إنه مع بداية العطلة الصيفية، يجد كثير منا وقت فراغ كبير، فمن الناس مَنْ يصرف هذا الوقت في معاصي الله عز وجل، ومنهم مَنْ يضيع على نفسه هذا الوقت الثمين في أشياء لا تعود عليه بالنفع والخير في العاجل والآجل، وكثير من الناس يتساءل كيف يعمل وماذا يعمل في هذا الفراغ وهذه الإجازة؟ فأحب أن أوضح بعض الأمور: أولاً: ليعلم كل مسلم ومسلمة أن الله تبارك وتعالى لم يخلقنا في هذه الحياة الدنيا هملا ولا عبثاً، بل خلقنا لحكمة عظيمة ألا وهي عبادته وحده لا شريك له.. قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - (أي: أفظننتم أنكم مخلوقون عبثاً بلا قصد ولا حكمة؟ وقيل: للعبث، أي: لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب ولا عقاب، وإنما خلقناكم للعبادة وإقامة أوامر الله عز وجل)أ.هـ. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}ومعنى يعبدون: يوحدون. ثانياً: الفراغ والصحة نعمة عظيمة لمن استغلها في طاعة الله عز وجل واستثمرها فيما يقرب من الله كما قال ژ : (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) ومعنى ذلك: أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين، لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون. إن الوقت هو أغلى وأنفس ما يملكه الإنسان، بل هو حياته، ولقد صدق ابن هبيرة الوزير الفقيه حين وعظ تلميذه ابن الجوزي فقال: والوقت أنفس ما عنيت بحفظه واراه أسهل ما عليك يضيع ويقول ابن القيم - رحمه الله - (فوات الوقت أعظم من فوات الروح؛ لأن فوات الروح انقطاع عن الخلق، وأما فوات الوقت فانقطاع عن الحق سبحانه وتعالى). فعليك أخي المسلم أن تستثمر أيامك ولياليك في طاعة ربك عز وجل.. ولعلي أن أشير لبعض الطاعات التي يمكن استغلالها وبخاصة في هذه الإجازة، فمن ذلك: 1- من أعظم ما تعمر به الأوقات تلاوة كتاب الله عز وجل والإكثار من ذلك، فإنه مما يقوي الإيمان ويقرب إلى الله تعالى، وحفظ ما تيسر منه.. قال ژ (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وكذلك قراءة تفسيره فإنه مما يعين على فَهْمه وتدبره ومعرفة أحكامه والعمل به.
2- طلب العلم الشرعي والتفقه في الدين.. قال ژ : (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وقال ژ : (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) (رواه أبوداوود والترمذي). قال ابن جماعة: (واعلم أنه لا رتبة فوق رتبة من تشتغل الملائكة وغيرهم بالاستغفار والدعاء له، وتضع له أجنحتها). وكفى بذلك شرفاً لطالب العلم، فطلب العلم والاشتغال به فضله عظيم، بل ذكر العلماء أن طلب العلم أفضل من نوافل العبادات وما ذاك إلا لأنه بسببه يعبد المسلم ربه على بصيرة، ويسلم بإذن الله من مزالق الشبهات والشهوات، وهو سبب عظيم للتمييز بين الحق والباطل والهدى والضلال فيبتعد الإنسان عن سبل الغواية سواء الغالية أو الجافية. ويجب على المسلم تعلم ما لا يسعه جهله مما يقوم به دينه من عبادات ومعاملات.. فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ژ : (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) (رواه ابن ماجه). ويكون ذلك على يد العلماء الراسخين البصيرين، لا يكون طلب العلم على أيدي الجهلة أو ممن لا يعرف بالعلم النافع، ويكون كذلك عن طريق مطالعة الكتب النافعة المفيدة، وكذلك حضور حِلَق العلم والدورات العلمية التي تُعقد في المساجد.
3- ويمكن استغلال الإجازة كذلك بصلة الأرحام وزيارة الأقارب والسؤال عنهم ومساعدة المحتاج منهم.. وهذا مطلوب في الإجازة وغيرها، ولكن الإجازة فرصة لقلة الارتباطات والأشغال.. وقد جاء الحث على صلة الأرحام والتحذير من القطيعة في الكتاب والسنة، قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}، وقال ژ : (إن الرحم معلقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها) (أخرجه البخاري وأحمد)، وفي الحديث القدسي - قال الله عز وجل (أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي، فمَنْ يصلها أصله، ومَنْ يقطعها أقطعه فأبته) (أخرجه أحمد وأبوداوود والترمذي). وقال ژ : (ما من ذنب أحرى أن يعجل الله تعالى عقوبته في الدنيا مع ما يدخره لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم) (أخرجه أحمد وأبوداوود والترمذي).
4- وكذلك من سبل استغلال الوقت في الإجازة السفر إلى مكة المكرمة لأداء مناسك العمرة وزيارة مسجد الرسول - ص - فقد جاء في السنّة النبوية ما يرغب في أداء العمرة، وأن ذلك من أسباب مغفرة الذنوب،
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ص - : (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) ثم أيضاً في المسجد الحرام والمسجد النبوي تضاعف فيهما الصلاة مضاعفة كبيرة كما جاء في الحديث عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - ص - قال: (صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه) (رواه أحمد وابن ماجة). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - (والصلاة وغيرها من القرب بمكة أفضل والمجاورة بمكان يكثر فيه إيمانه وتقواه أفضل حيث كان، وتضاعف السيئة والحسنة بمكان أو زمان فاضل ذكره القاضي وابن الجوزي)أ.هـ.
5- السفر المباح الذي لا محذور فيه وإنما هو لطلب النزهة والاستجمام والتعرف على المناطق والبلدان.. وفي بلادنا - ولله الحمد - المصائف الجميلة والمنتزهات الكثيرة والأجواء العليلة، ولكن بشرط ألا تضيع الواجبات أو ترتكب المحرمات من إهمال للصلوات
أو تأخيرها عن وقتها أو اختلاط بين الرجال والنساء أو تبرج النساء أو غير ذلك من المنكرات، بل الواجب أن يشكر المسلم ربه على نعمه العظيمة ولا يقابلها بالكفران والمعاصي.
تلتقي الفصول ببعضها، ويسفر عن ذلك اختلال النظام الكوني حين يبدأ فصل الربيع بالمباهاة والمفاخرة.
الربيع: ( قاصدا ًالشتاء ) مرحى أيها الفصل البارد، أيها الضيف الثقيل على هذه الأرض. ما إن يقترب الشهر الذي تأتي فيه حتى يتشاءم الناس منك، فلمَ لا تريحني بفراقك؟ وتُذهب عني هذا الجمود المقيت؟
الشتاء: يالك من فصل مغتر، أتعني بقولك أنك أفضل مني ومن الفصول الأخرى؟
الربيع: وهل في ذلك شك؟
الشتاء: ويحك يا مغرور، لا تظن أنك الأفضل .. فإن كنت ريحا ًفقد واجهت إعصارا ً.
الربيع: من ذا المقبل علينا؟
الصيف: وهل يخفى القمر؟
الشتاء: رباه! ترى ما الذنب الذي اقترفته لتحشرني بين هؤلاء؟ اللهم لا تآخذنا بما فعل السفهاء منا.
الصيف: دعني أفخر كما أشاء، فلي حق ٌ في ذلك كما للربيع. فأنا الفصل الوحيد الذي يتمتع الناس فيه وبجوه المنعش وسماءه الزرقاء الصافية فالكل يهواني.
الربيع: ومن أنت حتى تقول هذا؟ كلنا فصول .. وأنا الفصل الوحيد الذي تتفتح فيه الأزهار وتخضّر الأشجار كما أن سمائي صافية وجوي معتدل لا حرارة حارقة ولا برودة قارسة .. وأينما ذهبت تسمع تغريد الطيور كألحان سرمدية تداعب الآذان.
الخريف: كفاك حلما ً.. اصحى.
الربيع: لا دخل لك .. ابحث لك عن مكان آخر تنثر فيه أوراقك اليابسة.
الخريف: كفاك غرورا ًوتعاليا ً.
الصيف: نعم فلست الوحيد الذي يتمتع بمزايا جميلة .. أنا أيضا ً.
الشتاء: ويا ترى ما هي؟
الصيف: إنها واضحة لا يلزم سردها عليكم .. فمن ذا الذي لا يسعد عند قدومي عندما تُغطي الأرض برداء أخضر ويبدأ موسم الحصاد وتنضج الثمار.
الربيع: ويتضايق الناس من الذباب!
الشتاء: هلا أسعدتنا بصمتك أيها الربيع؟
الربيع: لن أعيرك اهتماما ً.. كل ما في الموضوع أنك تغار مني فقط.
الخريف: كفاكم أيتها الفصول .. لم تتركوا لي فرصة لأحدثكم عن مميزاتي المتواضعة.
الشتاء: وما هي؟
الخريف: لست كالصيف ولا كالشتاء ولا أنت أيها الربيع، يسودني مناخ الريف .. وتظهر الأزهار ولا تقل لي يا ربيع أنك تحتكرها لنفسك، فأنا أعرف ما يحل بالأرض عند قدومي .. تكون الورود مختلفة الألوان متنوعة الأشكال متباينة الأصناف.
الشتاء: وتتساقط أوراق الأشجار .. شيء مخجل!
الصيف: وما المخجل في ذلك؟ أنت أيها الشتاء عند قدومك تصبح الأشجار صلعاء .. فما رأيك بذلك؟
الربيع: ( ضاحكا ً) شكرا ًلكم .. فلم أضحك في حياتي هكذا قط!
الخريف: آه .. أيتها الشمس! أذقتني طعم الفصول الأربعة يا صاحبة الظل الخفيفِ شمس صيفي وزهر ربيعي وثلج شتائي ورياح الخريفِ طغى صوت الربيع على أوراقي فما عدت اسمع لها من حفيفِ
الشتاء: رائع!
الخريف: أشكرك.
يُسمع صوت الرياح تهب قوية ًعلى الأرض .. فيغطيها الغموض ويشملها، ويحل الليل يتبعه الظلام .. فيطول ذلك السكون. ثم ومن حيث لا يُعلم .. تنقشع الأرض على نور ٍرائع يسطع بأشعته على أرجائها، ولا يلبث حتى يُسمع ذاك اللحن الموسيقي يصدر من أصغر المخلوقات.
][ ]المشهد الثاني ][ ]
الصيف: سبحان الله ، انه لأمرٌ عظيم.
الخريف: ماذا؟
الصيف: توالينا نحن الأربعة على النحو المنظم هذا، يشبه إلى حدٍ ما توالي الليل والنهار.
الشتاء: صدقت.
الربيع: وبالطبع مروري على الأرض كمرور الكرام..
الشتاء: ومن طلب رأيك؟ تذم فينا وتمدح نفسك؟
الربيع: لم ينقصني إلا أنت لتعظني، إن الناس يتشاءمون حتى من كلمة شتاء.
الشتاء: بالعكس .. أعتقد أن الناس يفضلون الثلج الناصع الأبيض على الأوراق البالية، ويفضلون الأمطار التي تهطل باستمرار على الشمس الحارقة، ويفضلون الغيوم المتناسقة في السماء على الأزهار الصغيرة في الأرض.
الخريف: لا تذكر المزايا وتخفي العيوب.
الشتاء: وما عيبي؟
الخريف: أنسيت أنك عندما تحل على الأرض .. يموت الكثير من البشر؟
الصيف: وكيف ذلك؟
الخريف: البرد القارس لا يُحتمل! ناهيك عن الأعاصير والعواصف والصواعق والفيضانات والإنهيارات الجليدية.
الشتاء: غضب الطبيعة! وما ذنبي؟
الصيف: أيتها الفصول! ماذا حل بكم؟ كلٌ مننا لديه عيوب حتى ولو لم يعترف بها.
الربيع: لكنكم فصول .. ولا يمكنكم تغيير شيء.
الصيف: أنا مقتنع بما لدي.
الخريف: وأنا أيضا ًمكتفي.
الربيع: وأنت أيها الشتاء؟
الشتاء: ما دمت لا أستطيع تغيير شيء، وليس لي يد فيما يحدث، فلمَ أعترض على قضاء الله جل وعلا؟ إنني أيضاً قنوع .. والقناعة كنز لا يفنى.
الربيع: صدق من قال: الإفراط في التواضع يجلب المذلة.
الشتاء: ( ساخرا ً) لا أعرف كيف أشكرك على هذه الحكمة، مارأيك بأخرى قد تستفيد منها أنت أيضا ً؟
الربيع: أعطني ما لديك.
الشتاء: المتكبر .. كالواقف على جبل يرى الناس صغارا ويرونه صغيرا.
الربيع: إذا أتتك الملامة لي بأني ناقصُ فهي الشهادة لي بأني كاملُ