا يستحقون، وأوضح أن
هذا يؤدي إلى فقدان الناس الثقة بالقيم والمثل الاجتماعية كالاجتهاد،
والمثابرة والإخلاص والتحصيل العلمي والاعتماد على النفس، وهذا بدوره قد
يعطل الإنتاجية في المجتمع.
رقابة وشفافية
وللحد من تفشي ظاهرة الواسطة في المجتمع طالب بتضافر جهود مؤسسات المجتمع
المختلفة ابتداء من الأسرة، فتزرع في نفوس نشئها مبدأ العدل وتكافؤ الفرص،
وأن من يستحق يحصل على ما يستحقه بكفاءته، مضيفاً: أما بالنسبة للمدرسة
فلابد أن يتحقق مبدأ العدل بين الطلاب وأن يكافأ من يجتهد، وكذلك بالنسبة
للعمل توظيف الشخص المناسب في المكان المناسب، وشدد على ضرورة أن تكون
الرقابة والشفافية في أعلى مستوياتها في كل مؤسسة عامة أو خاصة، وأكد أن
ذلك سوف يخلق ثقافة مغايرة ومناهضة لثقافة الواسطة لتجتثها وتُغرس مكانها.
نعش التنمية
وأوضح الكاتب والباحث في التنمية المستدامة فيصل العتيبي، أنه لا يمكن
الفصل بين التنمية في صورتها المثلى وهي تحقيق العدالة الاجتماعية للجميع،
وما تحويه من مفاهيم كالمساواة والعدل والتمكين من الحياة الكريمة لجميع
المواطنين، سواء في التعليم والحفاظ على حقوق الأجيال القادمة أو بالاختيار
للعمل بناءً على الكفاءة لا الوراثة أو المحسوبية.
وأكد أن أول مسمار يُدقّ في نعش التنمية هو انتشار الفساد بكافة أشكاله
وأبرزها المالي والإداري وما تعارف عليه المجتمع بـ "الواسطة أو
المحسوبية"، لما في ذلك من تهديد مباشر للوفاء بحاجات المجتمع اليومية
ومستقبل الأجيال القادمة، مشيراً إلى ما يترتب على هذا الاختيار من أخطاء
ومنها على سبيل المثال لا الحصر ارتفاع معدلات الفقر والبطالة بنوعيها
السافر والمتخفي، وكذلك الاضطرابات والقلاقل السياسية بسبب الشعور بالغبن،
إضافة إلى انحدار مستوى الخدمات وهدر المال العام.
ولفت العتيبي إلى أن قضية أثر المحسوبية على التنمية ربما لا تلفت النظر
للوهلة الأولى كونها بعيدة الأثر، بيد أن تتبع آثارها وسلسلة النتائج
الناجمة عنها مفجعة جداً، مطالبا بالتحرك السريع لتطبيق معايير رقابية
صارمة وتوسيع مظلة الاختيار للعمل، وعن الحلول الممكن اتباعها لكبح جماح
هذا النوع من الفساد قال: الاتجاه نحو العقود محددة الأجل في القطاع
الحكومي والانتقال من مفهوم التوظيف مدى الحياة إلى مفهوم التوظيف المؤقت
المبني على الإنتاج والكفاءة، الذي سيسهم كثيراً في قضية خفض مستوى
المحسوبية والوساطة ورفع مستوى الإنتاجية والتمكين من العمل للأكفاء
والمستحقين.
ثقافة الواسطة
من جهته رأى الكاتب خالد الغنامي أن المجتمع السعودي تفشت فيه الواسطة
وتناسى النظام تماماً، وأصبح البحث عن دفتر التليفون والسؤال عن المعارف في
أي جهة هو التصرف الطبيعي للكثير من فئات الشعب إن لم يكن كل، حتى في
الإجراءات البسيطة التي لا تستدعي الواسطة، فبات هناك ثقافة مجتمعية ترسخ
أهمية الواسطة.
وربط قضية الواسطة بالجانب الديني والأخلاقي للمواطنين، موضحاً أن من
يستخدم الواسطة للحصول على وظيفة أو ترقية على حساب شخص آخر، فقد ارتكب
ظلماً عظيماً، وأوجد عدداً من الحاقدين في المجتمع، وقال: ظهور الواسطة
ساهم بشكل كبير في البعد عن الكفاءات، حتى صرنا نضع في أماكن المسئولية
أشخاصاً ليسوا أكفاء.
وحول من يرى أن هناك اختلاف بين الواسطة والمحسوبية، قال الكاتب: هما وجهان
لعملة واحدة، وربما ترتبط الواسطة بالمصالح المتبادلة، أما الأخرى فتعتمد
على المجاملة، وفي الحالتين هناك من يقع ضحية لتلك التصرفات اللامحسوبة.
وأكد الغنامي ضرورة أن يتوجه المجتمع بأكمله للكشف عن الواسطة بكل جراءة،
والابتعاد عن العشوائية وشبكة العلاقات المتشعبة، التي تؤدي في النهاية إلى
انهيار قيم العمل وأخلاقياته، مما ينعكس بالسلب على الخدمات المقدمة
للمواطنيين .