الإسلام
في شريعته المنزّلة ومنهجه المرسوم عقدٌ تنتظم فيه صور الكمال في المقاصد
، والسمو في المباديء ، والإحكام في القواعد ، وما مبدأ الشورى إلا صورة
من صور هذا الكمال ، فمن خلاله تُبسط الآراء وتناقش القضايا ، بين النُخبة
من أفراد الأمة ، لتقرير ما يرتّب شؤون الحياة ويحفظ توازن المجتمع .
والشورى
هي نظامٌ اجتماعي ، وأصلٌ من أصول الحكم ، يسعى لتلبية حاجات الناس
المتجدّدة وحلّ مشكلاتهم المختلفة ، بإشراك أرباب العقول وذوي الأفهام في
الفكر والرأي .
وتظهر مكانة الشورى في الإسلام من خلال اقترانها بأوصاف المؤمنين الصادقين في قوله تعالى : { والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم } ( الشورى : 38 ) ، يقول الإمام الجصاص :
" هذا يدل على جلالة موقع المشورة لذكرها مع الإيمان وإقامة الصلاة " ،
علاوةً على كونها السبيل لاستقرار الأسرة المسلمة وائتلافها ، قال تعالى :
{ فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما } ( البقرة : 233) .
ثم
إن الله سبحانه وتعالى أمر نبيّه بمشاورة أصحابه بالرغم من استغنائه عن
آرائهم ، فقد تكفّل الله بإرشاده وتوجيهه ، ولكنّه إرشادٌ للأمة بضرورة
العمل بهذا المبدأ ، قال تعالى : { وشاورهم في الأمر } ( آل عمران : 159 ) .
فكان – صلى الله عليه وسلم – أكثر الناس مشورة في أحواله كلّها ، في السلم والحرم ، وأمور الخاصّة والعامة ، حتى شهد أصحابه بذلك .
ففي
أمور الحرب ، تبرز مواقف النبي – صلى الله عليه وسلم – التي شاور أصحابه
فيها ، ابتداء بغزوة بدر ، حيث شاورهم فيها حول الخروج لملاقاة العدو ،
واختيار المكان الذي ينزلون فيه ، وفي شأن الأسرى وكيفيّة التعامل معهم .
وفي
غزوة أحد ، استشار النبي – صلى الله عليه وسلم – في اختيار المكان الذي
يحارب منه المسلمون ، ونزل على رأي من أراد الخروج ، كما أخذ عليه الصلاة
والسلام بمشورة صاحبيه بعد المعركة في ملاحقة فلول قريش ومطاردتها .
وعندما أشار سلمان الفارسي رضي
الله عنه بفكرة بناء الخندق ، استحسن النبي – صلى الله عليه وسلم – فكرته
وأمر بتنفيذها ، فكانت سبباً رئيسياً من أسباب النصر في تلك الغزوة.
وكثيراً ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يأخذ بمشورة أصحابه حتى وإن خالفت رأيه ، فقد نزل على رأي سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما في عدم إعطاء ثمار المدينة لغطفان ، وأخذ بمشورة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بقصد المسجد الحرام لأداء العمرة وترك قتال قريش يوم الحديبية ، ومشورة الحباب بن المنذر رضي الله عنه في اختيار معسكر المسلمين في غزوة الطائف ، ورأي عمر بن الخطاب رضي
الله عنه في عدم ملاحقة جيش الروم في أرض الشام وضرورة العودة إلى المدينة
، ومنع الصحابة من نحر الإبل حينما اشتدّ بهم الجوع ، وغير ذلك من المواقف
الكثيرة التي ذكرها علماء السيرة .
وبعيداً
عن شؤون الحرب ، فقد وردت في السيرة النبوية مجموعة من القضايا استشار
فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – الآخرين واستمع إلى آرائهم ، ففي يوم
الإسراء والمعراج شاور عليه الصلاة والسلام جبريل في تخفيف الصلاة ، وشاور كلاً من علي بن أبي طالبوأسامة بن زيد رضي الله عنهما في قضيّة الإفك ، وشاور الناس في كيفيّة التعامل مع من آذاه في عرضه الشريف ، وفي غزوة الحديبية نزل عند رأي زوجته أم سلمة رضي الله عنها بمباشرة النحر وحلق الشعر بنفسه عندما تثاقل الناس عن فعل ذلك .
وعند
استعراض مبدأ الشورى في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم - ، نجد أن لها
مجالاً معيّناً ونطاقاً محدّداً لا تتعدّاه ، وهي الأمور التي لم يرد فيها
نصٌّ شرعيٌّ من الكتاب والسنّة ، وأما ما ورد فيه نصٌّ فليس أمام المسلم
سوى القبول والتسليم ، ولا سبيل إلى تعطيله أو معارضته ، وإنما تكون
الشورى في البحث عن كيفيّة تنفيذه بما يتوافق مع أصول الإسلام وقواعده ،
وبما يراعي مقتضى الظروف المحيطة وواقع الحال .
وللشورى
في حياة الصحابة رضوان الله عليهم مكانةٌ عظيمة ، فقد كانوا حريصين أشدّ
الحرص على معرفة رأي النبي – صلى الله عليه وسلم – في مختلف القضايا
ليأخذوا به ، فمن ذلك استشارة أبي هيثم رضي الله عنه للنبي – صلى الله عليه وسلم – في اختيار خادمه من السبي ، رواه الترمذي ، واستشارة فاطمة بنت قيس رضي الله عنها للنبي عليه الصلاة والسلام فيمن تقدّم لخطبتها ، فأشار لها بقبول أسامة رضي الله عنه ، فكان زواجها منه سبباً في سعادتها وحلول البركة في بيتها ، رواه مسلم .
وعن معاوية بن جاهمة السلمي رضي
الله عنه أن والده جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا رسول
الله ، أردت أن أغزو ، وقد جئت أستشيرك " ، فقال له : ( هل لك من أم ؟ ) ، قال : نعم ، فقال له : ( فالزمها فإن الجنة تحت رجليها ) رواه النسائي .
ومن
بعد عصر النبوّة أرسى الصحابة رضوان الله عليهم مبدأ الشورى منذ اللحظة
الأولى ، فما كان اختيار خليفة المسلمين يوم السقيفة إلا نتاج المشورة
بينهم ، ولا إنفاق أموال الفتوحات الإسلامية على الدولة في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه إلا بمشورة أصحابه ، وبذلك صارت الشورى ركيزة أساسية في حياتهم .
وعندما نعود إلى قول النبي – صلى الله عليه وسلم : ( إن المستشار مؤتمن ) رواه الترمذي، أدركنا ضرورة الصدق والإخلاص في المشورة ليتحقّق المقصود منها ، وفي هذا المعنى يقول النبي – صلى الله عليه وسلم- : ( من استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه ) رواه أحمد .
وهكذا
أصبحت المباديء التي قرّرها النبي – صلى الله عليه وسلم – دستوراً
للبشريّة ، ومنهاجاً للإنسانيّة ، وعنواناً للأمم الراقية على مرّ العصور.