الله
كلمة "إلاه" تعني:
معبود .. وهي اسم مشتق من الفعل (أله) بالفتح .. فكل ما اتخذه الناس معبوداً منذ
القدم يصح أن يطلق عليه اسم (إلاه)
فمن الناس من اتخذ الشمس إلهاً .. أي:
معبوداً، ومنهم من اتخذ النار إلهاً، ومنهم من اتخذ القمر إلهاً، ومنهم من اتخذ
البقر إلهاً.
وكلمة (إلاه) قد تطلق ويراد بها معناها فقط .. أي: (معبود) كما في
قوله تعالى:
فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من
إله غيره .. "59" (سورة الأعراف)
وقوله تعالى:
الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت .. "158"
سورة الأعراف)
وقوله تعالى:
لا
إله
إلا هو سبحانه عما يشركون "31" (سورة التوبة)
فالحق سبحانه وتعالى يؤكد
في هذه الآيات أنه لا معبود إلا هو تبارك وتعالى. وقد تطلق كلمة (إلاه) ويراد بها:
الحق عز وجل، كما في قوله تعالى:
اجعل الآلهة
إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب "5" (سورة ص)
فكلمة (إلاه) في هذه الآية
تعني: "معبوداً"، وفي نفس الوقت يراد بها: الحق عز وجل. فإذا انتقلنا إلي لفظ
الجلالة (الله) .. هل هو لفظ مشتق من الفعل (أله) أم غير مشتق؟
قيل: إنه اسم
مشتق من نفس الفعل (أله)، وأنه هو نفسه الاسم المشتق (إلاه) ودخلت عليه الألف
واللام وحذفت الهمزة للتخفيف، وقيل: إنه غير مشتق، وإنما أطلقه الله عز وجل للدلالة
على ذاته العلية.
ولكننا نقول: إن لفظ الجلالة (الله) سواء أكان مشتقاً أم غير
مشتق، فإنه علم على واجب الوجود .. أي: على الحق تبارك وتعالى بذاته وأسمائه وصفاته
دون سواه من المعبودات الباطلة.
إن العلم إذا أطلق وأريد به مسمى معيناً
..
فإنه (أي: العلم) ينحل عن معناه الأصلي ويصبح علماً على مسماه .. كما إذا أطلقت على
زنجية اسم (قمر) .. فالقمر بالنسبة لهذه الزنجية قد انحل عن معناه الأصلي، وصار
علماً عليها.
فلفظ الجلالة (الله) ورد في القرآن الكريم حوالي ألفين وسبعمائة
مرة لم يرد خلالها هذا اللفظ إلا للدلالة على ذات الحق جل وعلا، ولم يستخدم للدلالة
على أي معبود آخر من المعبودات الباطلة مثل: الشمس أو القمر أو النار أو البقر أو
عيسى بن مريم. كما أن الله تبارك وتعالى لم يستخدم لفظ الجلالة كوصف من الأوصاف مثل
سائر الأسماء، وإنما استخدمه ليدل عليه بذاته وأسمائه الأخرى وصفاته دلالة علمية.
فإذا أراد أن يصف نفسه بوصف معين، أو ينسب إلي نفسه فعلاً معيناً، أتى بلفظ
الجلالة (الله) كعلم عليه، ثم ألحقه بالوصف أو الفعل الذي يريد .. كما تقول أنت ـ
(احمد
وقور مهذب).
يقول الحق جل وعلا:
والله
محيط بالكافرين "19" (سورة البقرة)
ويقول جل وعلا:
والله
يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم "105"}
سورة البقرة)
ويقول عز وجل:
فسيكفيكهم
الله وهو السميع العليم "137" (سورة البقرة)
فلفظ الجلالة
صار علماً على الذات الإلهية العلية .. علماً على الحق ـ جل وعلا ـ ليدل عليه بذاته
وأسمائه وصفاته دلالة علمية، ولا يستخدم للدلالة على غيره من المعبودات الباطلة،
وهو الاسم الأعظم الذي حوى جميع كمالات صفاته، والذي ليس له فيه سمى أي: شريك في
نفس الاسم.
والحق جل وعلا حين أنزل القرآن، أنزله مقروناً باسم الله سبحانه
وتعالى .. وهي أن تكون البداية باسم الله. إن أول الكلمات التي نطق بها الوحي لمحمد
صلى الله عليه وسلم كانت:
اقرأ باسم ربك الذي خلق
"1"}
سورة العلق)
وهكذا كانت بداية نزول القرآن الكريم ليمارس مهمته في
الكون هي باسم الله .. ونحن الآن نقرأ القرآن بادئين نفس البداية. ولكن هل نحن
مطالبون أن نبدأ فقط تلاوة القرآن باسم الله؟ .. كلا .. إننا مطالبون أن نبدأ كل
عمل باسم الله؛ لأننا لابد أن نحترم عطاء الله في كونه. إنك حين تبدأ كل شيء بسم
الله الرحمن الرحيم .. فإنك تجعل الله في جانبك يعينك. ومن رحمته تبارك وتعالى أنه
علمنا أن نبدأ كل شيء باسمه تعالى؛ لأن "الله" ـ كما قلنا ـ هو الاسم الجامع لكل
صفات الكمال والفعل عادة يحتاج إلي صفات متعددة
..
فأنت حين تبدأ عملا تحتاج
إلي قدرة الله وإلي قوته وإلي عونه وإلي رحمته .. فلو أن الله سبحانه وتعالى لم
يخبرنا بالاسم الجامع لكل الصفات لكان علينا أن نحدد الصفات التي نحتاج إليها، كأن
نقول باسم الله القوي، وباسم الله الرزاق، وباسم الله المجيب، وباسم الله القادر،
وباسم الله النافع .. إلي غير ذلك من الأسماء والصفات التي نريد أن نستعين بها
..
ولكن الله تبارك وتعالى يجعلنا نقول: "بسم الله الرحمن الرحيم" .. الاسم الجامع لكل
هذه الصفات. على أننا لابد أن نقف هنا عند الذين لا يبدأون أعمالهم باسم الله
..
وإنما يريدون الجزاء المادي وحده.إنسان
غير مؤمن لا يبدأ عمله بسم الله .. وإنسان مؤمن يبدأ كل عمل وفي
باله الله .. كلاهما يأخذ من الدنيا لأن الله رب للجميع .. له عطاء ربوبية لكل خلقه
الذين استدعاهم للحياة .. ولكن الدنيا ليست هي الحياة الحقيقية للإنسان .. بل
الحياة الحقيقية هي الآخرة .. الذي في باله الدنيا وحدها يأخذ بقدر عطاء البربوبية
..
بقدر عطاء الله في الدنيا .. والذي في باله الله يأخذ بقده عطاء الله في الدنيا
والآخرة .. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:
الحمد
لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير
"1"}
سورة سبأ)لأن
المؤمن يحمد الله على نعمه في الدنيا .. ثم يحمده
عندما ينجيه من النار والعذاب ويدخله الجنة في الآخرة .. فلله الحمد في الدنيا
والآخرة.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمر
ذي
بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع"
ومعنى أقطع أي مقطوع
الذنب أو الذيل .. أي عمل ناقص فيه شيء ضائع .. لأنك حين لا تبدأ العمل بسم الله قد
يصادفك الغرور والطغيان بأنك أنت الذي سخرت ما في الكون ليخدمك وينفعل لك .. وحين
لا تبدأ العمل ببسم الله .. فليس لك عليه جزاء في الآخرة فتكون قد أخذت عطاءه في
الدنيا .. وبترت أو قطعت عطاءه في الآخرة .. فإذا كنت تريد عطاء الدنيا والآخرة.
أقبل على كل عمل بسم الله .. قبل أن تأكل قل بسم الله لأنه هو الذي خلق لك هذا
الطعام ورزقك به .. عندما تدخل الامتحان قل بسم الله فيعينك على النجاح .. عندما
تدخل إلي بيتك قل بسم الله لأنه هو الذي يسر لك هذا البيت .. عندما تتزوج قل بسم
الله لأنه هو الذي خلق هذه الزوجة وأباحها لك .. في كل عمل تفعله ابدأه بسم الله
..
لأنها تمنعك من أي عمل يغضب الله سبحانه وتعالى .. فأنت لا تستطيع أن تبدأ عملا
يغضب الله ببسم الله.
وكما ينبغي على المسلم المؤمن أن يجعل لسانه رطباً ببسم
الله .. ينبغي عليه أيضاً بحمد الله عز وجل؛ لأنه تبارك وتعالى محمود لذاته ومحمود
لصفاته، ومحمود لنعمه، ومحمود لرحمته، ومحمود لمنهجه، ومحمود لقضائه، الله محمود
قبل أن يخلق من يحمده. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل الشكر له في كلمتين
اثنتين هما الحمد لله.
والعجيب أنك حين تشكر بشرا على جميل فعله تظل ساعات
وساعات .. تعد كلمات الشكر والثناء، وتحذف وتضيف وتأخذ رأي الناس. حتى تصل إلي
قصيدة أو خطاب ملئ بالثناء والشكر. ولكن الله سبحانه وتعالى جلت قدرته وعظمته نعمه
لا تعد ولا تحصى، علمنا أن نشكره في كلمتين اثنتين هما: الحمد لله
..
ولعلنا
نفهم أن المبالغة في الشكر للبشر مكروهة لأنها تصيب الإنسان بالغرور والنفاق وتزيد
العاصي في معاصيه .. فلنقلل من الشكر والثناء للبشر .. لأننا نشكر الله لعظيم نعمه
علينا بكلمتين هما: الحمد لله، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا صيغة الحمد.
فلو أنه تركها دون أن يحددها بكلمتين .. لكان من الصعب على البشر أن يجدوا الصيغة
المناسبة ليحمدوا الله على هذا الكمال الإلهي .. فمهما أوتي الناس من بلاغة وقدرة
على التعبير. فهم عاجزون على أن يصلوا إلي صيغة الحمد التي تليق بجلال المنعم
..
فكيف نحمد الله والعقل عاجز أن يدرك قدرته أو يحصي نعمه أو يحيط برحمته؟
ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعطانا صورة العجز البشري عن حمد
كمال الألوهية لله، فقال: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"
وكلمتا الحمد لله، ساوى الله بهما بين البشر جميعا، فلو أنه ترك الحمد بلا
تحديد، لتفاوتت درجات الحمد بين الناس بتفاوت قدراتهم على التعبير. فهذا أمي لا
يقرأ ولا يكتب لا يستطيع أن يجد الكلمات التي يحمد بها الله. وهذا عالم له قدرة على
التعبير يستطيع أن يأتي بصيغة الحمد بما أوتي من علم وبلاغة. وهكذا تتفاوت درجات
البشر في الحمد .. طبقا لقدرتهم في منازل الدنيا.
ولكن الحق تبارك وتعالى شاء
عدله أن يسوي بين عباده جميعا في صيغة الحمد له .. فيعلمنا في أول كلماته في القرآن
الكريم .. أن نقول "الحمد لله" ليعطي الفرصة المتساوية لكل عبيده بحيث يستوي
المتعلم وغير المتعلم في عطاء الحمد ومن أوتي البلاغة ومن لا يحسن الكلام.
ولذلك
فإننا نحمد الله سبحانه وتعالى على أنه علمنا كيف نحمده وليظل العبد دائما حامدا.
فالله سبحانه وتعالى قبل أن يخلقنا خلق لنا موجبات الحمد من النعم، فخلق لنا
السماوات والأرض وأجد لنا الماء والهواء. ووضع في الأرض أقواتها إلي يوم القيامة
..
وهذه نعمة يستحق الحمد عليها لأنه جل جلاله جعل النعمة تسبق الوجود الإنساني،
فعندما خلق الإنسان كانت النعمة موجودة تستقبله. بل أن الله جل جلاله قبل أن يخلق
آدم أبا البشر جميعا سبقته الجنة التي عاش فيها لا يتعب ولا يشقى. فقد خلق فوجد ما
يأكله وما يشربه وما يقيم حياته وما يتمتع به موجودا وجاهزا ومعدا قبل الخلق
..
وحينما نزل آدم وحواء إلي الأرض كانت النعمة قد سبقتهما. فوجدا ما يأكلانه وما
يشربانه، وما يقيم حياتهما .. ولو أن النعمة لم تسبق الوجود الإنساني وخلقت بعده
لهلك الإنسان وهو ينتظر مجيء النعمة.
بل أن العطاء الإلهي للإنسان يعطيه النعمة
بمجرد أن يخلق في رحم أمه فيجد رحما مستعدا لاستقباله وغذاء يكفيه طول مدة الحمل.
فإذا خرج إلي الدنيا يضع الله في صدر أمه لبنا ينزل وقت أن يجوع ويمتنع وقت أن
يشبع. وينتهي تماما عندما تتوقف فترة الرضاعة. ويجد أبا وأما يوفران له مقومات
حياته حتى يستطيع أن يعول نفسه .. وكل هذا يحدث قبل أن يصل الإنسان إلي مرحة
التكليف وقبل أن يستطيع أن ينطق: "الحمد لله".
وهكذا نرى أن النعمة تسبق المنعم
عليه دائما .. فالإنسان حيث يقول "الحمد لله" فلأن موجبات الحمد ـ وهي النعمة ـ
موجودة في الكون قبل الوجود الإنساني.
والله سبحانه وتعالى خلق لنا في هذا
الكون أشياء تعطي الإنسان بغير قدرة منه ودون خضوع له، والإنسان عاجز عن أن يقدم
لنفسه هذه النعم التي يقدمها الحق تبارك وتعالى له بلا جهد.
فالشمس تعطي الدفء
والحياة للأرض بلا مقابل وبلا فعل من البشر، والمطر ينزل من السماء دون أن يكون لك
جهد فيه أو قدرة على إنزاله. والهواء موجود حولك في كل مكان تتنفس منه دون جهد منك
ولا قدرة. والأرض تعطيك الثمر بمجرد أن تبذر فيها الحب وتسقيه .. فالزرع ينبت بقدرة
الله.
والليل والنهار يتعاقبان حتى تستطيع أن تنام لترتاح، وأن تسعى لحياتك
..
لا أنت أتيت بضوء النهار، ولا أنت الذي صنعت ظلمة الليل، ولكنك تأخذ الراحة في
الليل والعمل في النهار بقدرة الله دون أن تفعل شيئاً.
كل هذه الأشياء لم
يخلقها الإنسان، ولكنه وجدها في الكون تعطيه بلا مقابل ولا جهد منه!
ألا تستحق
هذه النعم أن نقول: الحمد لله على نعمة تسخير الكون لخدمة الإنسان؟
وآيات الله
سبحانه وتعالى في كونه تستوجب الحمد .. فالحياة التي وهبها الله لنا، والآيات التي
أودعها في كونه تدلنا على أن لهذا الكون خالقاً عظيماً .. فالكون بشمسه وقمره
ونجومه وأرضه وكل ما فيه مما يفوق قدرة الإنسان، ولا يستطيع أحد أن يدعيه لنفسه،
فلا أحد مهما بلغ علمه يستطيع أن يدعي أنه خلق الشمس، أو أوجد النجوم، أو وضع
الأرض، أو وضع قوانين الكون، أو أعطى غلافها الجوي، أو خلق نفسه، أو خلق
غيره.
هذه الآيات كلها
أعطتنا الدليل على وجود قوة عظمى، وهي التي أوجدت وهي التي خلقت .. وهذه الآيات
ليست ساكنة، لتجعلنا في سكونها ننساها، بل هي متحركة لتلفتنا إلي خالق هذا الكون
العظيم.
فالشمس تشرق في الصباح فتذكرنا بإعجاز الخالق، وتغيب في المساء لتذكرنا
بعظمة الخالق .. وتعاقب الليل والنهار يحدث أمامنا كل يوم علمنا نلتفت ونفيق
..
والمطر ينزل من السماء ليذكرنا بألوهية من أنزله .. والزرع يخرج من الأرض يسقي بماء
واحد، ومع ذلك فإن كل نوع له لون وله شكل وله مذاق وله رائحة، وله تكوين يختلف عن
الآخر، ويأتي الحصاد فيختفي الثمر والزرع .. ويأتي موسم الزراعة فيعود من جديد.
كل شيء في هذا الكون متحرك ليذكرنا إذا نسينا، ويعلمنا أن هناك خالقاً مبدعاً
..
وأنه لا أحد يستطيع أن يدعي أنه خلق الكون أو خلق شيئا مما فيه .. فالقضية
محسومة لله.
(والحمد
لله) لأنه وضع في نفوسنا الإيمان الفطري، ثم أيده بإيمان
عقلي بآياته في كونه.
كل شيء في هذا الكون يقتضي الحمد، ومع ذلك فإن الإنسان
يمتدح الموجود وينسى الموجد .. فأنت حين ترى زهرة جميلة مثلاً، أو زهرة غاية في
الإبداع .. أو أي خلق من خلق الله، يشيع في نفسك الجمال تمتدح هذا الخلق .. فتقول:
ما أجمل هذه الزهرة، أو هذه الجوهرة، أو هذا المخلوق!!
ولكن المخلوق الذي
امتدحته، لم يعط صفة الجمال لنفسه .. فالزهرة لا دخل لها أن تكون جميلة أو غير
جميلة، والجوهرة لا دخل لها في عظمة خلقها .. وكل شيء في هذا الكون لم يضع الجمال
لنفسه، وإنما الذي وضع الجمال فيه هو الله سبحانه وتعالى، فلا نخلط ونمدح المخلوق
وننسى الخالق .. بل قل: الحمد لله الذي أوجد في الكوم ما يذكرنا بعظمة الخالق ودقة
الخلق.
ومنهج الله سبحانه وتعالى يقتضي منا الحمد، فهو تبارك وتعالى أنزل منهجه
ليرينا طريق الخير، ويبعدنا عن طريق الشر.
فمنهج الله عز وجل الذي أنزله على
رسله قد عرفنا أن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق لنا هذا الكون وخلقنا .. فدقة
الخلق وعظمته تدلنا على عظمة خالقه، ولكنها لا تستطيع أن تقول لنا من هو، ولا ماذا
يريد منا، ولذلك أرسل الله رسله، ليقول لنا: إن الذي خلق هذا الكون وخلقنا هو الله
تبارك وتعالى، وهذا يستوجب الحمد.
ومنهج الله يبين لنا ماذا يريد الحق منا،
وكيف نعبده .. وهذا يستوجب الحمد، ومنهج الله جل جلاله أعطانا الطريق وشرع لنا
أسلوب حياتنا تشريعاً حقاً .. فالله تبارك وتعالى لا يفرق بين أحد منا .. ولا يفضل
أحداً على أحد إلا بالتقوى، فكلنا خلق متساوون أمام عدله المطلق. إذن: فشريعة الحق،
وقول الحق، وقضاء الحق هو من الله، أما تشريعات الناس فلها هوى، تميز بعضاً عن بعض
..
وتأخذ حقوق بعض لتعطيها للآخرين، ولذلك نجد في كل منهج بشرى ظلماً بشرياً.
ولكن الله سبحانه وتعالى يعطينا ولا يأخذ منا، عنده خزائن كل شيء مصداقا لقوله
جل جلاله:وإن
من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله
إلا بقدر معلوم "21" (سورة الحجر)
فالله سبحانه وتعالى دائم العطاء
لخلقه، والخلق يأخذون دائماً من نعم الله، فالعبودية لله تعطيك ولا تأخذ منك شيئاً،
وهذا يستوجب الحمد..
والله سبحانه وتعالى في عطائه يجب أن يطلب منه الإنسان،
وأن يدعوه، وأن يستعين به، وهذا يستوجب الحمد؛ لأنه يقينا الذل في الدنيا. فأنت إن
طلبت شيئاً من صاحب نفوذ، فلابد أن يحدد لك موعداً أو وقت الحديث ومدة المقابلة،
وقد يضيق بك فيقف لينهي اللقاء .. ولكن الله سبحانه وتعالى بابه مفتوح دائماً
..
فأنت بين يديه عندما تريد، وترفع يديك إلي السماء وتدعو وقتما تحب، وتسأل الله ما
تشاء، فيعطيك ما تريده إن كان خيراً لك .. ويمنع عنك ما تريده إن كان شراً لك.
والله سبحانه وتعالى يستوجب الحمد حينما يطلب منك أن تدعوه، وأن تسأله فيقول:
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن
عبادتي سيدخلون جهنم داخرين "60" (سورة غافر)
ويقول سبحانه وتعالى:
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي
إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون "186" (سورة البقرة)
والله سبحانه وتعالى يعف ما في نفسك، ولذلك فإنه يعطيك دون تسأل، واقرأ الحديث
القدسي:
يقول رب العزة:
"من
شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي
السائلين".
والله سبحانه وتعالى عطاؤه لا ينفذ، وخزائنه لا تفرغ، فكلما سألته
جل جلاله كان لديه المزيد، ومهما سألته فإنه لا شيء عزيز على الله سبحانه وتعالى،
إذا أراد أن يحققه لك .. واقرأ قول الشاعر:
حسب نفسي عزا بأني عبد هو فـي
قدســه الأعـــز ولكــن
يحتفي بي بلا مواعيد رب أنا ألقي متى وأين أحب
إذن: عطاء الله سبحانه وتعالى يستوجب الحمد .. ومنعه العطاء يستوجب الحمد.
ووجود الله سبحانه وتعالى الواجب الوجود يستوجب الحمد .. فالله سبحانه يستحق
الحمد لذاته، ولولا عدل الله لبغى الناس في الأرض وظلموا، ولكن يد الله تبارك
وتعالى حين تبطش بالظالم تجعله عبرة .. فيخاف الناس الظلم .. وكل من أفلت من عقاب
الدنيا على معاصيه وظلمه واستبداده سيلقى الله في الآخرة ليوفيه حسابه .. وهذا يوجب
الحمد .. أن يعرف المظلوم أنه سينال جزاءه فتهدأ نفسه ويطمئن قلبه أن هناك يوما
سيرى فيه ظالمه وهو يعذب في النار .. فلا تصيبه الحسرة، ويخف إحساسه بمرارة الظلم
حين يعرف أن الله قائم على كونه لن يفلت من عدله أحد. وعندما نقول: (الحمد لله)
فنحن نعبر عن انفعالات متعددة .. وهي في مجموعها تحمل العبودية والثناء والشكر
والعرفان .. وكثير من الانفعالات التي تملأ النفس عندما تقول: (الحمد لله) كلها
تحمل الثناء العاجز عن الشكر لكمال الله وعطائه .. هذه الانفعالات تأتي وتستقر في
القلب .. ثم تفيض من الجوارح على الكون كله.
فالحمد ليس ألفاظاً تردد باللسان،
ولكنها تمر أولاً على العقل الذي يعي معنى النعم .. ثم بعد ذلك تستقر في القلب
فينفعل بها .. وتنتقل إلي الجوارح فأقوم وأصلي لله شاكراً ويهتز جسدي كله، وتفيض
الدمعة من عيني، وينتقل هذا الانفعال كله إلي من حولي.
ونحاول توضيح ذلك..
هب أنني في أزمة أو كرب أو موقف سيؤدي إلي فضيحة .. وجاءني من يفرج كربي
فيعطيني مالاً أو يفتح لي طريقاً .. أول شيء أنني سأعقل هذا الجميل، فأقول: إنه
يستحق الشكر .. ثم ينزل هذا المعنى إلي قلبي فيهتز القلب إلي صانع هذا الجميل .. ثم
تنفعل جوارحي لأترجم هذه العاطفة إلي عمل جميل يرضيه، ثم أحدث الناس عن جميله وكرمه
فيسارعون إلي الالتجاء إليه، فتتسع دائرة الحمد وتنزل النعم على الناس .. فيمرون
بنفس ما حدث لي فتتسع دائرة الشكر والحمد..
والحمد لله تعطينا المزيد من النعم
مصداقاً لقوله تبارك وتعالى:
وإذ تأذن ربكم لئن
شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد "7" (سورة إبراهيم)
وهكذا
نعرف أن الشكر على النعمة يعطينا مزيداً من النعمة .. فنشكر عليها فتعطينا المزيد،
وهكذا يظل الحمد دائماً والنعمة دائمة.
إننا لو استعرضنا حياتنا كلها .. نجد أن
كل حركة فيها تقتضي الحمد، عندما ننام ويأخذ الله سبحانه وتعالى أرواحنا، ثم يردها
إلينا عندما نستيقظ، فإن هذا يوجب الحمد، فالله سبحانه وتعالى يقول:
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك
التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلي أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون "42"
}
سورة الزمر)
وهكذا فإن مجرد أن نستيقظ من النوم، ليرد الله علينا
أرواحنا يستوجب الحمد، فإذا قمنا من الفراش فالله سبحانه وتعالى هو الذي أعطانا
القدرة على الحركة والنهوض، ولولا عطاؤه ما استطعنا أن نقوم .. وهذا يستوجب الحمد..
فإذا تناولنا إفطارنا، فالله هو الذي هيأ لنا من فضله هذا الطعام، فإذا نزلنا
إلي الطريق يسر الله لنا ما ينقلنا إلي مقر أعمالنا، وإذا تحدثنا مع الناس فالله
سبحانه وتعالى هو الذي أعطى ألسنتنا القدرة على النطق بما وهبه الله لنا من قدرة
على التعبير والبيان، وهذا يستوجب الحمد.
وإذا عدنا إلي بيوتنا، فالله سخر لنا
زوجاتنا ورزقنا بأولادنا، وهذا يستوجب الحمد.
إذن: فكل حركة في حياة في الدنيا
من الإنسان تستوجب الحمد، ولهذا لابد أن يكون الإنسان حامداً دائماً، بل إن الإنسان
يجب أن يحمد الله على أي مكروه أصابه؛ لأن الشيء الذي يعتبره شراً يكون عين الخير،
فالله تعالى يقول:
فعسى
أن تكرهوا شيئاً ويجعل
الله فيه خيراً كثيراً "19" (سورة النساء)
إن من البشر من إذا تحدثت
عنه قدر ما استطعت لن توفيه حقه وتعرف له قدره كأنبياء الله ورسله عليهم الصلاة
والسلام، فماذا إذا كان الحديث عن الله جل وعلا؟
سوف يتحدث المتحدثون عن الحق
تبارك وتعالى حتى تقوم الساعة، ومع ذلك فسوق يظلون في إطار قوله تعالى:
ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز "74" (سورة
الحج)
وقوله تعالى:
وما قدروا الله حق
قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما
يشركون "67" (سورة الزمر)