عبد
الرحمن بن عوف - ما يبكيك يا أبا محمد
الرحمن بن عوف - ما يبكيك يا أبا محمد
ذات يوم، والمدينة ساكنة
هادئة، أخذ يقترب من مشارفها نقع كثيف، راح يتعالى ويتراكم حتى كاد يغطي
الأفق.
ودفعت الريح هذه الأمواج من الغبار المتصاعد من رمال الصحراء
الناعمة، فاندفعت تقترب من أبواب المدينة، وتهبّ هبوبا قويا على مسالكها.
وحسبها الناس عاصفة تكنس الرمال وتذروها، لكنهم سرعان ما سمعوا وراء ستار
الغبار ضجة تنبئ عن قافلة كبيرة مديدة.
ولم يمض وقت غير وجيز، حتى كانت
سبعمائة راحلة موقرة الأحمال تزحم شوارع المدينة وترجّها رجّا، ونادى الناس بعضهم
بعضا ليروا مشهدها الحافل، وليستبشروا ويفرحوا بما تحمله من خير
ورزق..
**
وسألت أم المؤمنين عائشة رضي
الله عنها، وقد ترتمت الى سمعها أصداء القافلة الزاحفة..
سألت: ما هذا الذي
يحدث في المدينة..؟
وأجيبت: انها قافلة لعبدالرحمن بن عوف جاءت من الشام
تحمل تجارة له..
قالت أم المؤمنين:
قافلة تحدث كل هذه
الرّجّة..؟!
أجل يا ام المؤمنين.. انها سبعمائة راحلة..!!
وهزت أم
المؤمنين رأسها، وأرسلت نظراتها الثاقبة بعيدا، كأنها تبحث عن ذكرى مشهد رأته، أو
حديث سمعته..
"أما اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
رأيت
عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا"..
**
عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنة
حبوا..؟
ولماذا لا يدخلها وثبا هرولة مع السابقين من أصحاب رسول
الله..؟
ونقل بعض أصحابه مقالة عائشة اليه، فتذكر أنه سمع من النبي صلى الله
عليه وسلم هذا الحديث أكثر من مرة، وبأكثر من صيغة.
وقبل أن تفضّ مغاليق
الأحمال من تجارته، حث خطاه الى بيت عائشة وقال لها: لقد ذكّرتيني بحديث لم
أنسه..
ثم قال:
" أما اني أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها،
وأقتابها، وأحلاسها، في سبيل الله عز وجل"..
ووزعت حمولة سبعمائة راحلة على
أهل المدينة وما حولها في نهرجان برّ عظيم..!!
هذه الواقعة وحدها، تمثل
الصورة الكاملة لحياة صاحب رسول الله عبدالرحمن بن عوف".
فهو التاجر الناجح،
أكثر ما يكون النجاح وأوفاه..
وهو الثري، أكثر ما يكون الثراء وفرة
وافراطا..
وهو المؤمن الأريب، الذي يأبى أن تذهب حظوظه من الدين، ويرفض أن
يتخلف به ثراؤه عن قافلة الايمان ومثوبة الجنة.. فهو رضي الله عنه يجود بثروته في
سخاء وغبطة ضمير..!!
**
متى وكيف دخل هذا العظيم
الاسلام..؟
لقد أسلم في وقت مبكر جدا..
بل أسلم في الساعات الأولى
للدعوة، وقبل أن يدخل رسول الله دار الأرقم ويتخذها مقرا لالتقائه بأصحابه
المؤمنين..
فهو أحد الثمانية الذن سبقوا الى الاسلام..
عرض عليه
أبوبكر الاسلام هو وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن
أبي وقاص، فما غمّ عليهم الأمر ولا أبطأ بهم الشك، بل سارعوا مع الصدّيق الى رسول
الله يبايعونه ويحملون لواءه.
ومنذ أسلم الى أن لقي ربه في الخامسة والسبعين
من عمره، وهو نموذج باهر للمؤمن العظيم، مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يضعه مع
العشرة الذين بشّرهم بالجنة.. وجعل عمر رضي الله عنه يضعه مع أصحاب الشورى الستة
الذين جعل الخلافة فيهم من بعده قائلا:" لقد توفي رسول الله وهو عنهم
راض".
وفور اسلام عبدالرحمن بن عوف حمل حظه المناسب، ومن اضطهاد قريش
وتحدّياتها..
وحين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة الى الحبشة
هاجر ابن عوف ثم عاد الى مكة، ثم هاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية ثم هاجر الى
المدينة.. وشهد بدرا، وأحدا، والمشاهد كلها..
**
وكان محظوظا في التجارة الى
حدّ أثار عجبه ودهشه فقال:
" لقد رأيتني، لو رفعت حجرا، لوجدت تحت فضة
وذهبا"..!!
ولم تكن التجارة عند عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه شرها ولا
احتكارا..
بل لم تكن حرصا على جمع المال شغفا
بالثراء..
كلا..
انما كانت عملا، وواجبا يزيدهما النجاح قربا من
النفس، ومزيدا من السعي..
وكان ابن عوف يحمل طبيعة جيّاشة، تجد راحتها في
العمل الشريف حيث يكون..
فهو اذا لم يكن في المسجد يصلي، ولا في الغزو يجاهد
فهو في تجارته التي نمت نموا هائلا، حتى أخذت قوافله تفد على المدينة من مصر، ومن
الشام، محملة بكل ما تحتاج اليه جزيرة العرب من كساء وطعام..
ويدلّنا على
طبيعته الجيّاشة هذه، مسلكه غداة هجر المسلمين الى المدينة..
لقد جرى نهج
الرسول يومئذ على أن يؤاخي بين كل اثنين من أصحابه، أحدهما مهاجر من مكة، والآخر
أنصاري من المدينة.
وكانت هذه المؤاخات تم على نسق يبهر الألباب، فالأنصاري
من أهل المدينة يقاسم أخاه المهاجر كل ما يملك.. حتى فراشه، فاذا كان تزوجا باثنين
طلق احداهما، ليتزوجها أخوه..!!
ويومئذ آخى الرسول الكريم بين عبدالرحمن بن
عوف، وسعد بن الربيع..
ولنصغ للصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه يروي
لنا ما حدث:
" .. وقال سعد لعبدالرحمن: أخي، أنا أكثر أهل المدينة مالا،
فانظر شطر مالي فخذه!!
وتحتي امرأتان، فانظر أيتهما أعجب لك حتى أطلقها،
وتتزوجها..!
فقال له عبدالرحمن بن عوف:
بارك الله لك في أهلك
ومال..
دلوني على السوق..
وخرج الى السوق، فاشترى.. وباع..
وربح"..!!
وهكذا سارت حياته في المدينة، على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم وبعد وفاته، أداء كامل لحق الدين، وعمل الدنيا.. وتجارة رابحة ناجحة، لو رفع
صاحبها على حد قوله حجرا من مكانه لوجد تحته فضة وذهبا..!!
ومما جعل تجارته
ناجحة مباركة، تحرّيه الحلال، ونأيه الشديد عن الحرام، بل عن الشبهات..
كذلك
مما زادها نجاخا وبركة أنها لم تكن لعبدالرحمن وحده.. بل كان لله فيها نصيب أوفى،
يصل به أهله، واخوانه، ويجهّز به جيوش الاسلام..
واذا كانت الجارة
والثروات، انما تحصى بأعداد رصيدها وأرباحها فان ثروة عبدالرحمن بن عوف انما تعرف
مقاديرها وأعدادها بما كان ينفق منها في سبيل الله رب العالمين..!!
لقد سمع
رسول الله يقول له يوما:
" يا بن عوف انك من الأغنياء..
وانك ستدخل
الجنة حبوا..
فأقرض الله يطلق لك قدميك"..
ومن سمع هذا النصح من رسول
الله، وهو يقرض ربه قرضا حسنا، فيضاعفه له أضعافا كثيرة.
باع في يوم أرضا
بأربعين ألف دينار، ثم فرّقها في أهله من بني زهرة، وعلى أمهات المؤمنين، وفقراء
المسلمين.
وقدّم يوما لجيوش الاسلام خمسمائة فرس، ويوما آخر الفا وخمسمائة
راحلة.
وعند موته، أوصى بخمسن ألف دينار في سبيل الله، وأ،صى لكل من بقي ممن
شهدوا بدرا بأربعمائة دينار، حتى ان عثمان بن عفان رضي الله عنه، أخذ نصيبه من
الوصية برغم ثرائه وقال:" ان مال عبدالرحمن حلال صفو، وان الطعمة منه عافية
وبركة".
**
كان ابن عوف سيّد ماله ولم يكن
عبده..
وآية ذلك أنه لم يكن يشقى بجمعه ولا باكتنازه..
بل هو يجمعه
هونا، ومن حلال.. ثم لا ينعم به وحده.. بل ينعم به معه أهله ورحمه واخوانه ومجتمعه
كله.
ولقد بلغ من سعة عطائه وعونه أنه كان يقال:
" أهل المدينة جميعا
شركاء لابن عوف في ماله.
" ثلث يقرضهم..
وثلث يقضي عنهم
ديونهم..
وثلث يصلهم ويعطيهم.."
ولم كن ثراؤه هذا ليبعث الارتياح
لديه والغبطة في نفسه، لو لم يمكّنه من مناصرة دينه، ومعاونة اخوانه.
أما
بعد هذا، فقد كان دائم الوجل من هذا الثراء..
جيء له يوما بطعام الافطار،
وكان صائما..
فلما وقعت عيناه عليه فقد شهيته وبكى وقال:
" استشهد
مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفّن في بردة ان غطت رأسه، بدت رجلاه، وان غطت رجلاه
بدا رأسه.
واستشهد حمزة وهو خير مني، فلم يوجد له ما يمفن فيه الا
بردة.
ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وأعطينا منها ما أعطينا واني لأخشى أن
نكون قد عجّلت لنا حسناتنا"..!!
واجتمع يوما نع بعض أصحابه على طعام
عنده.
وما كاد الطعام يوضع أمامهم حتى بكى وسألوه:
ما يبكيك يا أبا
محمد..؟؟
قال:
" لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبع هو
وأهل بيته من خبز الشعير..
ما أرانا أخرنا لم هو خير لنا"..!!
كذلك
لم يبتعث ثراؤه العريض ذرة واحدة من الصلف والكبر في نفسه..
حتى لقد قيل عنه:
انه لو رآه غريب لا يعرفه وهو جالس مع خدمه، ما استطاع أ، يميزه من
بينهم..!!
لكن اذا كان هذا الغريب يعرف طرفا من جهاد ابن عوف وبلائه، فيعرف مثلا
أنه أصيب يوم أحد بعشرين جراحة، وان احدى هذه الاصابات تركت عرجا دائما في احدى
ساقيه.. كما سقطت يوم أحد بعض ثناياه. فتركت همّا واضحا في نطقه
وحديثه..
عندئذ لا غير، يستطيع هذا الغريب أن يعرف أن هذا الرجل الفارع
القامة، المضيء الوجه، الرقيق البشرة، الأعرج، الأهتم من جراء اصابته يوم أحد هو
عبدالرحمن بن عوف..!!
رضي الله عنه وأرضاه..
**
لقد عوّدتنا طبائع البشر أن
الثراء ينادي السلطة...
أي أن الأثرياء يحبون دائما أن يكون لهم نفوذ يحمي
ثراءهم ويضاعفه، ويشبع شهوة الصلف والاستعلاء والأنانية التي يثيرها الثراء
عادة..
فاذا رأينا عبدالرحمن بن عوف في ثرائه العريض هذا، رأينا انسانا عجبا
يقهر طبائع البشر في هذا المجال ويتخطاها الى سموّ فريد..!
حدث ذلك عندما
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجود بروحه الطاهرة، ويختار ستة رجال من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ليختاروا من بينهم الخليفة الجديد..
كانت الأصابع
تومئ نحو ابن عوف وتشير..
ولقد فاتحه بعض الصحابة في أنه أحق الستة
بالخلافة، فقال:
" والله، لأن تؤخذ مدية، فتوضع في حلقي، ثم ينفذ بها الى
الجانب الآخر أحب اليّ من ذلك"..!!
وهكذا لم يكد الستة المختارون يعقدون
اجتماعهم ليختاروا أحدهم خليفة بعد الفاروق عمر حتى أنبأ اخوانه الخمسة الآخرين أنه
متنازل عن الحق الذي أضفاه عمر عليه حين جعله أحد الستة الذين يختار الخليفة منهم..
وأنّ عليهم أن يجروا عملية الاختيار بينهم وحدهم أي بين الخمسة
الآخرين..
وسرعان ما أحله هذا الزهد في المنصب مكان الحكم بين الخمسة
الأجلاء، فرضوا أن يختار هو الخليفة من بينهم، وقال الامام علي:
" لقد سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفك بأنك أمين في أهل السماء، وأمين في أهل
الأرض"..
واختار ابن عوف عثمان بن عفان للخلافة، فأمضى الباقون
اختياره.
**
هذه حقيقة رجل ثري في
الاسلام..
فهل رأيتم ما صنع الاسلام به حتى رفعه فوق الثرى بكل مغرياته
ومضلاته، وكيف صاغه في أحسن تقويم..؟؟
وها هو ذا في العام الثاني والثلاثين
للهجرة، يجود بأنفاسه..
وتريد أم المؤمنين عائشة أن تخصّه بشرف لم تختصّ به
سواه، فتعرض عليه وهو على فراش الموت أن يدفن في حجرتها الى جوار الرسول وأبي بكر
وعمر..
ولكنه مسلم أحسن الاسلام تأديبه، فيستحي أن يرفع نفسه الى هذا
الجوار...!!
ثم انه على موعد سابق وعهد وثيق مع عثمان بن مظعون، اذ تواثقا
ذات يوم: أيهما مات بعد الآخر يدفن الى جوار صاحبه..
**
وبينما كانت روحه تتهيأ
لرحلتها الجديدة كانت عيناه تفيضان من الدمعو ولسانه يتمتم ويقول:
" اني
أخاف أن أحبس عن أصحابي لكثرة ما كان لي من مال"..
ولكن سكينة الله سرعان ما
تغشته، فكست وجهه غلالة رقيقة من الغبطة المشرقة المتهللة المطمئنة..
وأرهفت
أذناه للسمع.. كما لو كان هناك صوت عذب يقترب منهما..
لعله آنئذ، كان يسمع
صدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم له منذ عهد بعيد:
" عبدالرحمن بن عوف في
الجنة"..
ولعله كان يسمع أيضا وعد الله في كتابه..
( الذين ينفقون
أموالهم في سبيل الله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذى، لهم أجرهم عند ربهم
ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)..